الدين والسلطة في العراق: زواج كاثوليكي غير معلن

العراق

الدين والسلطة في العراق: زواج كاثوليكي غير معلن


05/11/2018

شهورٌ قليلة تلتْ سقوطِ نظام صدام حسين على يدِّ قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا العام 2003، حتى شهدت أروقة محلة البُراق النجفية (محل سكن السيستاني)، رواجاً جماهيرياً لأتباع المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني تطالبهُ بالتدخلِ لتشكيلِ الواقع السياسي الجديد.

المرجع السيستاني على غرار أُستاذهِ المرجع الشيعي الأكبر أبو القاسم الخوئي (ت 1992)، من المناوئين لنظريةِ ولاية الفقيه العامة، الميزةُ السيستانية، تكمنُ بتدخلها في إعادة البوصلة إلى مسارها الصحيح حيال تعرض البلاد إلى خطرٍ عامٍ تتطلبُ استدعاءَ صاحبها، كما يذكر حيدر نزار، في "سلطة النصّ الديني وبناء الدولة، السيد السيستاني أُنموذجاً"، وهذا ما لاحظهُ وشهدهُ العراقيون إبانَ مطالبته بالانسحاب الأمريكي وكتابة الدستور بأيدٍ عراقية، ودعوته إلى توليف حكومة وطنية منتخبة عبر صناديق الاقتراع.

السيستاني ضحية الأعراف والأسر الدينية

تنتمي أبرز قيادات الإسلام السياسي الشيعي في العراق، إلى الأُسر الدينية العلمائية بالنجف؛ إذ تعاضد الأخيرة المرجع السيستاني في قيادتهِ لدفة المؤسسة الدينية. ومن أبرز تلك الأًسر، هم (آل الحكيم) و (آل بحر العلوم) و(آل الصدر) فضلاً عن ذاتي المرجِّعين، الأفغاني (محمد إسحاق الفياض) والباكستاني (بشير النجفي). ومجمل هذه الأُسر قائمة على التداخل العائلي والمصاهرة الزوجية والإسناد الجهوي في دعم كوادرها داخل المؤسستين الدينيةِ والسياسيةِ معاً.

فتوى الجهاد الكفائي دفعت داعش عن المحافظات الشيعية ..والمرجعية نأت بنفسها عن صراعات محاور الحشد الشعبي

مساعي السيستاني في قيام أول انتخابات ديمقراطية على أنقاض الاحتلال الأمريكي، قذفت بمرجعيتهِ إلى الميدان السياسي الخاص، ما جعلها مطبخاً سياسياً أنتج أول ائتلاف سياسي شيعي، سُمـيَّ بـ(الائتلاف العراقي الموحد)، وشكَّلَتْ الأجنحة السياسية للأسر الدينية أعمِدةَ ذلك الائتلاف، حيث شرع وكلاء المرجع الأعلى حينها على الترويج له انتخابياً، ما جعلهُ يقبضُ بتلابيب السلطة طيلة سنيّ التغيير، ليولد فيما بعد تخادماً نفعياً بين زعاماتِ التشيُّع الأصولي والسياسي في آن.

إخفاقاتُ الحكومات المنبثقة عن التحالف الشيعي؛ سياسياً وأمنياً وخدمياً، جعلت مقام المرجعية عرضةً لنقدِ الجماهير المحتجة على ذلك الأداء، لتشكل وعياً متمرداً حمَلها مسؤولية تمكين الزعامات الشيعية من السلطة، لدى رعايتها لهم في أول دورتين انتخابيتين، ليقع الأب الروحي للطائفة بين ناريْ جماهيرهِ الناقدة، ومحاباةِ الأُسر الدينية التي تسانده في استقرار الكيان المرجعي.

المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني

مكتسبات المؤسسة الدينية

تتجلّى مكتسبات المؤسسة النجفية خلال حكم التشيع السياسي على تضمينِ مادةٍ دستوريةٍ تؤكدُ أنّ (الإسلام مصدرٌ رئيسيٌ في التشريع)، كما يذكر حامد الخفاف، في "النصوص الصادرة عن السيد السيستاني في المسألة العراقية"، وزجّت المؤسسة وقتها ممثلاً لها داخل البرلمان واللجنة النيابية المكلفة بكتابة الدستور الجديد. حيث ساهم ممثلها أحمد الصافي مع باقي رفاق المذهب في التحالف الشيعي على منع مساعي العلمانيين العراقيين في جعل الدين الإسلامي (أحد مصادر التشريع في الدستور). وكان ذلك أول انتصارٍ تجنيه المؤسسة الدينية من العملية السياسية الفتية.

اقرأ أيضاً: عطش البصرة والصراع على السلطة يخنقان العراق

التلاقح الثقافي العقائدي بين المؤسسة الدينية وجمهورها، لا يتم إلا عبرَ منبر العزاء الحسيني، والأخير مُـنِـعَ رسمياً في عهد صدام حسين، لاستغلالهِ سياسياً من قبل معارضيه من السياسيين الشيعة. وخشيّة المؤسسة من تكرار القمع السلطوي للشعائر الحسينية، قادها إلى تضمينِ ذلك دستورياً من خلال مادة تؤمنُ ممارسةَ الحريات الدينية والحسينية، أي أفردت اللجنة النيابية اللفظ الحسيني عن اللفظ الديني داخل الدستور، بناءً على طلب الأغلبية الشيعية وممثل النجف في البرلمان.

المراقد المقدسة .. إمبراطورية مالية

لم تكتف المؤسسة الدينية بهذين المكتسبين، بل راح التخادم النفعي يسعى إلى حماية همينتها على إدارة العتبات الشيعية المقدسة. والعتبات ذاتها إمبراطورية مالية تعاضد الموارد النفطية في تكوين اقتصاد العراق. الحكومة الأولى للتحالف الشيعي عملت على تفكيك وزارة الأوقاف الدينية إلى عدةِ دواوين شيعية وسنية ومسيحية وأقليات أخرى، وكل ديوان بمثابةِ وزارة ترتبطُ قانونياً برئاسة الوزراء. وفي كل تشكيل حكومي جديد، ترشح البابوية النجفية مندوبها للمنصب دون أن يمر بالموافقة النيابية، ويحصل التوزير عبر اتفاق يجري بين رئيس الوزراء والنجف حصراً، لتخضع إدارة الاوقاف الشيعية إلى توازنٍ إداري بين الأُسر الدينية البارزة.

المالكي يصلي خلف الشاهرودي

تغول كوادر الفاتيكان الشيعي في العتبات، جعل من الأخيرة سلطةً تفوقُ السلطات المحلية في محافظاتها، فضلاً عن دخولها الغامض في القطاع الاستثماري والتجاري في تلك المحافظات. وتمتلك إدارتا العتبتين الحسينية والعباسية أكبر مصانع لإنتاج المواد الغذائية واللحوم، ولها استثماراتٌ واسعةٌ في القطاع الصحي، إلى جانب شركات الهاتف النقال، وغيرها من المشاريع التي تساهم بضرب القطاعات الحكومية في ذلك الميدان.

المرجعية والمالكي تحالف ثم انقلاب

إسهاماتُ حكومة إبراهيم الجعفري (2005م) في تغذية الحرب الأهلية، جعلت المؤسسة الشيعية تقودُ بوصلة التغيير لمرشحٍ آخر لرئاسة الحكومة الجديدة، ارتضت المرجعية بترشيح نوري المالكي القادم من عوالم الصدفة السياسية لمنصب رئيس الوزراء. انتصار الصدريين لترشيح المالكي على حسابِ غريمهِ (عادل عبد المهدي)، مكنهم من السلطةِ فعلياً بعدما كانوا ميلشياتٍ مسلحةً مطلوبةً لمراكز القرار الدولي والمحلي، جراء تحويلهم المدن الشيعية الى مسارحٍ لتراجيديا الحرب المباغتة.

القوانين الإسلامية وواردات العتبات المقدسة أولى مكتسبات المؤسسة الدينية من النظام السياسي الجديد في العراق

خلق التيار الصدري سلطةً موازيةً لحكومة المالكي المركزية في وسط وجنوب البلاد، استدعت الأخير لشنِ حربٍ عسكريةٍ مصحوبةٍ بدعمٍ شعبيٍّ ودينيّ، أطاحت بنفوذِ المتمردين الشيعة. وفور انتهاء معارك "صولة الفرسان" ارتفعت حظوة الرئيس الجديد لدى الفاتيكان الشيعي، وتبنت منابر الجمعة والإعلامين؛ الدينيِّ والسياسي، خطابهُ بضرورةِ فرضِ القانون وانصياع الجميع لقرار الشرعية الحاكمة. 

ومع قدوم موسم الانتخابات المحلية، انقلب زعيم حزب الدعوة الإسلامية على أبرز حلفائهِ من ساسةِ البيتِ الشيعي. اكتساحه الانتخابي على حساب رفاق الأمس قادهُ إلى ممارسة غطرسة سياسية اتضحت بُعيد ولايتهِ الثانية. ولايةٌ متخبطة تخللها صراعٌ خفيّ بين المؤسسة الدينية والمالكي، بانَ واضحاً في خُطبِ ممثلي السيستاني بمنابر جمعة كربلاء.

العتبات المقدسة في كربلاء

المالكي يغازل طهران على حساب النجف

تمردُ رئيس الوزراء السابق على المراجع النجفيين، وسحب امتيازات أُسرهم الدينية، انبثق عن عصبيات حزبه الفكرية المؤمنة بأنّ (الداعية يقود ولا يُقاد).  وبعد ثورات "الربيع العربي"، غازل المالكي محور ولاية الفقيه الإيراني، وقدم للإيرانيين تسهيلاتٍ جمة، عززت رغبة "عمائم طهران" باختراق المؤسسة النجفية لتعزيز نفوذها في كيان المرجعية القادمة بعد رحيل السيستاني. وذلك تمثل بمنح رئيس الحكومة الأسبق، تسهيلات لفتحِ مكاتبٍ لمرجعية آية الله محمود الشاهرودي (رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني)، وهي خطوةٌ أثارتْ غضبَ وامتعاض المرجعيات النجفية التي بدورها قاطعت حفل افتتاح مكتب الشاهرودي في النجف، لتذهب المؤسسة الدينية، إلى استثمار تراجع الأداء الحكومي في مناغاةِ مشاعرِ المحتجين على السلوكيات الحكومية القائمة آنذاك، وفي أيار (مايو) العام 2014، انتصر المالكي في الانتخابات ثانياً، عبر فاعلية الصراع المذهبي في العراق، وهو ما جعل الفاتيكان النجفي يستدعي ذاكرة الدكتاتورية الصدامية، ولكن هذه المرة بنسختها المالكية، مخاوفٌ قادت المؤسسة الى وضع فيتو أمام تولي زعيم ائتلاف دولة القانون السلطة مجدداً. 

فتوى الجهاد الكفائي .. وطنية بدافع ديني

أعوام عدة يسيطر إرهابيو "القاعدة" سابقاً و"داعش" لاحقاً على المناطق الصحراوية في غرب العراق، لكنّ الخطورة تجلت لحظة سقوط مدينتي الموصل وصلاح الدين، بيد تنظيم داعش في حزيران (يونيو) العام 2014، جسامة الخطورة ارتفعت عند تهديد التنظيم، من على أسوار العاصمة بغداد، وعبر ناطقها الرسمي (أبو محمد العدناني)، الأضرحة الشيعية المقدسة بالهدمِ والإبادة.

تهديدٌ قابلتهُ مرجعية السيستاني بإعلانها فتوى الجهاد الكفائي، للذودِ عن خطر الإرهابيين عن النجف وكربلاء وباقي المدن. وتضمنت الفتوى السيستانية وجوب الدفاع عن الوطن والمقدسات، ليقع الساسة الحكوميون الشيعة يتقدمهم المالكي، في أمية الدرس الوطني، داعين الشباب إلى التطوع للدفاع عن المقدس العقائدي دون ذكر الحرمة الوطنية في بياناتهم. حافظ المرجع الشيعي الأعلى بفتواه على الصروح الروحية لطائفته، نائياً بنفسه عن صراح الفصائل الإيرانية والنجفية داخل مؤسسة الحشد الشعبي لاحقاً. 

نص فتوى الجهاد الكفائي

المرجعية والعبادي .. تكرار التجربة السابقة

انشقاق الدعاة بشأن ضياعِ السلطةِ منهم، جعلهم يستفتون المرجع السيستاني حيال بقاء المالكي في السلطةِ من عدمه، لينصحهم المرجع الأعلى بضرورة تغيير مرشحهم لرئاسة الحكومة المقبلة. نزاعات الدعاة الحزبية مع المالكي قادتهم إلى تسريب نصيحة السيستاني بضرورة التخلي عن ترشيحه مجدداً إلى وسائل الإعلام كافة، للخلاص من دكتاتورية أمين عام حزبهم واسقاطه شعبياً، مستثمرين نصيحة الأب الروحي في تغذية مشاعر الرفض للولاية الثالثة.

اقرأ أيضاً: البصرة: هل تكون الثورة من أجل الحياة مقدمةً لنهاية الطائفية؟

ترشيح الدعاة، حيدر العبادي لإناطته مهمة رئاسة الوزراء، وتشكيل حكومته على أساس التحاصص السياسي والحزبوي، أسفرا عن تظاهراتٍ شعبيةٍ قادها شبابٌ مدنيون، طالبت الرئيس الجديد بضرورة الإصلاح، ما أدى إلى تعاطف الأغلبية الصامتة مع المتظاهرين وازدياد الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح داخل العمق الشيعي ومحيط المرجعية أيضاً.

وساندت المرجعية بدورها موجة الاحتجاجات المطالبة بالتغيير، وعززت مكانتها الأبوية مجدداً بتبنّي خطاب الجمهور الداعي إلى الفساد. واقتنص العبادي وقتها نصيحة المرجعية (اضرب بيد من حديد)، بالالتفاف على حلفائه المتحاصصين لمناصب الدولة، ما قاده إلى التراجع عن خطة الإصلاح المعدة سلفاً لدى شعوره بتهديد الكتل النيابية لإسقاط حكومته في أولى جولات النزاع النيابي معه.

جانب من الاحتجاجات على سوء الخدمات

العبادي والحسابات الخاطئة

ظنّ رئيس الوزراء الجديد، آنذاك، أنّ تحرير المدن المحتلة من داعش، سيقودهُ الى نصرٍ انتخابي يمهدُ له الولاية الثانية، لكنه اصطدمَ بالإحباطِ  الشعبي جراء تنصّل حكومته عن وعود توفير الخدمات وفرص العمل، وأثر ذلك بشكل واسع على أصواتهِ الانتخابية، بعدما قاطع حوالي 50% من العراقيين الانتخابات، ناهيك عن انفرادِ ونوعيةِ بيانِ السيستاني المختلف عن كل بيانات الدعوة والمشاركة الانتخابية في المواسم السابقة، لاسيما بعد وقوفهِ على التل إزاء المشاركين والمقاطعين على حد سواء.

رعاية النجف لأول تحالف انتخابي شيعي ولد تخادماً نفعياً بين المؤسستين الدينية والسياسية على مدار العقد المنصرم

تراكم الفشل الحكوماتي ساهم في خلقِ تمردٍ احتجاجيٍّ ثانٍ، خاضه شباب بصريون، امتد بعدها إلى مجمل المحافظات الشيعية، أحرجت الاحتجاجات حكومة العبادي بابتعادها عن المطالب السياسية وتركيزها على المطالب الخدمية. لتتسع الفجوة لاحقاً ما بين الحكومة وجماهيرها الغاضبة، بعد تركيز رئيس الوزراء في مجمل خطاباتهِ على قضايا الشغب والاحتجاج العنفي والتغاضي الفعلي عن المطالب الشرعية.

براغماتية التعاطي مع المحتجين

براغماتية المؤسسة الدينية إزاء التعاطي مع الحكومة وقطاع الغضب الشعبي المُعَنِّف لبعض المقار الحكومية والحزبية، زادَ من اتساعِ الهوة بينها وجمهورها في محافظات وسط وجنوب البلاد، لتواجه على حين غرة، سيلاً من الانتقادات والتخوينات، استشعرت من خلالها زعزعة مقامها المقدس بالنفوس، لتعالج بيان خطبتها الباردة، ببيانٍ جديد، ومن على منبر جمعة كربلاء، أعلنت فيه انتصارها لصالح المحتجين ومشاعرهم ومطالبهم الخدمية، فيما نبّهت الحكومة المقبلة من نهايات مؤسفة في حال مسارها على نهج الحكومة المنتهية ولايتها، وأسلافها من الحكومات السابقة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية