"الإرهاب الأبيض": إلى متى تتجاهل أمريكا الخطر الأكبر على أمنها؟

الإرهاب

"الإرهاب الأبيض": إلى متى تتجاهل أمريكا الخطر الأكبر على أمنها؟


07/11/2018

استقرت "الحكمة التقليدية" في مقاربة الإرهاب خلال العقدين الماضين -تقريباً – على أنّ معظم العمليات الإرهابية في العالم تنفذها الجماعات الإرهابية التي تنسب الى الإسلام، وما بات يُتعارف عليها في معظم الأوساط الأكاديمية والإعلامية والاستخبارية في العالم بإرهاب الجماعات الإسلامية، والتي بلغ عددها 52 جماعة (معظمها سنّية)، وتشكل ما نسبته 77.6% من المجموع الكلي للجماعات الإرهابية للعام 2018 البالغ 67 جماعة، حسب تصنيف وزارة الخارجية الأمريكية التي تقوم بنشر قوائم سنوية –دورية باسم "الجماعات الإرهابية الأجنبية".

اقرأ أيضاً: لماذا ينشط اليمين المتشدد في ألمانيا الشرقية؟

في أجواء اللامبالاة هذه نمت وانتشرت هذه الحركة المتطرفة

مغادرة الحكمة التقليدية

لكن يبدو أنه آن الأوان لمغادرة هذه الحكمة التقليدية، إلى غير رجعة، ذلك أنّ هناك الكثير من المؤشرات لظهور اتجاهات خطيرة على احتمالية انبعاث موجات من إرهاب "الجماعات القومية البيضاء المتطرفة" في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

استقرت "الحكمة التقليدية" في مقاربة الإرهاب مؤخراً على أنّ معظم العمليات الإرهابية تنفّذها جماعات إسلامية

في هذا السياق تقول جانيت ريتمانوف - JANET REITMANNOV في مقالة مطولة لها في مجلة نيويورك تايمز بتاريخ 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 أنّه "لعقدين من الزمن تجاهلت استراتيجيات مكافحة التطرف المحلية –الأمريكية تنامي خطر "اليمين المتطرف جداً"، وفي أجواء اللامبالاة هذه نمت وانتشرت هذه الحركة المتطرفة، وقد فشلت الأجهزة الأمنية في أمريكا في رؤية الخطر، الذي باتت تشكله "جماعات اليمين المتطرف" أو الجماعات القومية البيضاء، واليوم فإنّها لا تعرف كيف توقف هذا الخطر".

تصاعد حركة "الحق البديل"

تنتمي معظم الجماعات المتطرفة في أمريكا اليوم الى طيف واسع من الجماعات يطلق عليه "الحق البديل" The alt-right, or alternative right وتشمل جماعات: القومية والعنصرية، الفاشية والنازية الجديدة، معاداة السامية، وإنكار المحرقة، الفوضوية، المتطرفين المسيحيين، المؤيدين لنظرية المؤامرة، الشعبوية، معاداة الإسلام، معارضة حقوق المرأة، والمثليين، معارضة الهجرة واللاجئين، والجماعات التي تدعو الى عزلة أمريكا والسياسات الاقتصادية الحمائية، والرأسمالية الفوضوية.

اقرأ أيضاً: يميني متطرف رئيساً للبرازيل

ويعود أول استخدام للمفهوم إلى الفيلسوف الأمريكي المحافظ، بول غوتفريد، في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2008، لكنه أخذ شكله الحالي منذ العام 2010 مع ريتشارد سبنسر مؤسس حركة "البديل الجديد"، ومدير معهد السياسات الوطني الذي يصف نفسة بأنّه "قومي وطني أبيض".

اقرأ أيضاً: هل يحكم اليمين المتطرف العالم؟

وانتشرت الحركة بشكل كبير العام 2016 بالتزامن مع حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للانتخابات، خاصة مع وجود شخصيات مهمة في إدارته مؤيدة للحركة مثل: ستيف بانون مستشار البيت الأبيض السابق، ومايكل فلين مستشار الأمن القومي السابق، وستيفن ميلر المستشار الخاص لترامب وعدد من النواب والمرشحين للحزب الجمهوري.

تنتمي معظم الجماعات المتطرفة بأمريكا إلى ما يسمى"الحق البديل" The alt-right

خطورة هذه الحركة تكمن في أنّها مرشحة لتكون الخطر الأكبر على أمن أمريكا في المستقبل خاصة جهة خطر الإرهاب الداخلي؛ ذلك أنه حسب إحصائيات "مركز قانون الحاجة الجنوبي" -وهو مركز متخصص في الحقوق المدنية خاصة للسود في ولاية ألاباما الأمريكية– فقد قتل وجرح أكثر من 100 شخص أمريكي خلال الفترة من 2014-2018 من قبل أعضاء في هذه الحركة.

الكثير من المؤشرات تنبئ بظهور اتجاهات خطيرة لانبعاث موجات من إرهاب "الجماعات القومية البيضاء المتطرفة" في الغرب

وتؤكد "رابطة مكافحة التشهير" -وهي منظمة يهودية أمريكية تنشط في مجال الحقوق المدنية ومساعدة الأقليات واللاجئين خاصة السوريين في أمريكا ومحاربة الأسلاموفوبيا– أنّ حركة البديل كانت مسؤولة عن معظم العمليات الإرهابية العام 2017 في أمريكا.

ولقد حفزت هذه الحركة نشاط الحركات المضادة، وعلى رأسها حركة معارضة للفاشية تُدعى (Antifa) مكونة من مظلة واسعة من جماعات اليسار المستقل بدون هيكلية تراتبية، تعود جذورها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، والحزب الشيوعي الألماني، وهدفها الرئيس محاربة أيديولوجيا اليمين العنصري المتطرف مباشرة، وليس سياسياً؛ لذلك فهي تمارس عمليات الاحتجاج العملي بتخريب الممتلكات والعنف الجسدي والنشاط الرقمي ضد نشاطات مجموعات اليمين المتطرف أينما وجدت في أمريكا.

تزايد الاستقطاب

وهو أمر أدّى إلى نوع من الاستقطاب السياسي والاجتماعي والثقافي في المجتمع الأمريكي، يتزايد بوتيرة عالية خاصة مع وصول دونالد ترامب للسلطة، واتهامه من قبل قطاعات واسعة بدعم إيديولوجيا اليمين العنصري المتطرف في أمريكا والخارج؛ ولذلك لوحظ أنّها نشطت بالاحتجاجات منذ العام 2016 ضد الرئيس ترامب شخصياً، والجماعات المؤيدة له من اليمين المتطرف، وقد وصفها "ناعوم تشومسكي" بأنّها بنشاطها العنيف والمباشر، إنّما تقدم هدية لليمين المتطرف، ونظراً لطبيعة احتجاجاتها العنيفة فقد وصفت من قبل بعض المعلقين الأمريكيين بأنّها "جماعة إرهابية".

نظراً لطبيعة احتجاجاتها العنيفة فقد وصفت من قبل بعض المعلقين الأمريكيين بأنّها "جماعة إرهابية"

كل هذا يعني في النهاية أنّ حالة الاستقطاب التي تعيشها أمريكا حالياً يمكن أن ترفع من وتيرة العنف السياسي والإرهاب الذي ما زالت دوائر صنع القرار الأمنية والقانونية تصر على وصمه بجرائم الكراهية، وليس الإرهاب.

ولذلك فإنّ هناك نقاشاً وجدلاً واسعاً في الأوساط القانونية وخبراء الإرهاب في أمريكا حول إعادة تعريف مفهوم الإرهاب والعنف السياسي في ظل المستجدات والتطورات الأخيرة على الساحة الأمريكية، خاصة بعد عملية معبد "شجرة الحياة" في مدينة بتسبيرغ-بنسلفانيا في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2018 التي قُتل فيها 11 مصليا (8 رجال و3 نساء) من اليهود كبار السن، وجُرح آخرون، وذلك على يد شخص متطرف ومعادٍ للسامية واليهود والمهاجرين يُدعى روبرت باورز، وقد وصفت الحادثة من قبل المحققين بأنّها "جريمة كراهية" وليس إرهاباً!

اقرأ أيضاً: اللحظة الشعبوية: انتهاء ثنائية اليمين واليسار في أوروبا

والعملية الأخرى وهي ما تُعرف الآن بعملية "الطرود المفخخة التي أُرسلت الى 13 شخصاً وجهة معروفة بمعارضتها السياسية الواضحة لترامب، وعلى رأسهم الرئيس السابق باراك أوباما ومحطة (سي إن إن)، واعتُقل على أثرها المدعو سيزار سايوك (56 عاماً)، الذي ذكرت وسائل الإعلام الأمريكية أنّه من أنصار ترامب المتشددين، وهي عملية وُصفت في وسائل الإعلام المعارضة لترامب بأنّها إرهابية، علماً أنّ "الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب"، التي صدرت في 5 تشرين الأول (أكتوبر) ،2018 (سبق أن تناولها "حفريات" بالتحليل)، أشارت إلى تصاعد وتيرة الإرهاب المحلي غير التقليدي ممثلاً في إرهاب المتطرفين العنصريين اليمينيين، وتطرّف المليشيات في العديد من الولايات الأميركية، وأشارت الإستراتيجية إلى ارتفاع نسب هذه الأنواع من الإرهاب خلال السنوات القليلة الماضية.

(white-supremacist movements) "حركة تفوّق الأمة البيضاء"

تجاهل ولامبالاة!

كل هذه العمليات، والاستقطاب السياسي الحاد، والخطاب السياسي المتوتر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حالياً في أمريكا وسط أجواء انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس التي جرت في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2018، تشير على خطورة الإرهاب الذي يمكن أن تشكله جماعات اليمين المتطرف في أمريكا مستقبلاً، في ظل تقارير إعلامية تؤكد أنّه ليس هناك اهتمام كبير، ومعلومات موثقة، وكافية لدى الأجهزة الأمنية الأمريكية عن هذه الجماعات سواءً قادتها أو أعدادها، أو طبيعة نشاطاتها، أو حتى الموازنة المخصصة لمكافحة نشاط هذه الجماعات، مقارنة مثلاً بالجماعات الإسلامية، مع استمرار تهديد الجماعات الإرهابية الإسلاموية التي قد تستغل أجواء هذا الانقسام السياسي لتنفيذ عمليات إرهابية خاصة عن طريق "الذئاب المنفردة".

حالة الاستقطاب التي تعيشها أمريكا حالياً يمكن أن ترفع من وتيرة العنف السياسي والإرهاب

في النهاية؛ تؤكد جانيت ريتمانوف، أنّ الجماعات البيضاء المتطرفة قتلت من الأشخاص في أمريكا منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001 أضعاف ما قتلت أي مجموعة إرهابية أخرى في أمريكا، وأنّ 71% من الإصابات التي تسببت بها التطرف في أمريكا خلال الفترة 2008-2017 تعود إلى الجماعات المتطرفة البيضاء أو ما يسمى (white-supremacist movements) "حركة تفوّق الأمة البيضاء"، بينما الجماعات الإرهابية الإسلامية كانت مسؤولة عن 26% فقط من العمليات الإرهابية في الأراضي الأمريكية.

ولقد بلغ عدد الأحداث الإرهابية العام 2017 ما مجموعه 65 حادثة، نتج عنها مقتل 95 شخصاً، 60% منها تقريباً كان محركها: العنصرية، والعداء للإسلام، والعداء للسامية، والعداء للحكومة الفيدرالية، والإيديولوجيا المختلفة لليمين المتطرف.

أما إيديولوجيا "اليسار المتطرف" مثل؛ حماة البيئة، وغيرهم، فقد كانوا مسؤولين عن 11 هجوماً فقط، بينما كان المتطرفون الإسلامويون مسؤولين عن 7 هجمات فقط داخل الولايات المتحدة.

اقرأ أيضاً: كيف تلتقي الإسلاموية مع اليمين المتطرف؟

فهل يتخلى صناع القرار داخل أمريكا اليوم عن "الحكمة التقليدية" في مقاربة الإرهاب، وتصوير المجتمع الأمريكي بأنّه محصن ضد الإرهاب الداخلي، وأنّ الخطر محصور فقط بالآخر المختلف الإسلامي أو الشرق أوسطي أو الملون؟ وإلى متى سيتجاهلون المعطيات التي تؤكد أنّ الخطر القادم هو خطر من داخل المجتمع الأمريكي نفسه، ومن صلب منظومته المعرفية المأزومة حالياً؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية