بعد تصريحات وزير السياحة اللبناني: هل حقاً يعيش المصريون في قبور؟

مصر

بعد تصريحات وزير السياحة اللبناني: هل حقاً يعيش المصريون في قبور؟


13/11/2018

قدم وزير السياحة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال "أواديس كيدانيان"، اعتذاره لمصر وشعبها بعد تصريحاته المثيرة الجدل، بأنّ المصريين يعيشون في قبور، ومع ذلك فإنّهم يجيدون التسويق السياحي لبلادهم المليئة بالقمامة. وعبر إحدى الفضائيات اتصل كيدانيان هاتفياً بالإعلامي عمرو أديب، معرباً عن أسفه ومعتذراً لمصر وشعبها.

اقرأ أيضاً: بالصور: احتفالات المصريين بالليلة الكبيرة

بعد أن انطلقت كلمات الوزير اللبناني يظل السؤال معلّقاً: هل حقاً يعيش المصريون في قبور؟

بدايات التشوّه

في العام 1925 حازت القاهرة لقب أجمل وأرقى مدن العالم، وبالرغم من مرور أقل من قرن على هذا الحدث، إلّا أنّها نالت العام 2018 لقب أكثر مدن العالم تلوثاً. تلك العقود الفاصلة بين مرحلتين متناقضتين، حملت الكثير من التغيّرات السياسية والاجتماعية والإقليمية، عصفت بمدينة القاهرة "جوهرة الشرق"، وجعلت أكثر من 7 ملايين من سكانها يقطنون المقابر، طبقاً للإحصائيات الرسمية. وللإمساك بلب التحول، فإنّ ما حدث في انقلاب السياسية العمرانية للقاهرة بعد ثورة يوليو 1952، قد يقود إلى الإجابة.

استطاعت القاهرة أن تحصد لقب أجمل وأرقى مدن العالم عام 1925

بعد الخروج من الأزمات الطاحنة على الصعيد العالمي، منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأزمة الكساد العالمي 1929، مروراً بالحرب العالمية الثانية، قدّم المعماري الفرنسي "لو كـوربوزييه" نظريته "المدرسة الوظيفية في العمارة"، والتي حررت المعماريين من بناء القوالب الهندسية المعينة بالزخارف نظراً لما تمثله المدرسة الجمالية من التروي والتكتيك لمرحلة البناء السكني، وجاءت الوظيفية التي جعلت البناء من أجل تحقيق هدف، لتحرر العمارة من أثقال الفن، وهو ما انتهجه الاتحاد السوفيتي، وذات ما حدث في مصر الحديثة بعد ثورة 1952، حيث سُنّت القوانين التي تقود مرحلة التحول العمراني، ليبقى في طور هجين جديد، تطور لاحقاً للعشوائيات المعروفة في الوقت الراهن.

اقرأ أيضاً: القاهرة الفاطمية.. عبقرية عابرة للأزمان

في العام 1952 سُنّ قانون رقم 99 الذي نص على تخفيض قيمة إيجار العقارات المبنية منذ 1/1/1944 إلى 18/9/1952 بنسبة 15%، ثم تلاه قانون رقم 55 لسنة 1958، والذي نص على تخفيض إيجار العقارات المشيّدة منذ عام 1952 إلى العام 1958، بنسبة 20%، وهو ما جعل الناس يعزفون عن مهمة البناء، التي أخذتها الدولة فيما بعد على عاتقها، عقب قرار تأميم شركات الإنشاء الذي جاء العام 1961، لتنتهج تلك الشركات طرقاً جديدة لم يعرفها المصريون من قبل في البناء، وهو بناء المساكن الشعبية بالقرب من المدن الصناعية، وخفض تكاليف البناء، وتقليص مساحاتها، لاستيعاب أكبر عدد ممكن.

مرحلة التهجين العمراني

مثّل تهاون الدولة في البناء على الأراضي الزراعية حجر الأساس في القضاء على منظومة العمران المصري، وهو ما أدى لتفشي البناء العشوائي، والذي كان مردوداً طبيعياً لانسحاب الدولة من دورها الأساسي في تنظيم العمران المحلي بعد اضمحلال دورها الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي.

في "وصف مصر في نهاية القرن العشرين" يورد الراحل جلال أمين، تفاصيل التحولات التي جعلت المصريين يسكنون المقابر

وأثرت مرحلة الخمسينيات والستينيات بشكل خاص في عملية تهجين العمارة المصرية، فبعد تأميم قطاع الإسكان، توجهت الدولة لبناء الإسكان الشعبي، والمنازل الخالية من أي معالم جمالية أو صحية تراعي بها احتياجات المواطن من مسكنه، واستمرت القوانين الخاصة بخفض قيمة الإيجار حتى مطلع العام 1981، قبل نهاية السادات، حتى صدور القانون رقم 136 لسنة 81، والذي بمقتضاه تنتزع الملكية، وتبقى الإيجارات السكنية مدى الحياة، وهو ما لم يلقَ استحسان الجموع من الشعب آنذاك، إذ احتكرت الدولة الإسكان، حتى رفعت يدها بشكل تام عنه بعد انتقال مصر إلى مرحلة اقتصاديات السوق التي استكملها نظام مبارك، إلّا أنّ حقبة السبعينيات التي شهدت تغيرات كبيرة على الصعيد الاقتصادي، بداية من حرب أكتوبر 1973، إلى الانفتاح الاقتصادي عام 1975، مثّل فارقاً في شكل العمارة المصرية.

ساهم البناء على الأراضي الزراعية بالقضاء على منظومة العمران المصري

في غضون ذلك، تزايدت حركة نزوح المصريين من الريف إلى الحضر، بسبب مركزية الدولة الخانقة، والتي أدت إلى تكدس العاصمة بشكل واضح، دفع بالنازحين إلى البحث عن بديل سكني أرخص وهو بناء مساكن عشوائية على أطراف القاهرة، تسمح لهم بالإقامة الدائمة داخل المدينة، وهو الوقت الذي بدأت فيه حركة الهجرة الخارجية إلى دول النفط التي كانت نافذة للآلاف من الفلاحين لبيع أراضيهم الزراعية، ودخولها إلى حيز البناء، وهو الأمر الذي تهاونت فيه الدولة كثيراً، حسبما قال نقيب المهندسين المصريين السابق، والأستاذ بكلية الهندسة الدكتور وائل زكي لـ"حفريات"؛ إذ "مثّل تهاون الدولة في البناء على الأراضي الزراعية حجر الأساس في القضاء على منظومة العمران المصري، وهو ما أدى لتفشي البناء العشوائي، والذي كان نتيجة طبيعية لانسحاب الدولة من دورها الأساسي في تنظيم العمران المحلي بعد تقليص دورها الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي".

اقرأ أيضاً: مصر تقرر المواجهة مع التيار المدخلي

يقول المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت "العمارة هي أم الفنون، وبدون العمارة لا نمتلك روح الحضارة الخاصة بنا"، وهو ما يمكن للسائر في شوارع القاهرة استشعاره إذا مضى متنقلاً بين جنباتها التاريخية، وعمارتها الشاهدة على الصراعات السياسية، ومرحلة الانسلاخ الحضاري التي يمكن الاستشعار بها في أزقة الأحياء العشوائية التي تمتلئ بها المدينة، وعلى الرغم من تخصيص وزارة للعشوائيات، بعد ثورة يناير 2011، إلّا أنّ الأمر لم يتغيّر، خاصة بعدما أعلنت الدولة رسمياً برعاية كل من وزارة الإسكان، والتنمية المحلية والتخطيط، خلوّ مصر من العشوائيات بحلول عام 2020، وهو ما لم تبدُ بشراه حتى اليوم.

 

 

التضخم.. القاتل الخفيّ

في عبارة مأثورة للاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز يقول: "التضخم هو أسوأ ما يمكن أن يصيب أي مجتمع ويهدد حضارته"، والعمارة بدورها شاهد على التقلبات الحضارية لأي مجتمع قد تأثرت بلاشك بعامل التضخم، الذي لم يزد في الخمسينيات والستينيات عن 5%، 6%، وقفز بشكل مروّع في منتصف السبعينيات والثمانينيات ليصبح من 15% إلى 20%، مستمراً في الارتفاع في التسعينيات إلى 40%، وهو ما يشرّحه كتاب "وصف مصر في نهاية القرن العشرين" للمفكر والأكاديمي المصري الراحل جلال أمين، حيث يورد تفاصيل التحولات الخانقة في نهاية القرن العشرين، والتي آلت بالمصريين إلى أن يسكنوا المقابر، فالتضخم بالنسبة لأمين، كان أسوأ ما حدث للمصريين، فمنذ منتصف السبعينيات وهذا التضخم الجامح يعصف بحياة الشعب المصري، وليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل يمتد هذا الأثر، الذي لا يذكره الاقتصاديون عادةً، ليفسد حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية على السواء، ولا يقتصر تأثيره على إعادة توزيع الدخل لصالح الأغنياء وتشجيع المضاربة والاستثمارات غير المنتجة، والإضرار بميزان المدفوعات فحسب، بل يمتد أثره ليصبح الوحش المغتصب لحياة المجتمع بأكمله.

يعتبر البناء العشوائي مردوداً طبيعياً لانسحاب الدولة من دورها بتنظيم العمران المحلي

القبور للأحياء أحياناً

مثل حادث حي الدويقة عام 2008، الكارثة الكبرى التي دقّت أجراس الأمن القومي ضد العشوائيات، فقد انهارت صخرة من الجبل الكائن على قمته منازل عشوائية لسكان حي الدويقة بالقاهرة، وخلّف الحادث 63 جثة، و65 مصاباً، بعد أعمال الحفر التي استمرت من أجل إتمام مشروع إسكان سوزان مبارك.

في 1925 حازت القاهرة لقب أجمل وأرقى مدن العالم، إلّا أنّها نالت في 2018 لقب أكثر مدن العالم تلوثاً

كان لهذا الحادث أصداء قوية لدى المصريين؛ حيث تزامن مع صدور تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة، الذي أقرّ بوجود 15 مليون مصري يسكنون العشش والمقابر ومناطق عشوائية قاسية الظروف، كما أضاف التقرير، أنّ من بين هؤلاء فريقاً عاطلاً عن العمل، وأنّ 60% من أطفال تلك المناطق محرومون تماماً من التعليم الأساسي، والخدمات الصحية، والمرافق والبنية الأساسية من شبكة المياة والصرف الصحي والكهرباء، علماً بأنّ معظم هذه المناطق في القاهرة الكبرى.

على الرغم من تخصيص وزارة للعشوائيات بعد ثورة يناير إلّا أنّ الأمر لم يتغيّر حتى الآن

وفي العام 2016، أشار مؤشر التنمية البشرية الخاص بمصر، إلى تجاوز نسبة الفقراء في مصر حاجز 40%، منهم ما لا يقل عن 10 ملايين يسكنون المقابر، وهو ما أكدته الباحثة  والكاتبة الصحفية سلمى حسين في كتاب "الاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين"،  الصادر عام 2017، حيث أوضحت أنّ عدد المساكن الخالية في مصر يبلغ 7 ملايين عقار لا يجد من يسكنه. ويرجع السبب إلى ارتفاع أسعار الوحدات السكنية مقارنة بمستوى الدخل، وتراكم الفقاعة العقارية في أيدي مجموعة من الأغنياء في مصر، وهو ما أشار إليه تقرير الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2017، الذي أفاد بأنّ نسبة اللامساواة في مصر بلغت 54.3%، وهي في تصاعد عن الأعوام السابقة، مما ينذر، وفق التقرير، بأنّ السياسيات والإجراءات المتخذة، تصب في صالح طبقة بعينها، وتزيد من عمق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية