محمد رفيع: المدن العربية اليوم مخطوفة عمرانياً

محمد رفيع: المدن العربية اليوم مخطوفة عمرانياً

محمد رفيع: المدن العربية اليوم مخطوفة عمرانياً


28/11/2018

أجرى الحوار: خالد بشير


قال الكاتب والمهندس الأردنيّ، محمد رفيع، إنّ المدن العربية اليوم مخطوفة عمرانياً، محيلاً ذلك إلى "انتهاكها على نحو كارثيّ"، مؤكداً أنّ العَمارة سلعة تصلح لأيّ مكان أما المدينة فهي نمط العيش البشريّ الأرقى.

حتّى اللحظة لا توجد تطبيقات عربية عملية لمفهوم البلدة القديمة كما في الغرب

وأضاف في حواره مع "حفريات" أنّه ليس هناك شيء أكثر التباساً من مفهوم الهوية في ثقافاتنا المحليّة، بما يتّسع لاستخدامها في معظم الأشياء، دون أن يعني ذلك، وفقه، سوى عبارة إنشائية فارغة من أيّ مضمون مادّي! موضحاً أنّ "هويّات المدن تُصنع صناعة، تماماً كما هوية الأوطان، ووفق رؤى أصحابها واستطاعتهم المعرفية والمادية ومصالحهم أيضاً".

اقرأ أيضاً: أبناء رفاعة.. صعود الدولة المدنية وانحسارها

ومحمد رفيع؛ صاحب مؤلَّفات عديدة في تاريخ المدن وعمرانها، منها: "ذاكرة المدينة"، في ثلاثة أجزاء، عن التاريخ الثقافي والاجتماعي لمدينة عمّان، و"عمران عمّان القديمة"، كما صدرت له العام الماضي رواية "خرائط النسيان".
وهنا نصّ الحوار:

المدينة والعمران

هل من خصائص معمارية أو ثقافية أو اجتماعية تجمع مدن العالم العربي على اتساعها؟ أم أنّ دلالة المُسمّى منحصرة في حدود الجغرافيا والسياسة؟

هذه مدن مخطوفة حالياً، إن جازَ التعبير، ربّما كان بعضها بدايات لمدن حديثة، بعد الحرب العالمية الثانية، كبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد، والقدس وحيفا وغزّة، وعمّان أيضاً، لكنّها انتُهكت على نحوٍ كارثيّ، بعد ذلك، صحيحٌ أنها استوردت كلّ عناصر تقنيّات العمارة الحديثة، فانتثرت مفرداتها كالبثور على وجه بريء ناعم، غير أنّه كان استيراد تشويه واستلاب وانتهاك، لم يُبقِ من روح المدينة، ولا العيش فيها شيئاً.

اقرأ أيضاً: هل يمكن لتخطيط المدن.. أن يساعد في منع الحروب؟

المدينة شيء، والعمارة شيء آخر؛ فالعمارة سلعة تصلح لأيّ مكان، والمدينة هي نمط العيش البشريّ الأرقى، أو هكذا ينبغي له أن يكون؛ وهي الحركة الدائبة والدائمة للبشر في حيّز مكانيّ محدَّد، متأثرة بما حولها من حركة العالم وتطوّره، منتجة نمطها الخاص في التطوّر، لا خاضعة بشكل كلّي لما تنتجه الصناعة والتقنيّات.

مع سرعة التحولات اليوم، كيف يمكن أن تحتفظ المدينة العربية بشخصيتها في العقود القادمة في المشهد المعولم الذي نعيشه؟

في بلادنا، ليس هناك شيء أكثر التباساً من مفهوم الهوية، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة، أو المدينة أو الوطن؛ فالهوية في ثقافاتنا المحليّة، هي أكثر التعبيرات سيولة ونمطيّة وميوعة، بما يتّسع لاستخدامها في معظم الأشياء، ودون أن يعني ذلك سوى عبارة إنشائية فارغة من أيّ مضمون مادّي!

في بلادنا ليس أكثر التباساً من مفهوم الهوية على مستوى الفرد أو الجماعة أو المدينة أو الوطن

سأعطي مثالين عمليين عن العناصر المكوّنة للمدن التي لها تاريخ، والتي تشكّل تلك العناصر جزءاً رئيساً من هويّتها.

الأول: مفهوم (البَلدة القديمة)، وهو مفهوم لم نصنعه نحن؛ بل صنعه الغرب، للحفاظ على ما تسمّيه هوية المدينة البصري والعمراني والتاريخي، ولفصلها عن العمران الجديد، وتوسّع المدينة الطبيعي، وحتّى اللحظة لا توجد تطبيقات عربية عملية لمفهوم البلدة القديمة للمدينة العربية، إلا بمقدار اشتباك وتمويل المؤسسات الغربية لبعض مشروعات الحفاظ على التراث العمراني في بعض المدن العربية؛ كبيت لحم، والقاهرة، وتونس، وغيرها.

اقرأ أيضاً: 6 مظاهر لـ "ترييف المدن" في العالم العربي.. تعرّف عليها

أما الثاني؛ فهو واقع البنية التحتية في المدينة العربية، وواحد من عناصر تلك البنية هو الرصيف.

البلدة القديمة في مدينة فاس بالمغرب

انتهاك عمراني

هلاّ حدثتنا قليلاً عن "الرصيف"، وعن واقعه في مدننا العربية، باعتباره مثالاً على واقع البنية التحتية أو مثالاً حتى على "الاستباحة"؟

الرصيف هو العتبة الآمنة، التي يجتازها الناس مشياً بأقدامهم، من بيوتهم إلى الخارج؛ فالشارع ليس لهم، أو للدقّة؛ ليس للمشاة منهم، بل لعربات معدنية، فشلت، حتى الآن، كلّ القوانين وأنظمة الردع في ضبط جنونها في سرعة القتل، وهو (أي الرصيف) عتبة آمنة أخرى، في وصول الناس إلى الأعمال والأسواق والأماكن العامة وبالعكس.

اقرأ أيضاً: كتاب "المدينة الوحيدة": هل المتطرفون الفرديون يعكسون أزمة الشعور بالوحدة؟

هذا، فضلاً عن كونه ملاذاً لِمن أثقل العمر خطاهم، ولِمن أتعبت الحياة بضجيجها كواهلهم، فلاذوا به، فارّين من وحشة بيوت، ما عادت الأنوار العادية كافية لإضاءة عتمة جدرانها؛ فعلى الرصيف، إن وجد، يلتقي اللائذون به؛ فرحون ومَهمومون، عشّاق ومتخاصمون، بسطاء ومعقّدون، كلّهم يتساوون على الرصيف مشاةً، فينعمون بمجرد وجوده، إذ لا يفصلهم فيه عن الخوف والموت سوى خط وهمي.

نعاني في ظل النظام العالمي السائد من غزو مالي جديد لكنّه يتمّ سلمياً وإرادياً هذه المرة

كثيرة هي المدن والأحياء في القارّة العربية، التي شهدت وفاةَ الرصيف فيها، أو اغتياله على مرأى ومسمع من الجميع؛ فنسيت الغالبية، بالتقادم، أصول استخدامه، أو حتى حاجته وضرورته في حياة الناس، ذلك أنّ فكرته وبقاياه تآكلت وتهاوت تحت معاول وآليات المقاولين وأصحاب المحال التجارية وغيرهم، منذ أمد بعيد.

فالرصيف؛ هو أكثر الشؤون العامة استباحة في حياة الناس في بلادنا، فالجميع يتعامل معه باعتباره مشكلة وعقبة، وأحياناً مساحة مباحة للنهب والتعدّي، وقلّة من يرونه حيّزاً للمشي، ومتنفساً للحياة؛ فالسيارة، والمقاول، وباعة الأرصفة، وأصحاب المحال الثابتة، وأدراج البيوت والعمارات العالية، وحواجز الحماية والأمن، وأصحاب المقاهي الشعبية والعادية وغيرهم، كلّهم يعتدون عليه. فعَن أيّة هويّة مدينية تتحدّث يا عزيزي...!

تناولتَ في روايتك "خرائط النسيان" حالة الانتهاك النفسي الجماعي التي يحياها العربي اليوم في مدنه، ما الذي اختلف عن الزمن الذي مضى؟

بين المتون والهوامش علاقات معقدة، وأقلّ ما يقال فيها إنها متبدّلة، أو غير ثابتة؛ ففي الحياة المعيشة، يدرك أصحاب الصدارة والمتن حاجتهم الفعلية للهامش وأصحابه ومن يقيمون فيه، من هُنا، تتزاحم في مفاهيم الثقافة اليومية مفردات: المهمشون، الهامشيون، الحياة الهامشية، الصدارة، ‏المتصدرون، ...إلخ، كما تتزايد وتيرة الانتقال، أو التنقل، بين سكّان الحقليْن، وذلك بتواطؤ محسوب، يرعاه بعناية الحبل ‏المرن، أو خطّ الهامش.

ولهذا الخطّ تنويعات في مفردات الثقافة اليومية، منها؛ خط الفقر، خط الجوع، خط التعليم، ‏خط المستوى الاجتماعي، ...إلخ، وبوعي أو بدونه، يحدث التواطؤ العجيب، بين سكّان الهوامش والمتون، في حياتنا اليومية.

اقرأ أيضاً: "الكوفة" لهشام جعيّط: دعوة لاستعادة المدينة الأولى في الإسلام؟

هويّات المدن تُصنع صناعة، تماماً كما هوية الأوطان، ووفق رؤى أصحابها واستطاعتهم المعرفية والمادية ومصالحهم أيضاً، أما في بلادنا؛ فدونكَ ما ينصب من فزّاعات تعلو بوابات مدن.

رغم ما نعيشه اليوم فلم نكن بخير قبل الخصخصة والنيوليبرالية ولم يبدأ انتهاك حيواتنا بهما

''خيالات كروم..''، أو ''خيالات مقاثي..''، تُزرع في نفوس الساكنين في هذا المَشرق المنكوب، مدنٌ على هيئة ''كون..''، تُحال، بطرفة عين، إلى بوابات على هيئة ''جرح.."، قتلةٌ يواجَهون بالكلام، ظروفُ فشل عارم تُذيب كلّ إرادات داخلية، فيضُ ضياع يخفي كلّ حقيقة وهوية وحُبّ..

اغتيالات معيشية ومصيرية، تواجَه بالأمنيات والأحلام، أحلامٌ تسكن أصحابها، فتخطفهم، أجناسٌ تتفكّك مفاصلها، وأعراقٌ تكتشف من جديد اختلاف ألوان دمائها، موتى يتحرّكون في أيامهم، وأيامٌ تمعن في تيهها، أجساد تفترش القهر، وكائنات ''أعتمها' الخوف، هواجسُ لا تنقطع، ومأخوذون لا يعرفون إلى أين.

اقرأ أيضاً: إدارة التنوع للهروب من أزمة الهوية في المجتمعات العربية

أرواحٌ ''منقوعةٌ" بالحرمان، وكائناتٌ اقتلعت أظافرها وأنيابها وأعصابها، والهدف تعميم عجز واستسلام، يحيل الحياة إلى حالات انتظار ''للقيامة..''، أيّة قيامة..! حدائق ملح، و''فسائلُ..'' نخل، وقيامة، نثر حياة يومي جيّاش وصاخب، ورغبات ''عيش ميت..'' تغشاها ريبة حدَّ اليقين.

غلاف "خرائط النسيان".. لمحمد رفيع

إلى أي مدى عمل انسحاب الدولة والخصخصة على عزل الإنسان العادي والحدّ من قدرة وصوله للمكان العام و"الترفيه"، وجعل ذلك محصوراً بمن يمتلك القدرة المادية؟

لنكن واقعيين، لم نكن بخير قبل الخصخصة والنيوليبرالية، ولم يبدأ انتهاكُ حَيواتنا بهما؛ بل واصل الانتهاك والاستباحة مساراتهما الممتدّدة في عروق حياتنا اليومية منذ الحرب العالمية الأولى؛ فسيف "إقليدس" الماليّ الجديد، بحسب الأسطورة اليونانية، يصلَّت على رقاب دول العالم حالياً؛ إما الدخول والانخراط في "النظام العالمي"، اقتصادياً ومالياً، مع فقدان الاستقلاية السياسية، أو البقاء في عزلة سياسية واقتصادية! حكمة الغالبين والمغلوبين، تعود من جديد للتحكّم في مصائر الشعوب، ولا عزاء للضعفاء والمغلوبين. فالقوى والدول الغالبة، لم تكُفّ يوماً عن إعادة تنظيم العالم، على نحوٍ تنتقل فيه الملكية والمداخيل إليها.

هويّات المدن تُصنع صناعة تماماً كما هوية الأوطان ووفق رؤى أصحابها واستطاعتهم المعرفية والمادية ومصالحهم

اليوم، تغيّرت الوسائل، وبقيت الأهداف نفسها؛ فـالمناورات المالية، ورافعات الديون، تقوم جميعها بالدور نفسه، الذي لعبته الغزوات العسكرية في الماضي؛ فالأهداف القديمة الجديدة، وإن تبدّلت أشكالها، ما تزال هي نفسها؛ الاستحواذ والسيطرة على الأرض، والبنى التحتية الأساسية، والفائض الاقتصادي، والتحكّم بالمدخرات الوطنية، و"الصرافة التجارية"، وسياسات المصارف المركزية.

بمعنى آخر؛ غزوٌ مالي جديد، لكنّه يتمّ سلمياً وإرادياً هذه المرة، والنتيجة المرجوّة هي؛ تحويل الشعوب المدجّنة والمطوّعة، إلى مدينين، و"شركاء تجاريين صغار خاضعين"، يقومون بالدفع المستمرّ تحت هذه الصفة؛ أي أنّ "الاقتصادات المدينة" تحتلّ موقع "البلاد المهزومة" والمغلوبة، وما عليها سوى الخضوع للنهب المنظّم الجديد؛ وذلك بنقل فائضها الاقتصادي مالياً إلى الخارج.

تبعات الخضوع الاقتصادي والحروب

كيف يؤثر الخضوع الاقتصادي إذاً في المدينة؟

يخسر المَدينون سيادتهم المحلية، ويفقدون السيطرة على "سياساتهم المالية والاقتصادية والضريبية"؛ فيجري "بيع البنى التحتية العامّة لمشترين أجانب"، مع استمرار اقتراض يخلق فوائد ورسوم، يُعاد دفعها من جديد لهؤلاء المشترين...

اقرأ أيضاً: خالد عزب: العمارة الإسلامية ثمرة اشتباك السياسة والفلسفة والدين

منذ الثمانينيات، والحكومات المدينة مدفوعة، قسراً، إلى بيع بنيتها التحتية العامة لمستثمرين أجانب، ليحلّ بعدها "التحصيل المركزي" محلّ الرسوم والأسعار المدعومة حكومياً، ما جعل الاقتصادات أقلّ تنافسية، ووضعها أكثر فأكثر في "خانة الاقتصاد المدين"، بينما واصلَ "الفائض الاقتصادي" انتقاله إلى الخارج، وبصيغٍ معفاة من الضرائب تقريباً..!

اقرأ أيضاً: أين مناهجنا العربية من بناء الهوية والمواطنة؟ الأردن نموذجاً

أما النتيجة؛ فاقتصادات قائمة على الاستدانة، وبشكلٍ دائم، وفي كلّ الدول؛ استثمار خارجي، إقراض مصرفي، خصخصة البنى التحتية العامة، مضاربات نقدية، وهي كلّها رؤية مصرفيين لمستقبل الدول والمجتمعات والاقتصاد، والاستثناء الوحيد في "قاعدة نقل السياسات الوطنية إلى ملكيات خارجية"؛ هو الولايات المتحدة نفسها، وعلى نحوٍ "حِمائي"، ما بدّل طبيعة حركة الأموال العالمية، وغيّر معنى تدفق رؤوس الأموال، في تسمية يطلقون عليها "عولمة اليوم"!

نتيجة الظروف الصعبة التي تعانيها حواضر تاريخية مثل: بغداد، والموصل، ودمشق، وحلب، وصنعاء؛ هل بالإمكان الحديث عن بروز مراكز جديدة بديلة في العالم العربي؟

لا نملكُ سوى أوهام بالنجاةِ، لبعض الحواضر العربية؛ فالخرابُ لا يُراكم إلا خراباً، حتى وإن بدا بعض الخراب متماسكاً، كطوب بناء، وشيّدوا منه بيوتاً متلاصقة أو فوق بعضها؛ فالشتاء العادي، والمحن والأزمات المتكررة في حياة الأمم، قادرة على إزالة أيّ طلاء عن واجهات البيوت، ومهما بدا ذلك الطلاء وهّاجاً.

 المدينة والعمارة شيئان مختلفان فالعمارة سلعة تصلح لأيّ مكان والمدينة نمط العيش البشريّ الأرقى

فشلنا في كلّ شيء، طوال المئة عام الماضية، ونعيش اليوم بين انهيارات مدوّية وانهيارات أخرى مؤجّلة، وبعضُ أوهامٍ بالنجاة، على أطراف الخليج، مدناً وجماعات بشريّة.

"الفشل في إدارة التنوّع"؛ هو واحدٌ من أبرز الأشياء التي ينبغي الإقرار بها، في مدن ودول القارة العربية العريضة، والأدلّة لا تُحصى، والتنوّع المقصود أيضاً لا يُحدُّ، فهو تنوّع في؛ المعتقد الديني، والسياسي، والثقافي، والعرقي، وغير ذلك.

اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني: مقدمات ضمور العقل والعجز عن بناء الدولة

فشل كهذا هو ما جعل تاريخنا القريب، في إنشاء المدن والدول والأوطان متعثراً، وعلى نحوٍ محزنٍ، ذلكَ أنّنا لم نقرّ، في أدبياتنا وثقافتنا وسياساتنا، حتى الساعة، بأنّ؛ المدن والدول تُنشأُ، والأوطان تُبنى، والشعوب كذلك تُخلق، والأممُ أيضاً، كما أنّ كلّ ما سبق قابلٌ للهدم والتقويض والتفسيخ، إذا لم يدرك أهله وأصحابه قدراتهم وإراداتهم ومصالحهم؛ فلا الدول والأوطان، ولا الشعوب والأمم، كائنات متكوّنة أو مطلقة، ولا هي ثابتة أو محصّنة من التغييرات، سلبية كانت أم إيجابية.

 

 

غير أنّ أنظمة الحكم هي التي أجهزت على براعم فكرة الدولة، ولم تكترث بما كان يحدث بفكرة الأوطان من تآكل وتشرذم وتشظٍّ، فأُفرغت المؤسسات وأجهزة الدولة من محتواها، فلا ترى سوى هياكل لمؤسسات دول تكاد تسقط وتتداعى على رؤوس أصحابها، كلّما مادت الأرض بها.
لم تبذل تلك السلطات، أو هذه الأنظمة، جهوداً حقيقية، من أجل بناء فكرة الأوطان؛ فأوطاننا عاشت، وتعيش، حالات لا تنتهي من التشكيك العميق.

تلك الأنظمة وحدها، وقبل غيرها، التي تعرف مدى هشاشة النسيج الوطني في بلدانها، وهي وحدها تتحمّل وِزرَ ذلك ومسؤوليته، بما راكمته من ضعف في مجتمعاتنا، فوق ضعفنا وهشاشتنا الموروثة، وبما غذّته من نوازع ما قبل الدولة، بالفساد المنهجيّ، والتفرقة المحسوبة، والقمع المدمّر لرابطَيّ الحرية والتضامن، وهما عماد بناء الوطن الحقيقي، والدولة الحقيقية.

مشاهد الدمار في مدينة حمص السورية (2016)

بالحديث عن عمّان وسرعة التبدّل والتحولات العمرانية التي عرفتها خلال عمرها القصير نسبياً، هل ترى أن ذلك واكبه تحوّل مناظر على مستوى الاجتماع والقيم والثقافة؟

إذا سألت ثلاثة أجيال متعايشة من أبناء عمّان؛ الجدّ والابن والحفيد، مثلاً، سيجيبك الجميع بتحفّظ غامض: بأنّ هذه ليست عمّان التي يعرفها، أو يحلم بها، أو يريدها!

في مخطوط كتاب لي، أنجزته منذ أعوام، ولم أقُم بطباعته، ولن أفعل، وهو بعنوان "مِن العُري إلى الانتهاك؛ نُصوصٌ في الراهنِ العَرَبيّ"، كتبتُ إهداءً مفزعاً، يقول: "إلى الذين عُرِّيَتْ نُفوسُهم، فاُنْتُهِكَتْ أرواحُهُم، في المَشرقِ العربيِّ، فَصاروا مُستَباحِينَ ومُبَاحينَ لِكلِّ عَسْف"، ربّما كانت فكرة الإهداء هي السبب في تراجعي عن طباعته ونشره!

لا نملكُ سوى أوهام بالنجاةِ، لبعض الحواضر العربية؛ فالخرابُ لا يُراكم إلا خراباً

وفي ذلك المخطوط؛ يوجد نصٌّ بعنوان "قُبْحُ الأرواحِ"، وفيه خلاصة تقول: "لا شَيء بعد القبح سِوى اليَباب؛ شعوب مخطوفة، بأفكارٍ مخطوفة، هذيان بلاغات لغاتٍ يصعب تمييزه إلى أيّ اللّغاتِ المُنقرضةِ يَنتمي، حواضر خائفة، ومعارفُ خائفة، وكائنات خائفة، حذر يتنقل بين لَظَى عيونٍ متربصة بريبتها، وطُوبى لمن اخترعوا للبشرية تميمة فشلها؛ غبار الروح".

إذ لا قيمة تخيف في كلّ هذا الخراب، إلا بما تسلّل منه، على هيئة شروخ أو حروق أو غبار، إلى أرواحنا، وما أكثره وأكثرها؛ إذ لم نعد "نقوى على قول الحقيقة"؛ فَقد جفّت! صارت أكثر يباساً وجفافاً من إطعامها لبهائمنا الداجنة، لا لأنّها فقدت بجفافها كلَّ رُطوبةِ الخيرِ؛ بل لأنّ قولها أصبح تهمة أخلاقية مشينة وشائنة، فغدت طعاماً مفخخاً ومسموماً، صالحاً لقتل الكائنات الضالّة، مع محاذير من أنْ تكون في متناول الصغار.

اقرأ أيضاً: المهاجرون في أوروبا: تحديات الاندماج وعائق الهوية

بتسلّل كلّ هذا القبح إلى دواخلنا، فإنّنا ربما أصبحنا أقبح الكائنات؛ فالشقوق التي تفتقت في مسامات الجلد، ومكّنت قوارض "الدِمَنِ"، من الوصول إلى خزائنِ الأرواح، تكفي لجعل الفَتق يستعصي على الرتقِ، لِمراكمةِ المزيدِ من القبحِ؛ ذلك أنّ قبح أرواح الأفراد يعمي ويعدي، فتتحوّل الحواضر والقرى والمدن إلى كائناتٍ كفيفةٍ، لا تبصر ولا تبصَر، أمّا واحات الملح والماء الشحيح، ووهم المراعي التي تحيط بربواتها، فمصائرها، بعد انتشار عدوى المدن الكفيفة، أكثر غموضاً من مصائر اللائذين بها!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية