حين يصير العالم مكتبة كبيرة جداً: لماذا نقرأ؟

القراءة

حين يصير العالم مكتبة كبيرة جداً: لماذا نقرأ؟


02/12/2018

تتكدّسُ الكتب في مكتبات العالم كلّها، وهناك مليارات الكلمات المخزنة رقمياً على شبكة الإنترنت، عدا عن كل ما كتبه البشر وانمحى، ويمحى يومياً حول العالم. ورغم وجود وسائل كثيرة اليوم من تقنياتٍ مرئيةٍ ومسموعة، إلا أنّ الماضي والحاضر لا يزالان يعيشان جنباً إلى جنب، في حال عرفنا أنه توجد مئات الآلاف من الكتب القديمة والنادرة، التي يسعى لقراءتها الكثير من البشر حتى يومنا هذا.

اقرأ أيضاً: ما نعشقه بالكتب نخشاه بالواقع.. آثار مختلفة للقراءة
الكتب إذاً، هي تلك الأوراق المجتمعة بين غلافين، أو الأحرف المصفوفة والمنشروة رقمياً، توصف بأنها مؤثرة، وثورية، وفكرية، ومثيرة، ومملة أيضاً، وجميلةٌ أو بشعة، إنها تشبه قراءها من حيث صفاتها، وغالباً ما تترك فيهم أثراً منها، لذلك يبقى السؤال حاضراً، لماذا نقرأ؟ ولماذا لا تزال القراءة جذابةً حتى اليوم؟
القراءة مقدسة
تبدأ الكتب السماوية، كالقرآن الكريم والإنجيل، بالحديث عن كلمة الله العليا، التي منحت الحياة على الأرض بدايتها، ففي القرآن الكريم تأتي أولى الآيات الكريمة لتقول "اقرأ باسم ربك الذي خلق". بينما يبدأ إنجيل يوحنا بالقول "في البدء كانت الكلمة". ومن الواضح أنّ الكتب المقدسة بما فيها القرآن الكريم، تحمل في داخلها دعوةً عامةً لكل البشر، للقراءة.

يحتاج البشر بشكلٍ متكررٍ إلى مراجعة وعيهم التاريخي في كل شيء

أما محاولات الإنسان للكتابة والتدوين، فلم تقتصر على كتب الدين، بل إنه حاول منذ الحضارات الأولى توثيق أهم ما واجهه في حياته من أحداث أو اكتشفه من معرفة، على ألواحٍ مسمارية طينية، وعلى جدرانٍ كما لدى الفراعنة ثم على ورق البردي، ثم على أوراق صنعت من لحاء الأشجار كما في الصين، إلى أنْ وصل الإنسان إلى آلة الطباعة، وتطور الكتاب حتى وصل إلى شكله المعروف حالياً.

اقرأ أيضاً: الأرقام تطيح بالدقائق الست لقراءة العربي: الكتاب خير رفيق، ولكن
لعل بدايات القراءة ظلت مقدسة، فبانتشار المسيحية، وصعود الرهبان إلى قمة القيادة الاجتماعية مثلاً، تحولت مسألة النقل عن الأشخاص، لتصبح نقلاً عن الكتب، فمعظم ما يستند إليه الراهب من معرفةٍ وآراء في الأخلاق والحياة، تعود إلى الكتاب المقدس، فأصبحت للكتاب عامةً هيبته منذ ذلك الحين، واكتسب فوق القداسة فكرة القيمة المعرفية، التي لا تضاهيها معرفةٌ أخرى.

طه حسين: تتواصل الحضارات من خلال الكتب فتصنع سلاسل بشرية بينها من خلال القراءة وإلا فإن الوعي لا يتطور

وهو ما جاء كذلك في القرآن الكريم، الذي أصبح أهم كتابٍ في تاريخ العرب منذ انتشار الإسلام. ولم تبق الأمور مقتصرةً على الكتب الدينية مدةً طويلة، حيث بدأت كتب الشعر والأدب وأخبار القادة والحكام تُوثق بصورةٍ مميزة، ثم يتم نسخها وحفظها. وفي هذه الأيام، ييبدو أنّ البشر في مدارسهم وعلومهم وحياتهم اليومية، يحتاجون بشكلٍ متكررٍ إلى مراجعة وعيهم التاريخي في كل شيء.
وبهذا الخصوص، يقول علامة الأدب العربي وعميده، طه حسين: "منذ أنْ صرّح القرآن الكريم بكلمة (اقرأ) فإنه دعا الإنسان للبحث عن الكمال وعن تحقيق مدنيته وإثبات تميزه عن باقي المخلوقات بالتفكير، وهذا كله لا يتحقق إلا بالقراءة التي أصبحت اليوم واجباً لكل من يريد أن يحيا حياةً صالحة وناجحة".

اقرأ أيضاً: نقاد وقراء يفككون عالم عرّاب القراءة أحمد خالد توفيق

طه حسين
ويضيف حسين في كتاب "لماذا نقرأ"، الصادر عن دار المعارف لمؤلفه رجب البنا، أن الحضارات لا يمكن لها أن تتواصل في "سلاسل بشرية متنوعة ونافعة ومتواصلة" إلا من خلال ما تنقله لبعضها البعض من كتبٍ ومعرفةٍ لا يمكن تناولها إلا من خلال القراءة". وإلا فإنّ الانقطاع برأيه، سوف يؤدي إلى موت الوعي البشري وعدم تطوره.

نيل غيمان: القراءة الأدبية بالذات تحمل قدرة هائلة على المشاركة الوجدانية بين البشر

من ناحيته، يرى الباحث والمفكر البريطاني، نيل غيمان، في مقالةٍ شهيرة له بعنوان "لماذا يعتمد مستقبلنا على المكتبات والقراءة وأحلام اليقظة". إنّ القراءة (الأدبية بالذات) تحمل قدرة هائلة على المشاركة الوجدانية بين البشر، ويقول غيمان "عندما تشاهد التلفاز أو تحضر فيلماً، فأنت ترى أموراً تحدث لأناس آخرين. بينما القصص النثرية والروايات، شيء يُصاغ من الحروف الأبجدية، وحفنة من علامات الترقيم، وأنت، أنت فقط، بواسطة مخيلتك، تخلق عالماً وتعمره بالناس وتراه بأعين الآخرين، ولا بد حين تعود إلى عالمك الواقعي، أن يكون هذا غَيّركَ بعض الشيء".

القراءة هي تغيير العالم
هل يمكن لفردٍ أنْ يغير العالم؟ أو على الأقل عالمه الخاص كبداية، ذاته، وبعض صفاته أو طموحاته، أو طريقته في النظر إلى الأشياء والأفكار. الإجابة هي نعم، فالعديد من الباحثين مثل غيمان وغيره، وكذلك الكاتب الكبير وليم بليك، يرون أنه:
"ينبغي علينا جميعاً، بالغين وأطفالاً، كُتّاباً وقُرّاء، أن نستغرق في أحلام اليقظة، وأن نتخيل. إنه لمن السهولة بمكان التظاهر بأنه لا أحد يستطيع تغيير شيء، وأننا نعيش في عالم ومجتمع ضخم، وأن الفرد ليست له قيمة إلا  كقيمة بذرة أرز في حقل. ولكن الحقيقة هي أن الأفراد يستطيعون تغيير عالمهم مراراً وتكراراً، ويصنعون المستقبل، ويفعلون ذلك بتخَيل أن الأمور يمكن أن تكون مختلفة".

اقرأ أيضاً: مبدعون كتبوا روائعهم بين جدران المعتقلات
ويركز كذلك شعراء وكتاب عظماء من أمثال ماركيز وشيمبوريسكا، أن الخيال لا يمكن أن يتطور ويفضي بالإنسان إلى مساحاتٍ أوسع، إلا من خلال القراءة. ويقول هؤلاء في مقالاتهم وسيرهم الذاتية أنهم قراء ومستمعون جيدون قبل أي شيء.

غابرييل ماركيز
وعلمياً، تتسبب القراءة ببناء الفرد، وتطوير شخصيته، كما أنها تمنح المتعة وتخفف الشعور بالوحدة، وتقدم أيضاً خبراتٍ في معظم مجالات الحياة والعلوم والفنون، إضافةً إلى أنها تحطم الروتين التقليدي وتعطي الفرد قدرةً على انتزاع نفسه من محيطه. حيث إن العلاقة بين الدماغ والكتاب، علاقةٌ أفقية فردية، تتيح للفرد إمكانياتٍ بلا حدود، تبدأ بالتسلية، وتنتهي بإعادة تركيب العالم نفسه، وفقاً لما جاء في دراسةٍ لمعهد "pew" للأبحاث، والتي نشرها على موقعه الرقمي في 2012.

اقرأ أيضاً: ما لا تعرفه عن "المكتبة الخالدية" في القدس

وتخلص الدراسة إلى أنه مهما تعددت أسباب القراءة لدى الأفراد، فإنها تظل علامة صحيةً على تقدم المجتمعات وقدرتها على التواصل فيما بينها، وبين العالم أيضاً، وفي هذا السياق، يتحدث الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا عن أهمية القراءة للمجتمعات بقوله "من لا يقرأون، يجهلون المتعة التي تفوتهم، لكنني أيضاً مقتنع بأن مجتمعاً بلا أدب أو مجتمعاً يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية، هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته."

الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا
ويؤكد يوسا في كتابه "رسائل لروائي شاب"، أن الأدب ليس نشاطاً للمترفين، بل هو "نشاط لا يستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديمقراطي، مجتمع مواطنين أحرار".

اقرأ أيضاً: لماذا تمنع الدول العربية الكتب؟ إجابات مثيرة لكتّاب باحوا بالأسرار
ويبدو أنّ القراءة، هي انعكاس للوعي البشري على مر التاريخ، وأيضاً؛ مفتاحٌ للتخيل، ولتغيير الواقع، أو التحرر منه على أقل تقدير، كما أنها متعة عدوةٌ للوحدةِ والفراغ والجهل، إذ يمكن للوقت أنْ يختلف تماماً أثناء القراءة، ليصير الماضي والحاضر والمستقبل جميعهم جنباً إلى جنب، يتنقل القارئ بينهم بكل حرية، وكيفما يشاء. وربما من الجدير الختام بمقولة المفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي كان يعي أن الزمن قاطع رؤوس كبير، تسقط أمامه حضارات وشعوب إن هي غرقت في الجهل، ولذا قال: "الكتب هي السّفن التي تمر بالبشر عبر بحار الوقت العظمى".

الصفحة الرئيسية