باحث في الشأن الإيراني: 350 مليار دولار كلفة تدخلات طهران في المنطقة

باحث في الشأن الإيراني: 350 مليار دولار كلفة تدخلات طهران في المنطقة


04/12/2018

أجرى الحوار: كريم شفيق


كشف الباحث المصري المتخصص في التاريخ الإيراني المعاصر، والعلاقات الدولية الإيرانية الدكتور فتحي أبوبكر المراغي، أنّ هناك اقتصاداً موازياً، غير معلن في إيران، هو اقتصاد الحرس الثوري، والمؤسسات التابعة للولي الفقيه، ومؤسسات الوقف، وهي من الضخامة لدرجة أنّها قدرت بـ 20%، من حجم الاقتصاد الإيراني، وهو الثالث بمنطقة الشرق الأوسط.

وأكد في حواره مع "حفريات" أنّ التدخلات الإيرانية في المنطقة كلفت الاقتصاد الإيراني، بحسب بعض المصادر، 350 مليار دولار، في كل من سوريا والعراق واليمن، وضخت المليارات عبر الحرس الثوري، وتحديداً، فيلق القدس، بقيادة قاسم سليماني، ولم تمر هذه المرة عبر الموازنة العامة الإيرانية، ولم تدرج في حساباتها، بمعنى أنّ هذا الاقتصاد السري يخضع للمرشد، بشكل مباشر، ويتم ضخ الأموال من متحصلات بيع النفط، ومن اقتصاديات الحرس الثوري.

اقرأ أيضاً: روحاني تحت عصا الحرس الثوري الغليظة

ويأتي هذا الصرف الباذخ في ظل حالة سخط شديدة يعاني منها الشعب الإيراني الفقير، فيما تنهمك حكومته في استنساخ الحرس الثوري، في عدد من الدول العربية، كمرحلة من مراحل السيطرة على النظام السياسي فيها.

هنا نص الحوار:

ثمة واقع سياسي جديد في ما يخص العلاقات الأمريكية الإيرانية، والموقف منها إزاء العديد من الملفات الإقليمية، وغيرها، وذلك إبان صعود ترامب للحكم بعد أوباما.. كيف ترى التحولات والمحددات المغايرة مع الإدارة السياسية الجديدة بالبيت الأبيض؟

بداية، تبنّي الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، موقفاً واضحاً ومحدداً، منذ خوضه معركة الانتخابات الرئاسية؛ فقد أعلن عدم رضاه عن الاتفاق النووي، المبرم مع إيران، وأعلن أنه أسوأ اتفاق، توصلت له الولايات المتحدة على مر التاريخ، والحقيقة أنه قدم أسباباً منطقية لرأيه؛ وكان أهمها، أنّ الاتفاق مقيد بفترة زمنية هي 15 عاماً، فقط، بعدها تصبح إيران مطلقة اليد في الأنشطة النووية، وسرعان ما سنراها دولة نووية في المنطقة، الأمر الذي يهدد موازين القوى بالمنطقة إلى حد بعيد.

ما حدث من حركة مناهضة للحجاب الإجباري هو ردة فعل شعبية تجاه النظام السياسي وليس ضد القيم الدينية

ربما، يقول البعض إنّ هناك دولة نووية في المنطقة، هي إسرائيل، وقد تعايش العالم العربي مع القنبلة النووية الإسرائيلية، غير المعلن عنها، بشكل رسمي، على مدار سنوات، فلماذا التخوف من إيران النووية؟ على الرغم من وشائج الدين التي تجمعها مع الدول العربية؟ والحقيقة أنّ هذا القول يبدو صحيحاً في ظاهره، لكن إيران تمارس نوعاً من التمدد والاختراق في الدول العربية، بما يهدد مقومات الدولة الوطنية، بمعنى أنّ انتشار الأقليات الشيعية في عدد من الدول العربية، منح إيران عامل قوة، غير متوفر لدى إسرائيل، وبات أي تفوق نوعي تحدثه إيران على صعيد عناصر قوة الدولة، يترجم على الفور إلى استقواء للأقليات الشيعية، داخل دولها التي تعاني بالأساس من ضعف عناصر التلاحم الوطني، بمعنى أنّ حصول إيران على سلاح نووي، والذي يمكن أن يحولها من قوة صغيرة إلى قوة متوسطة، سيؤدي على الفور إلى زيادة حدة الصراع الطائفي، ويلحق ضرراً بالتلاحم الوطني، في عدد من دول المنطقة ويخل بتوازنات القوى.

أعلن ترامب منذ خوض الانتخابات عدم رضاه عن الاتفاق النووي

منذ تولى ترامب السلطة، في كانون الثاني (يناير) العام 2017، وحتى شباط (فبراير) العام 2018، اتبعت الإدارة الأمريكية أسلوب العقوبات الجزئية، على الأفراد والكيانات الإيرانية، بهدف إجبار طهران على التفاوض بشأن اتفاق نووي جديد، أو تعديل بعض البنود في الاتفاق القديم، لكنها رفضت كل هذه المقترحات، وبعدها حددت الولايات المتحدة مطالب على إيران تنفيذها، حتى لا تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وهي؛ تعديل الاتفاق النووي، وفتح المواقع النووية الإيرانية، للتفتيش المفاجئ، وأن يكون وقف الأنشطة النووية الإيرانية وقفاً أبدياً، غير مقيد بفترة زمنية، وإيقاف برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وتوقف إيران عن أنشطتها المعادية لدول الشرق الأوسط، الحليفة للولايات المتحدة، بما في ذلك التواجد الإيراني المباشر في ميادين القتال بالشرق الأوسط، أو دعم الميليشيات المسلحة، أو مد الجماعات المتمردة بالسلاح.

اقرأ أيضاً: إيران: مليارات الحرس الثوري آخر صراعات المحافظين

وقد دشّنت الولايات المتحدة إستراتيجية جديدة تجاه إيران، مكونة من اثني عشر بنداً، منها سبعة بنود، خاصة، بتدخلات إيران في المنطقة، وقد جاءت الإستراتيجية على هذا النحو، بعد إعلان الولايات المتحدة أنه لا فصل بين التصدي للأنشطة النووية الإيرانية، والتصدي للسلوك العدائي الإيراني، حيال دول المنطقة. وتبع ذلك إصدار حزمتين من العقوبات الشاملة؛ الأولى، كانت في آب (أغسطس) 2018، والثانية، في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ذاته، وكان الهدف من هذه العقوبات، هذه المرة، إجبار إيران على تغيير سلوكها، والرضوخ لعقد اتفاق نووي جديد، من خلال فرض حظر على الصادرات النفطية الإيرانية، بحيث تصل إلى مستوى الصفر، وفرض عزلة مالية وبنكية على طهران، بحيث لا تستطيع ممارسة التجارة العالمية، إلا من خلال رقابة أمريكية، لا تسمح إلا بتلبية الاحتياجات الإنسانية، وبالتالي، تجفيف منابع تمويل الميلشيات المسلحة التابعة لإيران في المنطقة، ثم تعريض النظام الإيراني لاحتجاجات شعبية تدفعه لتلبية المطالب الأمريكية.

منذ نهايات العام الماضي، تشهد عدة مدن إيرانية احتجاجات شعبية، واضطرابات محلية في الداخل المحلي، تعكس تناقضات سواء في بنية المجتمع، تتمثل في التفاوت الطبقي، ومعدلات البطالة بين الشباب، والتضخم، والفساد، بالإضافة إلى القمع، وخصوصاً، ضد الأقليات الدينية والقومية والإثنية.. إلى أي حد يمكن أن ينذر ذلك المشهد الاحتجاجي عن تغييرات في بنية الحكم، والمرتكزات التي يقوم عليها، ومن ثم تهديد لمصالحه وإستراتيجيته السياسية؟

الاحتجاجات التي اندلعت في إيران في كانون الأول (ديسمبر) 2017، لها أسباب متعددة؛ منها ما يمتد إلى مرحلة إعلان الجمهورية، ومنها ما هو اقتصادي، بسبب تردي الأوضاع، ومنها ما هو مرتبط بالمشاركة السياسية، والحريات العامة.

دشّنت الولايات المتحدة إستراتيجية جديدة تجاه إيران مكونة من اثني عشر بنداً منها سبعة بنود خاصة بتدخلاتها في المنطقة

بيد أنّ قطاعاً كبيراً من الشعب الإيراني الطامح للتغيير، يرى في الاتفاق النووي بداية الانفتاح والتحول إلى دولة طبيعية، تسعى للنمو والرفاهية، بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية، والحشد المستمر من قبل النظام تحت دعاوى ثورية، تحمل المواطن الإيراني مسؤولية ما يحدث في العالم، بينما يرى أنّ مستوى معيشته في تراجع مستمر، على الرغم من امتلاك إيران لثروات من النفط والغاز، كان يفترض أن توفر للمواطن الإيراني مستوى معيشة، يفوق رفاهية دول الضفة الجنوبية من الخليج على حد قول الإيرانيين، ما دفع الإيرانيين للاحتجاج، بعد رؤيته لمليارات العائدات النفطية الإيرانية، التي تنفق لدعم الميليشيات المسلحة، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بينما تستولى حكومته على أرصدة معاشات التقاعد، أموال صغار المودعين في شركات توظيف الأموال، لكي تسدد عجز الموازنة، فضلاً عن لجوء الحكومة الإيرانية لرفع أسعار المحروقات، بينما القيادة الدينية، ترى أنّ من واجب جميع أفراد الشعب الإيراني الاستمرار، إلى ما لا نهاية، في الحرب ضد الإمبريالية، وفي الوقت نفسه الرضا بإهدار الحريات الشخصية، وقمع المعارضة، وإسكات كل صاحب رأي أو فكر مغاير، حتى لا يعطل مسيرة القيادة، والولي الفقيه، في سعيه إلى تهيئة الأرض لعودة صاحب الزمان الإمام الغائب، هذه الأفكار ربما كان لها بريقها في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لكن الآن لا تعدو كونها لحناً شاذاً لا تحتمله أذن الشباب، الطامح للحياة الطبيعة، دون أن يتحمل ما لا يحتمل.

الحرس الثوري الإيراني

مع كل هذه التراكمات، والاحتجاجات المعبرة عنها، يتمتع النظام الإيراني بقبضة أمنية قوية، وعلى الرغم من إطاحة ثورات "الربيع العربي" بفكرة أنّ القبضة الأمنية القوية، من الممكن أن توفر البقاء والاستمرارية لنظم الحكم الديكتاتورية، إلا أنّ النظام الإيراني يعتمد بالأساس على خلق طبقات وفصائل اجتماعية داعمة، على أساس المصالح، فضلاً عن الاحتيال الأيديولوجي الذي يمارسه، ومن ثم، من الصعب، في الوقت الحالي، أن تؤدي هذه الاحتجاجات الشعبية إلى إطاحة النظام، لكن هناك لحظة فارقة يمكن أن تستفيد منها الجموع الشعبية المعترضة، وهي وفاة خامنئي، عندما تدخل أجنحة النظام لتحديد من له الغلبة، إذا ما اندفعت الجموع الشعبية في هذه اللحظة الفارقة، ولم يتم الهاؤها عبر وسائل الإعلام الحكومية، وفطنت المعارضة الإيرانية المسلحة بالخارج، إلى استغلال هذه اللحظة، حيث يمكن أن يترنح النظام الإيراني، ويسقط تحت وقع ضربات معارضة الخارج، واحتجاجات الداخل، ويبدو أن المعارضة الإيرانية بالخارج قد فطنت في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، إلى هذه النقطة ووقعت 10 فصائل منها بياناً، للتعاون المشترك لإسقاط النظام الإيراني، وتأسيس لأوضاع ما بعد نظام ولاية الفقيه.

هناك حالة حقوقية برزت في خضم المشهد الاحتجاجي نفسه، المتواصل على مدار ما يقرب من عام في طهران، تمثلت في خلع الحجاب، والتخلي عن التشادور، مثلما جرى في المظاهرات الرمزية المعروفة بـ"الأربعاء الأبيض"، لرفض الزي الإلزامي على الفتيات، وفي المقابل، شهدت الحوزات الدينية هجوماً على مقرات رجال الدين، والتعدي على منابرهم.. هل ترى أنّ الحاضنة المجتمعية التي تحمي سياسة الملالي وولاية الفقيه تتآكل؟

ما حدث من حركة مناهضة للحجاب الإجباري، في إيران، هو ردة فعل شعبية تجاه النظام السياسي، وليس ضد القيم الدينية أو التقاليد المجتمعية، لقد تحول الحجاب في إيران إلى رمز للقمع السياسي، الممارس من قبل رجال الدين، المحتكرين للسلطة السياسية والدينية على حد سواء.

ليس صحيحاً أنّ إيران هزمت في العراق أو أنّها خسرت كل شيء بل على العكس خرجت بعدة مكاسب كبيرة

الصورة الشهيرة لفتاة إيرانية، تضع الحجاب على رأس عصا، وترفعها وهي واقفة في ثبات طافت العالم، وتناقلتها منصات الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وكررتها عدة فتيات في أماكن مختلفة، واكتسبت تعاطفاً كبيراً، في المجتمع الإيراني، حتى بين الطبقات المؤيدة للحجاب كالتزام شرعي. لا شك أنّ سيطرة الفقهاء على جميع مراكز السلطة في إيران قد ولد شعوراً عدائياً، تجاه هذه الفئة المجتمعية التي أقصت جميع المنافسين، وخلقت طبقة خاضعة من التكنوقراط، تسلم قيادة نفسها لرجال الدين، سعياً وراء الوظائف الإدارية متوسطة المستوى، ولا يسمح لها بتبوّؤ الوظائف القيادية، إلا من خلال إظهار المزيد من الطاعة، والخضوع لرجال الدين.

كان الهجوم على الحوزات الدينية، التي منها يتخرج جلادو الشعب الإيراني، أثناء الاحتجاجات الشعبية، بمثابة مؤشر على تآكل مكانة الحوزة الدينية في المجتمع الإيراني، مقارنة بما كان لها من احترام لدى جموع الشيعة الإيرانيين في عهد الشاه.

اقرأ أيضاً: اسحاق جهانغيري: لن أسكت.. والحرس الثوري يمارس التضليل

يبدو أنّ انتقال المؤسسة الدينية الشيعية، من موقع المعارضة إلى موقع السلطة الحاكمة، قد أضر بها إلى حد كبير، على مستوى الرضا الجماهيري؛ فسوء الممارسة السياسية القمعية، والديكتاتورية المفرطة، وانتهاك الحريات العامة والشخصية، أطاح بحلم المدينة الفاضلة، التي يحكمها رجل دين فاضل، وتحول الأمر إلى كابوس يخنق أنفاس الإيرانيين؛ فرجل الدين الذي يقمع الحريات، وينفذ الاعتقالات، وربما، الاغتيالات، هو نفسه الذي لديه القدرة على القول بأنك من أهل النار، وكأنه لا فرار من سلطته، لا في الدنيا ولا الآخرة.

هل يمكن تحديد الفصائل التي تتبنى مقاومة السياسة الدينية في إيران، والعوامل التي شكلتهم أيدولوجياً، وتحديد سماتهم الرئيسية؟

في السنوات الأولى، من عمر الجمهورية الإيرانية، نجح رجال الدين في إقصاء معارضيهم، واضطرت معظم الفصائل ذات الآراء المغايرة، إلى الفرار خارج ايران؛ مثل، جماعات مجاهدي خلق، وفدائي خلق اليساريتين، والأحزاب ذات التوجهات الماركسية؛ مثل، كوموله، وتوده، وتم كبت الفصائل السياسية ذات التوجهات الوطنية والقومية؛ مثل الجبهة الوطنية وحركة تحرير إيران، وفي نفس الوقت، طبق النظام الإيراني برامج عرفت حينها بالثورة الثقافية؛ كان من أهم أهدافها تغيير الواقع الثقافي والفكري الإيراني، فأغلقت الجامعات، ووضعت مناهج دراسية جديدة، وطرد عدد كبير من أساتذة الجامعات، وفرضت رقابة شديدة على الصحف والمطبوعات.

من احتجاجات الشعب الإيراني ضد الحجاب الإلزامي

لكن واقع المشهد الإيراني الحالي، على المستوى السياسي، يعكس اضمحلال قوى المعارضة السياسية، وهي حالة استطاع النظام الإيراني (الولي الفقيه والمؤسسات التابعة له) خلقها، أثناء فترة تولى أـحمدي نجاد للسلطة، بداية من عام 2005، عندما شرع في تفكيك مؤسسات المجتمع المدني الإيراني، التي كانت قد ازدهرت في عهد سلفه الرئيس الإيراني محمد خاتمي، بعد القضاء فعلياً على قوى الإصلاح السياسي عام 2009، حيث قام نجاد في فترة ولايته الثانية بتفكيك جبهة الثاني من خرداد، التي كانت تشكل المظلة الكبيرة، التي تجمعت تحتها قوى الإصلاح السياسي، بكامل أطيافها من الإسلاميين التقدميين، وبقايا اليسار الوطني الإيراني، والتيارات الليبرالية، متعددة التوجهات، وحالياً لا توجد قوى إصلاح حقيقية، وما يقال عن التوجهات الإصلاحية للرئيس حسن روحاني، ما هو إلا زيف إعلامي، لا يمت للواقع بصلة، فالرجل كان ممثل المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي، ثم سكرتير المجلس، ورئيس أركان قوات الدفاع الجوي.

اقرأ أيضاً: إيران تكثف قمعها لمواطنيها في الخارج

روحاني أيضاً كان يمثل لدى انتخابه، بداية تهدئة بين النظام، والمتبقي من قوى الإصلاح على الساحة السياسية الإيرانية، وعلى مدار فترتيه الرئاسيتين، لم يسمح لأي فرد ينتمي للإصلاحيين بتولي مقعد وزاري، وهو أمر لم يظهر الإصلاحيون مطالبة قوية به، نتيجة لمقارنتهم بين أوضاعهم في عهد روحاني، وأوضاع نكبتهم بعد احتجاجات العام 2009، وإن كان نائب روحاني، إسحاق جهانغيري، شخصية مقربة من الإصلاحيين، لكن وزراء روحاني جاؤوا من الفصيل الأصولي المحافظ، الذي يتزعمه على لاريجاني، وهو فصيل يقف كحائل بين الإصلاحيين، وجبهة الصمود التيار الأصولي الأشد تطرفاً.

وماذا عن العقوبات الاقتصادية التي استهدفت بها واشنطن طهران، وعن أي شيء ستسفر مآلاتها في الواقع السياسي الإقليمي؟

العقوبات هذه المرة دافعها اقتصادي بحت، وليس كما كانت في عام 2013، عندما استشعر العالم خطراً حقيقياً من البرنامج النووي الإيراني؛ فحدث تكاتف دولي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعدم ممانعة من روسيا والصين، وقد ساعد على هذا الأمر حينها علاقات جيدة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وتقارب مع منافسيها في روسيا والصين، أما الآن فالأمر يختلف، وإذا نظرنا بداية لموقف الولايات المتحدة، نجد أنها تسعى لتعظيم مكاسبها من الدول الخليجية، مقابل تحجيم الدور الإيراني في المنطقة.

يلعب الحرس الثوري الإيراني دوراً مؤثراً في المنطقة العربية، وفي عدة بلدان أبرزها سوريا ولبنان واليمن والعراق.. ما تأثير ما يمكن وصفه باقتصاديات الحرب والدور الخارجي لإيران على الوضع المحلي، خصوصاً بعد أن طالت المؤسسة اتهامات بالفساد المالي، والتربح السياسي بدون مساءلة عناصرها ومحاسبتهم؟

تسعى إيران إلى استنساخ الحرس الثوري، في عدد من الدول العربية، كمرحلة من مراحل السيطرة على النظام السياسي داخل الدول المستهدفة، وقد نجحت في ذلك في لبنان (نموذج حزب الله)، حيث أصبح الحزب المسلح فصيلاً سياسياً اختطف السلطة، وأصبح يهدد الفصائل السياسية الأخرى كافة، ويسلب الإرادة الوطنية منها، ويدخل الدولة برمتها في صراعات عسكرية وسياسية، طبقاً لاحتياجات النظام الإيراني ومطالبه، لا حسب المصلحة الوطنية للدولة، وتكرر نفس النموذج في العراق، تحت مسمى الحشد الشعبي، الذي نجح هو الآخر في دخول البرلمان، تحت مسمى تحالف الفتح، وتحول إلى فصيل سياسي رئيسي بالعراق، دون أن يتخلى عن سلاحه، أو يندمج، بشكل كامل، في المؤسسة العسكرية العراقية، أما في اليمن؛ فهناك نوع من عدم اتباع التسلسل الإيراني في السيطرة على النظام، إذ تمردت ميليشيا الحوثي، واستولت على السلطة، أولاً، ثم حدث الدعم الإيراني، وبالتالي، من الممكن أن ينفك هذا التحالف إذا ما تغير الواقع على الأرض، وتم تنحية الحوثيين، وإعادة السلطة إلى الدولة الشرعية اليمنية.

العراق الآن يتجه نحو الاستقلالية الوطنية وخلق علاقات خارجية متوازنة ربما، ينجح وربما يفشل لكنها محاولة تحتاج لدعم عربي كبير

التدخلات الإيرانية في المنطقة كلفت الاقتصاد الإيراني كلفة باهظة، تقدرها بعض المصادر بـ350 مليار دولار، في كل من سوريا والعراق واليمن، وضخت المليارات عبر الحرس الثوري، وتحديداً، فيلق القدس، بقيادة قاسم سليماني، ولم تمر هذه المرة عبر الموازنة العامة الإيرانية، ولم تدرج في حساباتها، بمعنى أنّ هناك اقتصاداً سرياً، يخضع للمرشد، بشكل مباشر، ويتم ضخ الأموال من متحصلات بيع النفط، ومن اقتصاديات الحرس الثوري، الذي يكاد يحتكر عدداً من الصناعات الإيرانية، مثل: صناعة السيارات وصناعة البتروكيماويات، كما يسيطر على الأرصفة البحرية، ونسبة كبيرة من الحقول النفطية، ومشروعات تنميتها، ولعل نقطة الخلاف الرئيسية بين الرئيس روحاني، والمرشد علي خامنئي، هي النشاطات الاقتصادية للحرس الثوري؛ فروحاني يرى أنّ الحرس الثوري هو العقبة الأساسية أمام نجاحه في الملف الاقتصادي، وقد حاول تقليص اعتمادات الحرس الثوري في الموازنة العامة، لكنه فشل في ذلك داخل البرلمان الإيراني، وعلى العكس، ارتفعت هذه الاعتمادات، ويرجع السبب المباشر لاندلاع احتجاجات نهاية العام الماضي، والتي لا تزال توابعها تظهر بين وقت وآخر، إلى شركات توظيف الأموال، التي يمتلكها الحرس الثوري، والتي قامت بعمليات دمج فيما بينها، ضاعت على إثرها أموال عدد كبير، من صغار المودعين، كما لا تدفع المؤسسات الاقتصادية للحرس الثوري الضرائب، وهو ما يفاقم من الفساد والعجز في الموازنة وإيرادات الدولة.

مثلت الانتخابات العراقية صدمة لإيران، حيث تراجعت فيها حصة تحالف النصر، المدعوم من إيران، وأربكت أجندتها السياسية داخل العراق، وقد فسرت النتائج، بسبب حالة السخط الموجودة، من التحاق قوات الحشد الشعبي بالجيش العراقي، في عهد العبادي، والاتهامات بالفساد التي لاحقت عناصر من تلك الميلشيات، واحتلال داعش للمدن ذات التكتل السني.. لماذا أخفقت طهران في بغداد، في ظل خصوصية العلاقة التاريخية بينهما، منذ عهد صدام حسين، والصراع بين مرجعيتين في النجف وقم؟

اعتقد أن القول بوجود صدمة إيرانية، هو قول مبالغ فيه، وإذا كانت إيران قد صدمت ذلك لأنها لم تحصل على كل شيء، لكن هذا لا يعني أنّ إيران هزمت في العراق، أو أنها خسرت كل شيء، بل على العكس خرجت بعدة مكاسب كبيرة؛ أولها دخول تحالف الفتح، بزعامة هادي العامري، للبرلمان الإيراني، وحصوله على عدد من المقاعد، تجعله ثاني أكبر كتلة برلمانية، والفتح هو الحشد الشعبي، ومن أول مشاركة انتخابية يحصل على عدد كبير من المقاعد، على الرغم من حالة الحصار والعقوبات التي تتعرض لها إيران، فما بالنا بحال العراق إذا ما تحسنت الأوضاع، ولو قليلاً في إيران، ولا شك أنه سيكون على شاكلة حزب الله اللبناني، الذي قال زعيمه: "أقولها بصراحة سلاح حزب الله ورواتبه وإمداده من إيران حتى ثمن عمامتي من إيران، وطالما أنّ إيران بها أموال سيظل لدى حزب الله أموال". ومن ثم، فإنّ إيران لم تهزم في العراق، كل ما في الأمر أنّ هناك تياراً شيعياً عراقياً، له نزعة عروبية، يرفض الهيمنة الإيرانية، ومدعوم من المرجعية الشيعية العراقية، ممثلة في شخص آية الله السيستاني، ويتزعمه روحياً مقتدى الصدر، الذي نجح في الفوز بأغلبية ضئيلة في الانتخابات العراقية، وهو فصيل سياسي غير مقطوع الصلة بإيران، يسعى إلى إحداث توازن في الساحة العراقية، ما بين التعامل مع إيران والانتماء للمحيط العربي.

لعل اختيار برهم صالح رئيساً للعراق يعكس طبيعة التوازنات السياسية

ولعل اختيار كل من برهم صالح، رئيساً للعراق، وعادل عبد المهدي، رئيساً للحكومة، يعكس طبيعة التوازنات السياسية العراقية، فكلاهما وثيق الصلة بكل من إيران والولايات المتحدة، والدول العربية. العراق الآن يتجه نحو الاستقلالية الوطنية، وخلق علاقات خارجية متوازنة، ربما، ينجح، وربما، يفشل، لكنها تبقى محاولة تحتاج الى دعم عربي كبير.

وماذا عن سوريا، وهل بمقدور إيران أن تتحمل للنهاية تكلفة دورها في الحرب السورية، وتبرير ذلك للرأي العام الداخلي بطهران، خصوصاً، بعد أن تحايلت على ذلك عبر تجنيد بعض العناصر الأجنبية في الحرب؟

نظرياً، لا يمكن لإيران أن تتحمل تكلفة الحرب في سوريا، في ظل تقلص مبيعاتها النفطية، ولو نسبياً، بحكم حظر الصادرات النفطية الإيرانية، والعقوبات الأخرى التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، لكن عملياً اعتاد النظام الإيراني العمل تحت الضغط، فقد خاض حرباً مع العراق لمدة ثماني سنوات، والعقوبات الامريكية ليست بالأمر الجديد عليها؛ فمنذ قيام الجمهورية الإيرانية، عام 1979، وهي تحت العقوبات الأمريكية، بدرجات متفاوتة، ومن الناحية الاقتصادية، لدى إيران احتياطي نقدي بلغ في العام 2016، 133 مليار دولار، وانخفض إلى 108 مليار دولار في العام 2018، وبالتالي، يتيح هذا الاحتياطي الكبير نسبياً تحمل الضغوط الخارجية لعدة سنوات، وتمويل الأنشطة العسكرية في الخارج، وبالإضافة لهذا هناك في إيران اقتصاد مواز، غير معلن، وهو اقتصاد الحرس الثوري، والمؤسسات التابعة للولي الفقيه، ومؤسسات الوقف، وهي من الضخامة لدرجة أنها قدرت بـ 20%، من حجم الاقتصاد الإيراني، وهو الثالث بمنطقة الشرق الأوسط، من ناحية إجمالي الناتج المحلي بعد كل من تركيا والسعودية.

اقرأ أيضاً: إيران في فم العاصفة سواء توجهت إلى الشرق أو إلى الغرب

لكن موقف الرأي العام الإيراني، رافض للتدخل في دول المنطقة، بشكل كبير، حتى إنّ محور شعارات تظاهرات كانون الأول (ديسمبر) 2017، كانت لرفض توجيه الأموال الإيرانية لسوريا، حيث هتف المحتجون "لا سوريا ولا فلسطين روحي فداء إيران"، وغيرها من الشعارات التي عبرت عن الرفض الشعبي الشديد للسياسات الإيرانية. ولعل تجنيد الأفغان والباكستانيين في الميليشيات الإيرانية، فيما عرف بميليشيات "الزينبيون" و"الفاطميون"، كان أحد أهدافه تقليل الاحتقان الداخلي من المشاركة العسكرية الإيرانية في الحرب في سوريا.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية