فرانز فانون للعرب: المستبد المحلي يترقب في آخر نفق الثورة

فرانز فانون للعرب: المستبد المحلي يترقب في آخر نفق الثورة


05/12/2018

قبل ستين عاماً، قرر طبيب نفسي أسود من جزر المارتينيك التمرد على "المشدات الحديدية للرأسمالية" عبر الانضمام إلى الثورة الجزائرية والانخراط في النضال الفكري والمسلح ضد الإمبريالية الأوروبية. ونظراً لتكوينه النظري العالي وحماسته النضالية المُتقدة، اقترن اسمه بكفاح الشعوب المضطهدة من "معذبي في الأرض" وبصراع العالم الثالث ضد مستغليه وأسياده القدامى.

وقبل خطوة من الانضمام إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، كان فانون معروفاً على المستوى الفرنسي منذ أن ظهر كتابه "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" (1952) والذي بوأه مكانة مرموقة في أوساط اليسار الفرنسي، إلا أنّ انخراطه في تجربة نضالية حية حوّلت فكره من الانشغال بمشكلات العنصرية إلى محاولته الجسورة في تحطيم "الفالق الاستعماري" مصدر كل المظالم الصغيرة.

تكوين مُركّب

فانون ينحدر من سلالة العبيد المجلوبين من إفريقيا إلى المارتينيك، عاش حياة رغيدة في طفولته معزولة عن العالم، وتعلم في مدارس الجمهورية الفرنسية ولُقّن مبادئ الإنسانية العالمية، وحفظ عن ظهر قلب ملاحم نابليون وأمجاد التاريخ الفرنسي، إلا أنّ فضوله قاده للاطلاع على تاريخ النخاسة وتهجير السود وتهميشهم المنظم ومعاناتهم الدائمة.

اقرأ أيضاً: "عبقرية اللغة" نصوص تشتبك بالأرض والثقافة والسياسة والتاريخ

تعرف على الجزائر لأول مرة، كما يشير عبد القادر بن عرّاب في كتابه فرانز فانون رجل القطيعة، خلال متابعة دروسه العسكرية في بجاية عام 1944. وخدم فرنسا ببسالة خلال الحرب العالمية الثانية التي خرج منها جريحاً ومُنح ميدالية تكريماً لدوره في الحرب وعاد إلى المارتينيك.

بوصفه محارباً، حصل على منحة دراسية بكلية الطب في ليون، وهناك واجه العنصرية لأول مرة في حياته وتعرف على تضاريس المحيط العدواني ضد الإنسان الملوّن، فراح يهتم بأعمال إيمانويل مونيي وجون لاكروا ليصبح واعياً بطبيعة العبودية في الجزيرة التي نشأ فيها، ولتسقط من رأسه إلى الأبد محفوظات الأخوة الإنسانية والمساواة بين البشر وكل قيم العلمانية الفرنسية.

حاجج فانون بأنّ تجاهل الفلاحين من العملية الثورية يعني استبعاد الطبقة الثورية

المناضل الجزائري محمد الميلي يروي في كتابه فرانز فانون والثورة الجزائرية أنه حين التحق فانون بهيئة تحرير بجريدة "المقاومة الجزائرية" كان المحررون يشعرون بالضآلة عندما يتحدث عن المبادئ الكبرى للثورة، أو عندما يعرض قسطاً بسيطاً من ثقافته الرفيعة، وكان السؤال الذي شغل بال الثوريين الجزائريين كيف لشاب أن يكون أخصائياً في علم النفس، وحاصلاً على إجازة في الفلسفة، ولديه هذا الكم الهائل من المعرفة وهو لا يزال في مقتبل حياته؟

بعين الماضي نظر فانون إلى الناصرية ورجال السلطة فيها وبعين الحاضر نظر إلى مستقبل البلدان الماضية في طريق التحرر

بالفعل، كان فانون أثناء دراسته بكلية الطب ينهل من فلسفة ميرلو بونتي ولينين وكارل ماركس وهايدغر وبالطبع فرويد، وفكر كثيراً في إتمام دراساته الفلسفية إلا أنه قرر في النهاية أن يعمل في ميدان عملي متماس مع الحياة اليومية، خاصة في بلد تفعل فيه الظاهرة الاستعمارية فعلها في قهر المستعمرين واستعبادهم، فذهب إلى الجزائر ليعمل بمستشفى الأمراض العقلية في البليدة.

هناك أشرف على قسم يضم 150 مريضاً أوروبياً و200 جزائري وحاول تطبيق أساليب العلاج الاجتماعي، كما تدرب عليها على المرضى جميعاً، فوجد أن الأوروبيين وحدهم يستجيبون لها على عكس الجزائريين الذين تختلف بيئتهم الاجتماعية عن نظرائهم من الأوروبيين اختلافاً أساسياً، وأثناء بحثه عن طبيعة وأسباب ذلك الاختلاف اكتشف فانون أنه يعود إلى الوضع الاستعماري الذين يجعل من المستحيل حل المشكلات الناتجة عنه في إطار علومه ووسائله، فكان انضمامه للثورة الجزائرية.

الذهاب إلى الحرب

بعد انضمامه للثورة، تابع فانون نشاطه الفكري على صعيد مزدوج: مواصلة دراسته للحالات النفسية التي تقع ضمن نطاق اختصاصه، وتوسيع ثقافته السياسية وتعميقها، إلا أنه سرعان ما تفرغ كلياً للعمل في صحافة الثورة ضمن هيئة تحرير "المجاهد" في وقتٍ كانت فرنسا تتأهب لتحويل الجزائر إلى معسكر اعتقال كبير من خلال إقامة الخطوط المكهربة وزرع الألغام على حدودها الشرقية والغربية، وخلال اجتماعات هيئة التحرير انخرط فانون في النقاشات الدائرة حول الوحدة العربية ودور الإسلام في حركة التحرير وطبيعة الثورة التي يعد قوامها من الفلاحين وليس البروليتاريا، فكان، كما يُسجل الميلي، يكثر من إلقاء الأسئلة حول ما لا يعرفه من دقائق الحياة الاجتماعية في الجزائر ويتابع كل ما يُقال بعناية ظاهرة.

غلاف كتاب "فرانز فانون والثورة الجزائرية"

أفادت هذه المرحلة فانون على المستوى النظري والسياسي؛ فعلى عكس الشائع عن تأثير فانون الحاسم في مسيرة الثورة الجزائرية، كانت هذه الثورة صاحبة الفضل الأكبر في تطوير فكره ودفعه في منحنى ثوري لم يعرفه من قبل، وهو ما سمح له بأن يؤثر فيها بعد أن استوعب مبادئها وهضم أفكارها ودرس، بدقته المعهودة، الواقع الاجتماعي الذي أُنجرت ضمن شروطه.

اقرأ أيضاً: "هوية فرنسا" لفرنان بروديل: كيف يُكتب التاريخ؟

وبتأثير حرب التحرير الجزائرية، انتقل فانون من التمرد الفردي على "القيم البيضاء" و"الزنوجة" وماضيها، في آن، كما يتجسد في كتابه بشرة سوداء، إلى الإدانة الكاملة للاستعمار ومن ثَمّ الانخراط في أممية جديدة على مستوى العالم الثالث بعد أن أتاحت له جبهة التحرير اتصالات جديدة مع العالم الخارجي وكلّفته بالتواصل مع حركات التحرير الإفريقية وجعلته متحدثاً دبلوماسيا باسمها.

صهرت الثورة الجزائرية فانون وصار اسمه علماً على العنف الثوري: عنفها الذي عصف بالاستعمار الفرنسي

أتيح له في ظل هذه الوضعية أن يتلمس عن قرب تلك المعطيات التي مكّنت الثورة الجزائرية من أن ترتفع فوق ظرفها المحلي إلى مستوى التجربة التي يغمر إشعاعها محيط العالم الثالث كاملاً، وسرعان ما أدرك فانون، كما يقول الميلي، الدروس التي يمكن استخلاصها من التجربة الجزائرية وتقديمها للعالم الثالث كي يستفيد منها في صراعه ضد الاستعمار، وكانت الملاحظات التي أوردها في معذبو الأرض بصدد التحرر الوطني ثمرة لهذا الاحتكاك المباشر.

فإذا كان الاستعمار الفرنسي للجزائر مختلفاً عن أي تجربة استعمارية أخرى في عنفه وجذريته ومحاولته محو الشخصية الوطنية الجزائرية والقضاء على أي جيب من جيوب المقاومة؛ فإن الثورة الجزائرية دُفعت بطريق رد الفعل إلى أقصى درجات الراديكالية في طريق استرجاع الحقوق عن طريق الكفاح المسلح، وفي خضمها قطع فانون مع ماضيه الفرنسي، تماماً، على المستوى السياسي إلى درجة أنه دعا سارتر لـ"تطهير نفسه من الفرنسة" وتردكلت أفكاره، التي هي مزيج من الماركسية والوجودية وعلم النفس، لتصبح على مستوى جذرية الثورة الجزائرية؛ لتتحقق فيه مقولة رومان رولان: "قيمة ثورةٍ ما تظهر من خلال قيمة الرجال الذين تصهرهم". صهرت الثورة فانون وصار اسمه علماً على العنف الثوري: عنفها الذي عصف بالاستعمار الفرنسي.

ثورة التحرير الجزائرية

التقليد كمحرك للمقاومة

في تحليله لطبيعة العنصرية، كما جاء في كتابه من أجل ثورة إفريقيا، ذهب فانون إلى اعتبارها قمعاً منظماً يمارسه شعبٌ ضد آخر ضمن سياق استعماري يفرض ضرورة إخضاع "السكان الأصليين" بواسطة التخريب المتواصل لأنماط معيشتهم وإفقارهم والحط من القيم الثقافية التي يتعرفون فيها على أنفسهم، دون القضاء على ثقافتهم نهائياً بل جعلها في حالة احتضار مستمر، مما يضطرها للانغلاق على نفسها فتتحجر تحت الضغط الاستعماري. ومن ثَمّ سيكون من سوء النية لوم "الأهالي" على جمودهم الثقافي؛ فمن غير الممكن للإنسان أن يتطور في إطار آخر غير إطار ثقافة تعترف به ويعترف بها.

اقرأ أيضاً: ثورة التحرير الجزائرية: نحن ثرنا فحياة أو ممات

وبالتحاقه بصفوف الثورة وتعرفه على الدور الذي لعبته الثقافة الوطنية الجزائرية في تدشين الثورة، تطور موقف فانون نحو الدفاع عن الثقافة العربية الإسلامية بوصفها أولاً: استعصاء على سياسات الاندماج الاستعماري، بتعبيره "إنّ الانغماس في الماضي هو شرط الحرية"، وثانياً: محرك الثورة الأساسي ضد المحتل. وكان موقفه هذا سبب اتهامه من قبل المعهد العالمي للعمال في الأكاديمية السوفيتية بـ "الانحراف عن تعاليم الماركسية - اللينينية لتأثره بثقافة الجزائر الإسلامية".

وضمن هذا السياق، مجّد فانون شخصية المرأة الجزائرية التقليدية وهو موقف يتفق فيه مع مثيله الإيراني علي شريعتي (وبينهما مراسلات حول دور الثقافة الإسلامية في التحرر الوطني) في إدانة عملية التثاقف مع الغرب وتبني قيمه أثناء الوضعية الاستعمارية؛ فشريعتي في كتابه العودة إلى الذات اعتبر أنّ أيديولوجيا تحرير المرأة، تهدف بالأساس إلى فتح سوق للكماليات الرأسمالية التي تتعلق بمنتجات الموضة والسيطرة على المجتمعات من خاصرتها، وبلغته اللاذعة انتقد النخبة الإيرانية التي تنكرت للقيم التقليدية، وبالحماسة نفسها دافع عن "الشادور" (الزي الإيراني التقليدي) فيما اعتبر فانون في الثورة الجزائرية في عامها الخامس أنّ تحويل المرأة الجزائرية وربحها إلى جانب القيم الغربية وانتزاعها من وضعها التقليدي، يعني السيطرة على الرجل وتحطيم الثقافة الجزائرية بفاعلية. وتمادى فانون في المسألة إلى حد القول إنّ كل حجاب يسقط وكل جسم يتحرر من "الحايك" (الزي الجزائري التقليدي) وكل وجه امرأة يتعرض للأنظار يعبر سلبياً عن أنّ الجزائر بدأت تتنكر لنفسها وتقبل باغتصاب المحتل.

في سوسيولوجيا ثورة ذهب فانون إلى فكرة قريبة من هذه، وهي أنّ الدول الرأسمالية لا تحمل للشعوب المستعمرة الثقافة والذوق الجمالي بدافع الحضارة، لكنها تريد أن تغرس عند كل مستعمّر عقلية تتبع الأوروبي فتدفعه إلى شرب الخمر إضعافاً لبدنه وإرادته حتى تتمكن من استغلاله بسهولة.

تعرف فانون على الجزائر لأول مرة كما يشير عبدالقادر بن عرّاب خلال متابعة دروسه العسكرية في بجاية عام 1944

أما تعاطفه مع فلاحي الثورة الجزائرية، كما تجلى في معذبو الأرض فيعود، بدرجة قليلة، إلى تأثير إيمي سيزير المبكر عليه في مسألة التعلق بحياة الفلاحين وقيمهم باعتبارهما "فلكوراً ناجياً من اكتساح الثقافة الغربية" كما كان لخلو حياة الفلاحين الجزائريين من كل مظاهر الحياة الأوروبية سبباً أكبر في انجذابه إليهم بحكم عدائه لمظاهر التأثير الغربي بالجملة، أما السبب الأهم في تشكّل هذا التعاطف لدى فانون فيعود إلى أنّ الثورة الجزائرية تطورت وتمركزت منذ البداية في الريف ضداً من إستراتيجية الأحزاب التي تعتمد على المدن حصرياً في إحداث التغيير السياسي المنشود، وإذ ذاك كان الفلاحون مادة الثورة وأساسها.

اقرأ أيضاً: القصة الكاملة للصراع بين السلطات الجزائرية والأحمدية

من درس الجزائر توصل فانون إلى خطأ النظرية الكلاسيكية للثورة في العالم المستعمَر بتجاهلها لطبقة الفلاحين من الصراع؛ كان ماركس يصفهم بـ "أكياس البطاطا" وماركسية القرن العشرين تؤمن فقط بثورة الطبقة العامة، والحزب الشيوعي الفرنسي كان يرى مستقبل الجزائر كمقاطعة من فرنسا الاشتراكية، وحسب ديفيد كوت مؤلف السيرة الفكرية لفانون، فإنّ القائد الفيتنامي الشهير نجوين نغي وجّه انتقاداً لاذعاً لفانون لمساندته ثورة فلاحين، وعلق على ذلك قائلاً: لن يكتسب الفلاحون وعياً ثورياً لأنهم يفتقدون التكوين العلمي الضروري الذين مكنهم من التنظيم والتعبئة.

حاجج فانون بأنّ تجاهل الفلاحين من العملية الثورية يعني ببساطة استبعاد الطبقة الثورية الوحيدة التي لا تخشى أن تخسر شيئاً بالثورة، بل تطمع أن تكسب بالثورة كل شيء، وفيما يشبه الانقلاب على مفهوم الماركسية للثورة همّش فانون طبقة العمال (التي لا وجود لها واقعياً في المستعمرات) في خطاطته الثورية، وأحل محلها الفلاحين الذين يعيشون على هامش الحياة الحديثة، منغلقين على كل تأثير استعماري؛ فـ"الفلاح الجائع هو المستغل الذي يكتشف أنّ العنف وحده هو الوسيلة المجدية لتحرره".

اقرأ أيضاً: فتوحات أم استعمار؟!

لكن الفلاح لا يثور وحده بل لابد من إعداده للثورة، وهي مهمة منوطة بالأقلية الثورية داخل أحزاب المدن والتي تعجز عن التأقلم مع المسارات السياسية التي يخطها الاستعمار للأحزاب "الشرعية" فتلجأ إلى الريف فيحتضنها الفلاحون ويخفون كوادرها عن عيون الشرطة ويقدمون لهم يد العون المادي والمعنوي، وإذا أُضيف هذا العون إلى خبرتهم السياسية وأفكارهم التي أُنضجت في المدن، يكون لدينا ثوار قادرون على فكفكة الاستعمار. وإستراتيجية فانون هذه لم تكن سوى تصوير دقيق لانشقاق الجناح الثوري من الطبقة السياسية الجزائرية، انفجار 1954، الذي افتتح تاريخاً جديداً تماماً للجزائر واجتذب فقراء المدن والمنبوذين والمجرمين (الذين صهرتهم الثورة فيصيرون "أشاوس") إلى معركة التحرير.

القومية كقيد على التحرر

سردية فانون المضادة للنظام الاستعماري تجسد رداً على الادعاء أوروبا الثقافي بأنها المرشد الأمين لغير الأوروبيين، ويلخص فانون هذا الرد في مقولته الشهيرة "لا نريد الالتحاق بركب أحد" (في تلميح إلى أيديولوجيا اللحاق بركب الحضارة) وهو الرد الذي يقع في صلب القومية المناهضة للإمبريالية والمنغرسة في الدولة المستقلة حديثاً، لكن الدولة القومية الجديدة لا يحكمها أنبياء الثورة ولا المتمردين الرومانتكيين بل من قبل السياسيين أصحاب النزعة العملية، كما يحاجج بارثا تشارجي وينقل عنه إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية؛ لذا كان على فانون أن يبين مزالق هذه القومية؛ كيلا يحل المستبد المحلي محل المستعمر الأجنبي.

انتقل فانون من التمرد الفردي على "القيم البيضاء" إلى الإدانة الكاملة للاستعمار

ويمثل معذبو الأرض في المجمل محاولة فانون الطموحة في تجاوز ثنائية الاستعمار/القومية في لحظة رؤيوية، كما يقول إدوارد سعيد، تتخطى النقيضين نحو التحرر في اتجاه يهدف لتجسير الهوة الفجوة بين المستعمِر الأبيض والمستعمَر العربي عبر العنف الذي يتغلب على "تشيئ" الرجل الأبيض كذات فاعلة و"تشيئ" غير الأبيض كمفعول به؛ فلا يمكن أن يحدث التغيير إلا حين يقرر المحلي أن على الاستعمار أن ينتهي، وعند هذه النقطة يدخل العنف كـ"قوة مطهرة".

انخراط فانون في تجربة نضالية حية حوّلت فكره من الانشغال بمشكلات العنصرية إلى محاولته الجسورة في تحطيم "الفالق الاستعماري"

فيما يمثل فصل "مزالق الشعور القومي" تحذير فانون، الذي ذهب مع ضجيج الاستقلال، من أنّ النخبة القومية ستتحول بشكل أو بآخر إلى وكيلة للاستعمار الجديد، وهنا سيكتشف الرجل العربي العادي أنه أثناء مشاركته في تحطيم القمع الاستعماري كان يساهم، دون وعي، في بناء نظام آخر من الاستغلال والقهر، له وجه مألوف هذه المرة: وجه عربي جداً.

بعين الماضي نظر فانون إلى مصر الناصرية ورجال السلطة فيها يحوزون امتيازات الأسياد القدامى، وبعين الحاضر نظر إلى مستقبل بقية البلدان الماضية في طريق التحرر، وفي الوقت المناسب، والمكان الخاطئ، صرّح بأنّ "القومية اقتفت أثر الإمبريالية ومضت على طريقها" وبدلاً من أن تزول الإمبريالية تعززت هيمنتها وكانت أكثر فاعلية هذه المرة؛ فلنجاح التمويه على الشعب لم تكن هناك مقاومة تذكر، وبسلاسة أُعيد تنصيب التراتبيات الطبقية والانقسامات العرقية التي خلقتها الإمبريالية وخلفتها برعاية العرب أنفسهم. كان الأفق الذي حاول فانون اجتراحه: "الانتقال من الوعي القومي إلى الوعي السياسي والاجتماعي" الذي تبتلعه القومية باستمرار؛ فلم يبقَ من صرخته سوى أصداء خافتة لا يتعدى تأثيرها الأربعين صفحة التي يضمها فصل "مزالق الشعور القومي" من الطبعة القديمة التي لم تتغير هيئتها حتى مع إعادة نشر معذبو الأرض مع زوابع الثورات العربية الجديدة الماضية إلى مزالق بعضها قديم وآخر مستجد.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية