الإسلام والحداثة: "الربيع العربي" وجدل الدين والسياسة مجدداً

الإسلام والحداثة: "الربيع العربي" وجدل الدين والسياسة مجدداً


22/03/2018

ساهم "الربيع العربي" وأحداثه المعقدة في إثارة جدل واسع، على المستوىين السياسي الفكري؛ حول علاقة الدين بالدولة، وذلك في ظلّ صعود وتنامي الحركات الدينية، وقوى الإسلام السياسي، التي استلمت الحكم في القاهرة وتونس، ومحاولاتها فرض هيمنة أيديولوجية، على الدولة والمجتمع، فيما عرف بـ "أسلمة" المجتمع، أو "أخونة" الدولة، كما شاع في القاهرة إبان حكم الإخوان.

بيد أنّ التنظيمات الجهادية التي امتلكت إمكانيات عسكرية ولوجيستية ومعلوماتية، مثل داعش، تمددت وتمكنت من إعلان ولايات تابعة لها في سيناء، وتنفيذ عمليات مسلحة مؤثرة، وترويج ذلك دعائياً، بشكل تجاوز العمل التقليدي للجماعات الحركية، فرض إشكاليات كثيرة، حول فهم الخريطة المعقدة التي تستغلها لبناء وجودها، وتعميق نفوذها، إضافة إلى إعادة التساؤل من جديد حول أسباب فشل وإخفاق التحديث، في المجتمعات العربية، وارتداداتها التاريخية، بين أقواس الهزيمة، والعنف الديني، وعدم تحقيق شرط التقدم.

تناول الكتاب مساحة زمانية وتاريخية شديدة الزخم، مرّت بمراحل شهدت تحولات، وانبثق تبعاً لها مفهوم العلمانية في الغرب

يطرح الباحث والأكاديمي المغربي، مراد زوين، أستاذ الفلسفة، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني بالمحمدية، في كتابه "الإسلام والحداثة"، مجموعة من القضايا الفكرية والنظرية، التي استعادتها الأحداث السياسية، منذ عام 2011، وخاض فيها مفكرون قبل قرن ونصف، حول جدلية العلاقة بين الدين والدولة، ووظيفة المعتقد الديني في حياة الفرد والمجتمع، وتعييناته في الفضاء السياسي، والمتخيل الاجتماعي.

الدين والعلمانية في الفكر السياسي العربي

تناول الكتاب مساحة زمانية وتاريخية شديدة الزخم، مرّت بمراحل شهدت تحولات في السياسة والفكر والاجتماع، وانبثق تبعاً لها مفهوم العلمانية في الغرب، حتى اشتقت طريقها إلى الحداثة، وقادت طريقها إلى الفصل بين السلطتين، الدينية والسياسية، وذلك عبر الإحاطة، في المقابل، بظروف نشأة إشكالية العلمانية في الفكر السياسي العربي، والتأثيرات الوافدة من السياق الغربي، ومقاربة ذلك في ضوء الكتابة السياسية العربية المعاصرة، منذ القرن التاسع عشر إلى بداية القرن الحالي، مع بدايات نشوء فكرة النهضة الإصلاحي إلى أزمة الدولة الوطنية.

وقد تناوب الباحث المغربي، في طرح آراء ونقاشات مفكري النهضة العرب؛ من محمد عبده وفرح أنطون، مروراً بالشيخ علي عبد الرازق وكتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، فضلاً عن الأطروحات الفكرية التي تقاطعت بين المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والمفكر السوري جورج طرابيشي، التي كانت قائمة خلال ربع قرن، حول شرح تعقيدات العلاقة بين السياسة مع الدين، وأزمة الأصولية الدينية، والعقل الماضوي والسلفي، المتحكم بتوجهاته وانحيازاته وآرائه، في التعاطي مع التاريخ وأحداثه، والصراع الممتد بين التراث وقيم التنوير والانقسامات، التي خلقت تيارين رئيسين؛ أحدهما تبنى مواقف توفيقية، وثانيهما ضدية.

مضى الكاتب إلى رؤية مغايرة عن دور الدين لدى الفرد والمجتمع، واشتغالاته الحقيقية في متخيل الأفراد والجماعات

ويشير زوين إلى أنّ مسألة العلاقة بين الدين والدولة، في المجتمعات العربية، طرحت في وقت كانت تموج فيه التيارات الفكرية والسياسية، بصراعات وإشكاليات الفكر النهضوي، وإعادة النظر في الأسس المعرفية والنظرية، التي انبنت عليها الثقافة العربية والإسلامية؛ بغية تحديثها وعصرنتها، في ظلّ ضغط و"هزة عنيفة"، تسبَّب فيها الاستعمار، والتحاق المجتمعات العربية في تبعية اقتصادية وسياسية وعسكرية، دفعته لسؤال صعب مع الآخر، ومواجهة مع الذات والهوية، بعدما خلخل بنياته التقليدية وكشف ضعفه.

مفكرو النهضة والعلمانية والتراث

على عكس المواقف التقليدية، التي رافقت تلك الاجتهادات، وأخذت موقفاً يقطع بالفصل بين الدين والدولة، أو التوفيق بينهما، مضى زوين إلى رؤية مغايرة، بحث فيها عن دور الدين لدى الفرد والمجتمع، واشتغالاته الحقيقية في متخيل الأفراد والجماعات، ووظيفة المعتقد السياسي في تدبير الدولة داخل أركان المجتمع.

عمد الباحث المغربي، على المستوى الإجرائي، إلى تأريخ العلاقة بين الديني والسياسي، من خلال الاشتباك مع الأدبيات والمرجعيات النظرية، لمجموعة من المفكرين النهضويين الذين خاضوا في تلك المسألة، بهدف تحليل نصوصهم، وتحديد مرجعياتهم، ومعرفة آلية ومنطق التفكير الذي يقود موقف كلّ منهم، تجاه العلاقة بين الدين والدولة، من خلال البحث عن المكبوت داخل نصوصهم، وفهم شيفراتها الداخلية، وذلك من ضوء محطتين رئيستين؛ بدأهما محمد عبده وفرح أنطون بجدل، ومن ثم كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، للشيخ الأزهري علي عبد الرازق.

ومن المقاربات التي تناولها؛ عرض نماذج متفاوتة لسبل التعاطي مع قضية الدين والدولة، مثل محمد أركون، الذي قدم طرحاً صارماً، ينحاز إلى الفصل بينهما، وعدّ الكلمة المفتاحية للحداثة السياسية، في تحقيق شرط العلمانية التي رآها بوابة المرور للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والانفكاك من التخلف إلى التنمية، والانعتاق من التفكير القروسطي.

الدين بين الوظيفة السيادية والسياسية

عرج الكاتب على آراء الجابري التي خاصمت الموقف السالف، وقدمت الإسلام باعتباره "دين ودنيا"؛ إذ أكّد الجابري أنّ العلمانية مفهوم لا ينسجم مع التراث العربي، وخارج سياقه التاريخي المحلي، ولا يمكن تبيئته، في مجتمعاتنا "الإسلامية"، وفق قياسه الأرسطي، الذي آل به إلى نتيجة مفادها أنّ الإسلام ليس فيه سلطة كنسية، كما كان الحال في أوروبا.

وفي الطرح الأخير لزوين، تناول نموذج برهان غليون، الذي تبنّى الرؤية التوفيقية بين الدين والدولة، والحداثة والتقليد، وخلط بهما رؤية علمانية، تشتقّ عناصرها ومبادئها، من الواقع العربي ومشكلاته ورهاناته المعاصرة.

عمد الباحث المغربي إلى تحرير ثنائية الدين والدولة، من رهاناتها المغلقة والضيقة، فلم تعد تشمل مجالاً معرفياً واحداً

ورأى زوين أنّ جدلية العلاقة بين الدين والسياسة لا يمكن تناولها، عبر الأطر التقليدية؛ التي تحصر الأولى باعتبارها معتقد، والثانية في كونها مجرد مؤسسة لها وظيفة سيادية، فإنه تقدّم في الرؤية والطرح إلى صورة أكثر شمولية؛ حيث عمد إلى إضاءة المجال الذي يتعين فيه كلّ من الدين، من الناحية المعرفية والاجتماعية، وتتبع التحولات التي شملت بنيته، والدور الذي يؤديه، وكيفية الحفاظ على هذا الدور وتلك المكانة، سواء لدى الفرد والمجتمع، فيما أسماه "ذروة السيادة العليا".

في المقابل؛ تناول السياسة كمجال له دور ووظيفة، حدد آلياتها وسردياتها الخاصة، التي يمكن من خلالها فهم علاقتها باستمرار العقائد الدينية داخلها، وتصنيف العلاقة القائمة بين ما أسماه "ذروة السيادة العليا"، و"ذروة السيادة السياسية".

الهيمنة الغربية ومواجهة الآخر

عمد الباحث المغربي إلى تحرير ثنائية الدين والدولة، من رهاناتها المغلقة والضيقة، فلم تعد تشمل مجالاً معرفياً واحداً؛ بل معارف فكرية متعددة، من علم الاجتماع والتاريخ والأنثربولوجيا والفلسفة، خصوصاً مع تعقد العلاقة، كما يرى، داخل المجتمع، في صورة الأفراد والارتباطات الأسرية والقبلية والطبقية، لكنّها أضحت تنتظم في شبكة تربط المجتمع كمؤسسة مدنية، والدولة كمؤسسة سياسية، وبالمعتقد كمؤسسة دينية.

وفي إطار فضّ الالتباس حول مفهوم العلمانية، وفهم السياق التاريخي والسياسي والفكري، الذي أدّى إلى ظهور ينقل زوين عبارة مهمة، كانت الصياغة الأولى، التي وثقت حدوث الفصل بين الدين والدولة، في فرنسا تحديداً، وكتبها بواسي دانغلا، وتقول: "إنّ قلب الإنسان ملجأ مقدس لا ينبغي لعين الحكومة أن تقتحمه".

لذا أضحت الدولة منذ عام 1795، في فرنسا، وفي أمريكا قبلها بأربعة أعوام، تقرّ بالفصل بين الدين والدولة، وتعمد إلى الحياد بينهما، ومساواة الكنائس جميعها أمام القانون؛ فالدولة لا تدعم أية شعائر دينية وهي حامية القانون، وفقط.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية