تجديد الفكر الديني بين مسارين

تجديد الفكر الديني بين مسارين


13/12/2018

التجديد؛ ظاهرة كونية تتجلى في الكائنات الحيّة، والموجودات الطبيعية، والمؤسسات الاجتماعية، والدورات التاريخية، وكذلك الأفكار.. إنّه قانون الحياة: "من لا يتجدّد يموت"، إلا أنّ التجديد، كغيره من مفاهيم الخطاب الديني، لم يسلم من حالة الخلط واللبس التي تُصيب الأمم في أطوار تراجعها الحضاري؛ فالمفاهيم لا تقف عند زمن بعينه، بل تتحرّك مع العقل الذي ينبغي أن يكون في حالة حراك دائم، فإذا أصيب العقل بسكون فكري، تداخلت المفاهيم وتعذّر إنتاج المعرفة.

اقرأ أيضاً: أثر الفلسفة في تجديد الفكر الديني

ورغم تداول كلمة التجديد في الخطاب الديني والسياسي، إلا أنّه استدعاء مبتذل؛ فليس وليد حراك اجتماعي، ولا تساؤلٍ بحثيّ، قدْر كونه مدفوعاً إليه من الغرب والأنظمة السياسية في سياق التصدّي للإرهاب والتطرّف؛ ما أفقده قدراً كبيراً من المصداقية والقبول، عند العامة المشككة دوماً في النخبِ الحاكمة، وما يأتي من ناحيتها، فالتغيير من أعلى قفْز على واقع معرفي واجتماعي لم يُثمر التجديد، ولا يعي دوافعه، كما أنّ المُفكّر المدفوع سياسياً إلى التجديد، يتحوّل من كونه باحثاً متعمقاً يُخاطب العقل، إلى تحوُّله واعظاً سطحياً يُدغدغ المشاعر، يدور حول نفسه في مسار سجالي، مع جماعات التمايز بالإسلام على المسلمين التي لا تتوقف عن زعمِها امتلاك الحقيقة.

وعي المجتمع لا السلطة السياسية هو الضمانة الحقيقية لقبول واستمرارية تجديد فهم المجتمع للدين

فوعي المجتمع، لا السلطة السياسية؛ هو الضمانة الحقيقية لقبول واستمرارية تجديد فهم المجتمع للدين، في ظلّ مستجدات حياتية تتأثّر بالظروف الزمانية والمكانية، وعْيٌ يُحرّض المجتمع على التوقف عن التسليم للخطاب العاطفي الذي يستهدف تحريك الانفعالات، وإسكات صوت العقل، وعْي يدفع المجتمع إلى تبَنّي الآراء المنسجمة مع العقل، ولا تخالف قطعيّ الدلالة من الوحي، ويرى في احتمالي الدلالة منه مجالاً للاجتهاد والفكر، فما كُتب فيه ليس مقدّساً، فيُحرّك فينا أقوى محرّك للتجديد من حريّة طرح السؤال وعلانية البحث في الافتراضات.

يتنازع التجديد على مستوى المفهوم والإجراءات في الفكر الإسلامي طرفان: الأوّل منهما يرى أنّ التجديد مصدره عرفاني، يُلقي إلهاماً وكرامة وفتحاً للمغاليق في نفس من اختاره الله تعالى مجدّداً، فيتصدّى للأمور العظيمة، ويُواجه أحياناً النوازل والحوادث، منطلقاً في هذا التّصور من فهمه لأحد الأخبار الآحاد ظنية الثبوت غير قطعية الدلالة؛ ففي سنن أبي داود: أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كلِّ مئة سنةٍ من يُجدِّدُ أمرَ دينِها"، فتمسّك هذا الطرف بحرفية الخبر بلا تأويل، فـ"مَنْ" الموصولية تُشير إلى شخصٍ بعينه، يتجسّد التجديد فيه، وبالغُوا في التمسك بحرفية النص، حتّى أنّهم اختلفوا في طريقة حساب المئتين التي يُبعث فيها أولئك المجدّدون: هل تعدّ من المولد النبوي، أم من البعثة، أم من الهجرة، أم من الوفاة؟ واختلفوا في المراد من رأس المئة أولها أم آخرها، فقيل: المراد أوّلها؛ لأنّ رأس المئة، من حيث اللغة، أوّلها. وقيل: بل آخرها؛ لأنّ رأس الشيء بمعنى آخره، وقالوا: "مَنْ كان على آخر المائة ومات قبل المائة الجديدة بخمسة أيام مثلاً، لا يكون مُجدداً".

اقرأ أيضاً: محمد إقبال: تجديد الفكر الديني وتأويل الكون روحياً

واختلفوا هل يُبعث في المئة عام مجدّد واحد أم أكثر؟ فقيل إنّه لا يكون إلا واحداً؛ لأنه جاء في بعض روايات الحديث التصريح أنّ "الله يبعث على رأس كلّ مئة رجلاً"، وقيل إنّه قد يكون أكثر من واحدٍ؛ لأنّ الرواية المشهورة "إنّ الله يبعث على رأس كلِّ مائة مَن يُجدّد" بلفظ "مَن" الذي يُطلق على الواحد وغيره، ثمّ اختلفوا حوله، فقديماً "ادّعى كلّ قوم في إمامهم أنّه المراد بهذا الحديث" على حدّ تعبير ابن كثير في كتابه "جامع الأصول"، وحديثاً يراه المتصوفة متمثلاً في شيخهم، ويراه الإخوان المرشد المؤسِّس، وتراه السلفية العلمية إماماً من أئمة علم الحديث.

فالتجديد عندهم ليس عملاً فكرياً معقّداً يشارك النخبة فيه العامةَ لإحداث عملية تراكمية من الإصلاح؛ بل فعْلٌ وعِظةٌ، يقوم بهما غالباً الداعية، أو الفقيه، أو المحدّث، أو الشيخ؛ فالتجديد ينحصر ميدانه عندهم في الأفكار التي تخدم الجانب الروحي/ الإيمانيّ للمسلمين فحسب، وتحوّل هذا التّصوّر وذاك الفهم إلى مُسلَّمة في الفكر الإسلامي، فـ"التجديد سنّة إلهية ومنحة ربانية تُنتظر على رأس كلّ مئة عام، وتتحدد مهمة المُجدّد، وتتلخص غاية التجديد؛ في نفْي ما ليس من الإسلام في شيء من زوائد وبِدع".

انطلاقاً من فكرة التجسيد والشخصنة لفعل التجديد حاول أصحاب هذا التصور وضْع قائمة بأسماء المجدّدين

وإن صحّت تلك الغاية في مجال الوحي المقدس قطعيّ الدلالة والثبوت، إلا أنّ هذا لا يُمثّل إلا قدراً محدوداً من مفردات التدوال الديني، وما عداها يدخل دائرة الفكر الديني والاجتهاد البشري غير المقدّس حول الدين، فالوحي مثل نبع الماء الذي خرج من عينه صافياً، والفكر والاجتهاد الإنساني الذي حمله مثل الأنهار المتعددة والجداول المتنوعة التي حملت ماء النبع الصافي، الذي لن يسلم من أن يصيبه بعض التغيّر بمجرد جريانه في أنهار العقول التي تحمله إلى الناس.

فالمُجدّد، في هذا التصور، أقربُ إلى المُخلِّص الذي عاش الإنسان الأول في قبائله أو جماعاته البدائية ينتظرُ قدومه؛ لينوب عنه في تغيير واقعه والاحتماء خلفه من ظواهر الطبيعة، هذا المُخلّص الأشبه ما يكون بشخصية هرقليز في الوجدان الإغريقي، والداعية الملهم، أو الزعيم المناضل، أو المستبد العادل، في الوعي العربي؛ لذا تطوّر الفكر الإنساني العام، وحدثت تحوّلات اجتماعية كبرى، وما يزال الفكر الإسلامي محتفظاً بفكرة المُخلِّص المنتظر، تلك الفكرة التي خرج بها يهود فترة السبي البابلي من الحضارة البابلية.

اقرا أيضاً: الخطاب الدينيّ الشعبيّ واختراق الأصوليات الإسلامية له

وانطلاقاً من فكرة التجسيد والشخصنة لفعل التجديد، حاول أصحاب هذا التصور -قديماً وحديثاً- وضْع قائمة بأسماء المجدّدين فمن القُدامى نظَم الحافظ السيوطي أسماء المجدِّدين إلى القرن التاسع بأرجوزة من الشعر سماها "تحفة المهتدين بأخبار المجدِّدين"، ومن المحدَثين صدَّر الشيخ رشيد رضا في كتابه: "تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده" بقائمة بأسماء بعض المجدِّدين، وإنْ حرّك الشيخ محمد رشيد رضا مفهوم التجديد عندما تحدّث "عن حاجة الأمة إلى مجددين من نوع آخر غير المجددين السابقين يعرفون ما وصلت إليه أوروبا في مدنيتها، ومقدار حاجة المسلمين إلى اللحاق بها بعد اتساع الفرق بينهم وبينها، وقد بعث الله إليهم من أجل هذا جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري".

التداول المعرفي لمفهوم التجديد في الخطاب الإصلاحي لم يلقَ أيّ قبول من الخطاب السلفي المحافظ

وإذا انتقلنا إلى الطرف الثاني؛ فسنجد في المقابل إصلاحيين من تلامذة الإمام محمد عبده، من أمثال: الشيخ عبد المتعال الصعيدي؛ الذي تبنّى، في منتصف القرن الماضي، تأويلات أكثر اتساقاً مع العقل، فجعل المئة عام في الخبر ليست على سبيل الحقيقة؛ بل من قبيل المجاز، فـ "المائة سنة ليست قيداً في التجديد، فقد جرت الحوادث التاريخية على عدم التقيّد بزمن، فليكن على منوالها بعثُ هذا المجدّد"، فقرّر الشيخ أنّ "الإسلام يتّسع للتجديد في كلّ زمان؛ لأنّه إذا كانت غايته النهوض العام بالإنسانية، فوسائل هذا النهوض تسير في طريق الارتقاء، ولا تقف عند حدّ محدودٍ لا تتعدّاه، وأمرُها في هذا يُخالف أمر العبادات؛ لأنّها تعتمد على الارتقاء في العلم والعرفان، والإنسان لا يمكن أن يبلغ الكمال في العلم، وإن امتدّ به الزمان، ووصل إلى آخر هذه الحياة".

والأكثر من ذلك؛ أنّ الشيخ عبد المتعال الصعيدي انتقل بمفهوم التجديد من نطاق المسلمين، وميدان المعالجة الدينية، إلى نطاق إنسانيّ أرحب وميدان الفعل الحضاري العام؛ ليمنح التجديد في التداول الإسلامي بعداً جديداً أكثر اتساعاً، فلم يكتفِ في كتابه "تاريخ المجددين"، بمن اشتهروا بالعلم الديني؛ بل تناول كلّ من عمل لغاية النهوض بالإنسانية، وأوّل مدلول الأمة في الحديث؛ بأنّها ليست أمة الإجابة بمفهومها الخاص الذي لا يتعدّى المسلمين، إنما هي أمة الدعوة بمفهومها العام، الذي يشمل جميع الناس، فليس من الضرورة أن يكون المُجدّد من المسلمين، فالأمّة تحتمل معنيين في لغة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أمة الدعوة وأمة الإجابة، والمراد بأمة الدعوة جميع الناس، منذ عصر الرسول إلى قيام الساعة، هم من أمّة الدعوة الذين أرسل لدعوتهم النبي الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، أما من استجاب لدعوة الرسول، فآمن ببعثته؛ فهم أمّة الإجابة "المسلمون"، فالتجديد بهذا المفهوم للأمة لا يقتصر على المسلمين؛ بل يتوجه إلى كلّ فعل نهضوي حضاري، يقوم به الإنسان.

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني الرقمي والترويج للتطرف

فالتجديد لا يقتصر على الجانب المعنوي؛ بل يمتدّ إلى المسائل المادية؛ أي إنّ من الإجحاف أن تقتصرَ نظرتُنا إلى المجدّدين على أنهم العلماء والفقهاء والمصلحون الاجتماعيون فحسب؛ فـ "تاريخ المجددين في الإسلام يتوجّه إلى نهوض المسلمين في أمور دنياهم قبل أن يكون تاريخ نهوضهم في أمور أخراهم"، فوضع الصعيدي قادة وثوّاراً وحكّاماً، مثل: الحسين بن علي، وخالد بن يزيد، والمأمون، والواثق، والمهتدي، والسلطان العثماني سليمان القانوني، والشاه عباس، ونادر شاه، ومحمد علي باشا، وأحمد خان، ومدحت باشا، وميرزا علي محمد، وغلام أحمد، ومصطفى أتاتورك، وعبد العزيز آل سعود، وغيرهم، جنباً إلى جنب، مع فقهاء وفلاسفة وعلماء، مثل: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو الحسن الأشعري، وابن سينا، والفارابي، والشوكانيّ، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي، وغيرهم.

مسيرة التقدّم لا يحددّها المسار الزمني الحتميّ بل الفكري المُتصاعد القادر على إحداث تراكم معرفي وإنجاز حضاري

فهؤلاء جميعاً، وإن خالف بعضهم الرأيَ الشائع، ولم يتفق معهم الشيخ في كلّ ما قالوه أو فعلوه، إلّا أنّ ما طرحوه كان بمثابة الحجرِ الذي أُلقي في بحيرة الجمود والركود الآسنةِ، فحرّك العقل المسلم؛ ليفكّر في الأسئلة التي تستدعيها حركة التجديد، وكما أنّ الشّيخَ لم يحصر التجديد في الإطار الديني؛ فإنّه حرّره كذلك من الإطار المذهبي الضيّق، فالمجدّد عنده قد يكون سنّياً، أو شيعياً، أو قادينياً، مستشهداً في ذلك بكلام أحد أئمة الحديث الذي ترجع إليه المدرسة السلفية، وهو الحافظ عماد الدين بن كثير، في كتابه "جامع الأصول"؛ الذي عدّ محمد بن الباقر، والقادر بالله، وعلي بن موسى الرّضا من الإمامية الشيعية من مجددي الإسلام.

وعودة مرة أخرى إلى العقلية الإصلاحية في فكرنا المعاصر؛ يكشف لنا رؤيتها للتجديد الذي تراه ليس وليد تجربة عرفانية خاصة منفصلة عن الواقع؛ بل على العكس، هو نتاج حالة من التفاعل الجمعيّ مع هموم الحاضر، بسياقاته التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية، وفي مقدّمتها؛ مواجهة همّ التوظيف النفعي للدين الذي يُمارسه كلا طرفي الصراع: الجماعات الدينية والأنظمة الأتوقراطية، في محاولة كليهما المستمرة في تقديم نفسه بوصفه مدافعاً عن الإسلام، فالإصلاحيون ينظرون إلى التجديد بوصفه عملية تراكمية متواصلة، وصفها ماجد الغرباوي بـ"العملية الشاقّة التي تبدأ من دراسة مشكلات الواقع ونقد الأنساق الثقافية والفكرية المهيمنة على صياغة بنية الفرد المعرفية، بغية تقويمها وفق متطلبات الحاضر، وضرورات المستقبل، وفي إطار الثابت والمتغير من الدين".

اقرأ أيضاً: تجديد الخطاب الديني... رؤية مختلفة

فالتجديد عندهم لا يأتي على نحو مفاجئ على رأس المئة عام؛ بل فعل مستمر نابع من عقلانية نقدية مبدعة، فمصدره عند الإصلاحي حالة من التفكير المستمر فـ "التجديد ليس حالة فكرية طارئة؛ بل هو الفكر ذاته في تجاربه مع الأصول التي ينبع منها، ويتجاوب معها بوسائله الخاصة، ما ليس تجديداً في مجال الفكر؛ فهو "ترديد" وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا الترديد من الفكر في شيء، ولا يمتّ إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو من بعيد، وبما أنّ قانون الحياة الطبيعية والاجتماعية هو التغيّر في كلّ شيء، سواء كان ذلك التّغير مُدركاً وملحوظاً، أو لم يكنْ، فإنّ قانون الفكر هو "التجديد"، ذلك هو قانونه من حيث هو فكر في ذاته، ويصبح "التجديد" مطلباً ملحّاً، كلّما سيطر "التقليد" الذي هو عيْن "الترديد" والتكرار لما سبق قوله، وساد؛ إذ في هذه الحالة ينفصل الفكر عن حركة الحياة، التي تمضي في حركة تغيّرها، غير آبهة بعجز الفكر عن متابعتها، فضلاً عن قيادتها وترشيد اتجاه حركة التغيير فيها".

فالعقلية الإصلاحية ترى في حُسن الفهم وصواب التأويل طريقاً إلى التجديد والتقدّم على كل المستويات؛ الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، إيماناً بقدرة الحاضر الدائمة على صياغة القوانين التي تُناسبه، فتؤسّس لسلطة العقل التي لا تُهدر خبرة الماضي، بقدر ما تستوعبها استيعاباً مثمراً خلّاقاً، فلا تُغفل فاعلية التراث ولا تتجاهلها، فلا يرفض الإصلاحي التراث، ولا يتجمّد عنده؛ بل يبحث فيه عن نقاط القوة، ليؤسّس من عناصره القادرة على البقاء قاعدة تستوعب معطيات الحضارة الحديثة، في إطار قيم الإسلام ومبادئه؛ فهو لا يُقدّس التراث، إنّما ينقده ويقوّمه، ليستلهم منه منهجه في الرقي الحضاري، وفي الوقت نفسه؛ لا يرتمي في أحضان الغرب، ولا يرفض معطياته الحضارية؛ لأنّ جزءاً كبيراً منها يعدّ نتاجاً إنسانياً، يُمكن لأيّة حضارة أن تستوعبه ضمن أُطرها الدينية والحضارية.

العقلية الإصلاحية ترى في حُسن الفهم وصواب التأويل طريقاً إلى التجديد والتقدّم على كل المستويات

غير أنّ هذا التداول المعرفي لمفهوم التجديد في الخطاب الإصلاحي لم يلق أيّ قبول من الخطاب السلفي المحافظ، الذي تعاطى مع محاولات تجديد الفكر الإسلامي بحذرِ شديد وريبة مُفرطة، فإذا سخّر العقل السلفي وصف الإصلاحيين بالمجدفين بالدين، وإذا غضب وصفهم بأعداء الإسلام، فليس هيّناً إفساح المجال لمزيد من المنهجيات العقلية في الاختيار، والتناول، والعرض، ومعالجة النصوص، في وقت ينظر البعض بارتياب لمحاولات التجديد، واصفين إياها بمحاولات لتخريب الدين، ويرى أنّ التجديد في حقيقته؛ هو تطهير الخطاب الديني من محاولات المعاصرين العبث به بإخضاعه للتفكير، وأنّ اقتراب العقل من الدين خطر ينبغي الاحتراز منه، جاعلين من التراث كتلة واحدة يختلط فيها النص الديني بمحاولات فهم النصّ، فلا فرق بين الوحي المنزَّل، وما كتبه العلماء الأوائل حوله، كلّه له قداسة الدين، فكلّ محاولة للتجديد هي محاولة للتحريف، ومثل هذه الرؤى المحافظة المنغلقة على نفسها بدافع من الشعور بالمؤامرة، ليست مرتبطة بدين أو عصر بعينه؛ بل هي فعل متكرر في كلّ الثقافات عبر العصور، وتراثنا زاخر بمواجهات بين المجددين والمحافظين؛ فمدرسة الإمام أبي حنيفة التي عُرفت بمدرسة الرأي لاستنادها إلى العقل، وتقديمها الاستحسان على خبر الآحاد، كانت محاولة تجديدية مستهجنة من مدرسة الحديث في عصرها، فأطلقوا على تلامذة أبي حنيفة سخرية اسم "الأرأيتون" المشتقة من "أرأيت لو كان الأمر كذا"، ثم سرعان ما تحوّلت إلى إحدى أهم المدارس الفقهية في موروثنا التراثي. 

اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني في عصر المعرفة والشبكية

أخيراً؛ مسيرة التقدّم لا يحددّها المسار الزمني الحتميّ المرور؛ بل المسار الفكري المُتصاعد القادر على إحداث تراكم معرفي وإنجاز حضاري في الزمن، وهذا لن نستطيعه ما دمنا نفتقد القدرة على التّعقل والتجديد أعظم الملكات الإنسانية، التي منحها الله للإنسان، ليرتقي بها على سائر الكونيات التي تُحيط به، ومن يقتل في الإنسان تلك الملكات بدافع من الجمود والتقليد؛ إنما يهوى بالإنسان من ذروة الارتقاء إلى عيش حيواني خامل يعود به إلى بدايات التاريخ.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية