العنف.. المتأصّل في بنية المستبدّ والفاسد والمتطرف

العنف.. المتأصّل في بنية المستبدّ والفاسد والمتطرف


11/12/2017

مع إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين عن هزيمة تنظيم "داعش" على ضفتيّ نهر الفرات في سورية، وإعلان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، دحر التنظيم عسكرياً في العراق، يُثار تساؤل مفاده: ماذا لو تمّ القضاء على "داعش" و "القاعدة" وبقية الميليشيات الإرهابية الشيعية في العالم العربي؟ هل ستتقلص مشكلات منطقتنا وأزماتها المستعصية؟ هل سنصحو على مجتمعات متماسكة ودول عادلة تحكم بالقانون وتنهض بالحريات؟ وهل سيسود إقليمَنا الاستقرارُ والنهوض؟
الأكيد أنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة هي "لا"، فمشكلتنا ليست مع وحش التطرف والإرهاب فقط، مع أنهما شرٌّ عظيم وعلى الجميع أن يسعى، ويكون سعيداً، لدحرهما وهزيمتهما. الإرهاب ضِلعٌ واحدٌ في مثلثٍ مدمِّرٍ لمنطقتنا، ضلعاه الآخران هما الاستبداد والفساد. وثمة علاقة عضوية ما بين الثلاثة في التجربة العربية المعاصرة والتجربة التاريخية الإسلامية؛ حيث المستبدّ العربي صنع ثقافة دينية ودنيوية تُمالِئُ استبدادَه وتسنِد تسلّطه، مُهمِّشاً القراءات العقلانية التي لم تُشبه قراءته ومصالحه، فصارتْ قراءة السلطة للدين هي المتن و"الأصل"، وهذا أفسد العقل والاجتماع. ولهذا فإننا لو أردنا ترتيب أيّ هذا الثالوث أكثر شراً لقلنا: الاستبداد ثم الفساد ثم التطرف والإرهاب.

الإرهاب ضِلعٌ واحدٌ في مثلثٍ مدمِّرٍ لمنطقتنا ضلعاه الآخران هما الاستبداد والفساد. وثمة علاقة عضوية ما بين الثلاثة

أساس مشكلة هذا الثالوث في القيم؛ فالمستبدّ والفاسد والمتطرف لا يُقِيم وزناً للحرية وكرامة الإنسان والعدالة والرحمة والمحبة والجمال. ومنذ مشروع النهضة العربية، سواء في كتابات الروّاد في القرن التاسع عشر أم في تجربة محمد علي باشا، كان ثمة قلّة اهتمامٍ بإعادة تعريف القيم والمُثل وإصلاحها، مع أنها في صُلب السؤال عن الإنسان- الفرد الذي يريد أيّ نهوض أن يخلقه. كان السؤال عن الآلة والتقنية والقوة المادية سابقاً في التفكير النهضوي، بما لا يُقاس، على سؤال القيم والإنسان وحريته واكتفائه بذاته وموقعه المركزي في الكون. كان العنف المتأصّل في بنية المستبدّ والفاسد والمتطرف يتقدّم، بل يكاد يلغي، أيّ بحث في أولوية أن تكون الحرية والحقوق المتساوية مضمونة لكلّ إنسان- مواطن، وتأكيد أنّ أي نهوض لا يُقدّس كرامة الإنسان لا قيمة له.
في التجربة الغربية، تعلّم الناسُ الدرسَ بعد تضحيات جسيمة جرّاء جشع الإقطاعيين وفساد رجال الدين والحكام الديكتاتوريين. ولأنّ النهضة العربية غير منفكّة عن استدعاء تجربة الغرب في النهوض والاحتراب، فلا بد من النظر في ثلاث مسائل:
أولها، نقد ومراجعة سردية الإسلام السياسي حول الإصلاح الديني في المسيحية واليهودية، والذي كان إصلاحاً من الداخل نزولاً عند معطيات العصر وتقدمه وتغير الأحوال، والصدارة التي احتلها العلم الحديث في تفسير الأشياء، الأمر الذي يستدعي قراءة إيجابية لذلك الإصلاح من الداخل، وعدم الخضوع لسردية التيارات الإسلاموية حول التحريف والضلال.
وثانيها، إعادة تقييم تجربة رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر، حيث الخصوصية فيها، كما يقول عبدالله العروي، تتمثل في أن مشروع النهضة جاء قبل استعمار البلدان العربية، بعكس تجارب شعوب أخرى، مثل اليابان. هذا عنى، بالنسبة للعرب، انقطاع تراكم مشروع النهضة بسبب الاستعمار، ما أتلف المحاولات "البِذرية" الإصلاحية، وكان الأسوأ ربط الحداثة بالاستعمار.

في التجربة الغربية تعلّم الناس الدرس بعد تضحيات جسيمة جرّاء جشع الإقطاعيين وفساد رجال الدين والحكام الديكتاتوريين

وثالثها، أنْ تَشَكُّلَ الدول الوطنية بعد الاستقلال لم يستوعب مؤسّسياً غنى شعوبها وتنوعها واختلافاتها، وضرورة التفكير في إدارة هذا التنوع مبكراً، فنشأ الاجتماع مُعتلاً حتى وقتنا الحالي، وجُرّمتْ أفكار مثل الفيديرالية والكونفدرالية والحكم الذاتي، أو أخفقتْ بسبب نزعات الهيمنة وشهوة ابتلاع الآخر، وكان طبيعياً أن تكون نتيجة اعتلال القيم عدم القدرة على تمثّل معادلة "أنّ ترسيخ الحرية يرسّخ الأمن والاستقرار" في بلداننا وتجاربنا الممتدة.
ما تقدّم لا يُقلل أبداً من أهمية محاربة التطرف ومكافحة الإرهاب، وما رغِبتْ هذه المقالة في مقاربته هو أنه لا أحدَ يتوقع أنْ يتفتق نهوضٌ في حال تمّت هزيمة "داعش" في العراق وسورية وغيرهما؛ لأنّ الدول والمجتمعات مريضة بالاستبداد والفساد، ودواؤها في بلورة استراتيجيات وخريطة طريق تستهدف هزيمة ثالوث يغذي بعضه بعضاً، والأمل معقود، بالطبع، في أن تفكيك أي ضلع فيه سينشر العدوى في الضلعين الآخرين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية