محمد وردي: فنان أفريقيا الأول ومنشد الثورة والعاطفة

محمد وردي: فنان أفريقيا الأول ومنشد الثورة والعاطفة


23/12/2018

يقول ألبرت آينشتاين: "الكمان صديقي الذي أعترف له بما لا أعترف به حتى لنفسي"، ومنذ طفولته الباكرة، وهو ابن خمسة أعوام؛ حين علّمته أمه (باولين) اللعب على البيانو، وإلى يوم رحيله، ظلّ آينشتاين يحتفظ بعلاقة يقظة وسهلة وحميمية بالموسيقى والرقص، فكان شديد الوله بموتزارت وباخ، حتى أنه قال: "موتزارت يقطف الموسيقى من الهواء، كما لو كانت دائمة الوجود في الكون".

اقرأ أيضاً: من هو بانسكي أشهر فناني الغرافيتي في العالم؟

ويبدو أنّ الفنان والموسيقار السوداني الراحل، محمد وردي، المُلقب بــ "فنان إفريقيا الأول"، كان يفعل بالكلمة واللحن والموسيقى تماماً كما يفعل موتزارت، يقطفها من الهواء ويبثها في الكون.

على تخوم مصر

أطلق وردي صرخته الأولى في قرية صواردة النوبيِّة، أقصى شمال السودان، على تخوم مصر، عام 1932، ونشأ يتيم الأبوين، وتبنّاه عمّه؛ حيث ألحقه بالمدرسة الأولية في قريته، ثم أرسله إلى المدراس المتوسطة والثانوية في مدينتي (أتبرا) و(شندي)، شمال العاصمة الخرطوم، عمل بعدها مُدرساً للغة العربية، بعد أنْ نال تدريباً في التربية والتعليم.

نال لقب فنان إفريقيا الأول لذيوعه وشهرته في القارة السمراء رغم أنّه يغني بالعربية ونادراً بالنوبية لغته الأم

لكنّ مهنة التدريس مثلتْ قيداً شديد الأسر بالنسبة إليه؛ حيث كان مغرماً بالعزف على آلة العود، وتقليد المطربين السودانيين الكبار حينئذٍ، وأبرزهم الفنان الراحل إبراهيم عوض، فلم يتوانَ في تقديم استقالته عام 1959، من وزارة التربية والتعليم، للتفرغ للغناء.

يقول الفنان الراحل محمد وردي، في إحدى تصريحاته: "التدريس كان بالنسبة إليّ هو الرغبة الثانية بعد الغناء؛ لذلك فضّلت الغناء؛ لكن إذا ما خُيّرت بين التدريس وأيّ عمل آخر لفضلت التدريس".

عام 1957؛ بُعيد استقلال السودان عن الاستعمار البريطاني، زار أول رئيس وزراء وطني مدينة شندي؛ حيث كان محمد وردي يعمل مدرّساً، فغنّى وردي أمامه أغنية الشاعر عبد الواحد يوسف: "اليوم نرفع راية استقلالنا، ويسطر التاريخ مولد شعبنا، يا إخوتي غنوا لنا، يا نيلنا ويا أرضنا الخضراء، يا حقل السنا"؛ فكانت تلك هي النقلة الكبرى لوردي؛ من مدرّس ومغنٍّ مغمور إلى أحد رموز الغناء السوداني والإفريقي على حدّ سواء.

 

 

 

أمر رئيس الوزراء، إسماعيل الأزهري، بنقل وردي من (شندي) إلى العاصمة الخرطوم، حتى تتاح له فرصة تطوير موهبته والانتشار جماهيرياً، وقد حدث ذلك بالفعل، فشغل وردي بغنائه الثوري والعاطفي السودانيين والأفارقة المجاورين، حيّاً وميتاً.

عام السعد

بالنسبة إلى وردي؛ كان عام 1957 هو عام سعده؛ فقد تمّ اعتماده من قبل الإذاعة السودانية، كمغنّ هاوٍ؛ بعد نجاحه في اختبارات الصوت والأداء، لكنه تمكّن خلال عامه الأول من تسجيل 17 أغنية، ما أجبر إذاعة "أم درمان" على منحه لقب "فنان محترف"، وبالتالي التزمت بدفع مقابل مالي نظير أغانيه التي تبثّها.

اقرأ أيضاً: كيف يواجه الفنان جيلالي بوجمعة التطرف بالفن؟

لاحقاً، ومع مرور الأعوام ودوران الأيام، أصبح محمد وردي أحد أبرز رموز الغناء السوداني والإفريقي، وقد أسهم في تطوير الأغنية السودانية وتحديثها موسيقياً ونشرها خارجياً، إفريقياً على وجه الخصوص، بما لم يفعل فنان سوداني آخر، حتى نال لقب "فنان إفريقيا الأول"؛ لذيوعه وشهرته في القارة السمراء، رغم أنّه يغني بالعربية، ونادراً بالنوبية (لغته الأم).

وصفت "واشنطن بوست" محمد وردي الأيقونة الإفريقية النادرة

وردي والسياسة

كان انتماء محمد وردي السياسي لليسار، وكان قريباً من الحزب الشيوعي السوداني، وإن لم يكن عضواً عاملاً فيه، ما سبّب له مشكلات جمّة من قبل كافة الحكومات السودانية، عدا الديمقراطية منها، بما في ذلك نظام الرئيس الأسبق، جعفر النُميري، الذي أيّده وردي في أعوامه الأولى، عندما بدا وكأنه يساري، ثم عارضه بقوة عندما اتّضح له أنّه غير ذلك، فدفع الثمن تعذيباً وتنكيلاً وتشريداً وسجناً، ولولا وساطة الرئيس التشادي وقتها، فرانسوا تمبلباي، لدى النميري، لما خرج وردي من المعتقل أبداً، وذلك بشهادةِ الرئيس نفسه؛ فقد كان تمبلباي من أشدّ المُعجبين بوردي، وطلب منه الحضور إلى تشاد، والإقامة فيها، ونيل جنسيتها، لكنّ وردي اعتذر بلطف.

أصبح محمد وردي أحد أبرز رموز الغناء السوداني والإفريقي وقد أسهم في تطوير الأغنية السودانية

وشارك فنان إفريقيا الأول في الهبّتين الشعبيتين اللتين أطاحتا بنظامي إبراهيم عبود (1958- 1964)، وجعفر النميري (1968- 1985)، عبر الأناشيد الثورية الملهمة؛ حيث غنّى لمحمد المكي إبراهيم (باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرضُ تغني، والحقول اشتعلت  قمحاً ووعداً وتمني، والكنوز انفتحت  في باطن الأرض تنادي، باسمك الشعب انتصر، حائط السجن انكسر، والقيود انسدلت جدلة عـُرس في الأيادي".

وغنّى لمحمد الفيتوري: "ﺻﺒﺢ ﺍﻟﺼﺒﺢ، ﻭﻻ ﺍﻟﺴﺠﻦ ﻭﻻ ﺍﻟﺴﺠﺎﻥ ﺑﺎﻗﻲ، ﻭإﺫﺍ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﺟﻨﺎﺣﺎﻥ ﻳﺮﻓّﺎﻥ ﻋﻠﻴﻚ، ﻭإﺫﺍ ﺍﻟﺤُﺰﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺤَّﻞَ هاتيك ﺍﻟﻤﺂﻗﻲ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺷﺪَّ ﻭﺛﺎﻗﺎً ﻟﻮﺛﺎﻕِ ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺑﻌﺜﺮﻧﺎ ﻓﻲ ﻛﻞّ ﻭﺍﺩٍ، ﻓﺮﺣﺔ ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﻛﻞّ ﻗﻠﺐ ﻳﺎ ﺑﻼﺩﻱ". 

لقطة للفنان محمد وردي برفقة الفنانة أم كلثوم

العربية والسلم الخماسي

رغم أنّه يغني بالعربية على السلم الخُماسي، إلا أنّ محمد وردي يحظى بشعبية جارفة في الكثير من الدول الإفريقية، خاصة أثيوبيا وإرتيريا والصومال وجيبوتي وتشاد ونيجيريا والكمرون، على عكس الدول العربية التي لا يعرف فيها إلّا لِماماً، وفيما عدا اليمن الجنوبي (سابقاً)، فإنّ فنان إفريقيا الأول لم يغنِّ في أيّة دولة عربية أخرى، وإن كان معروفاً في أوساط بعض النخب المهتمة بالغناء السوداني، فقد عدّه الأمير الحسن بن طلال علامة مميزة في مسيرة الغناء العربي.

أيقونة إفريقيا

ترافقت تجربة الغناء الثوري لمحمد وردي بأخرى عاطفية (رومانسية)، كانت سبباً مباشراً في تمدّده الإفريقي، وحين نعته صحيفة "واشنطن بوست" عقب وفاته، وصفته بـ "الأيقونة الإفريقية النادرة"، وقالت الصحيفة الأمريكية الشهيرة: إنّ "وردي أسهم في نشر الموسيقى السودانية والنوبية على نطاق واسع، وغنى للأرض والإنسان والحب والثورة، لكنّ غناءه العاطفي كان الأكثر انتشاراً عبر القارة الإفريقية".

اقرأ أيضاً: العرب في إفريقيا.. تفاعل حضاري لم ينقطع

وبالفعل، كان وردي يختار نصوصاً مكتوبة بالمحكيِّة السودانية العربية وحافلة بالرؤى الجديدة والحداثة الشعرية، مثل أغنية "عصافير الخريف"، للشاعر إسحاق الحلنقي: "هجرة عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو/ هيَّج رحيلها مع الغروب إحساس غلبني اتحملو)، وأغنية "وسط الدايرة" للشاعر نفسه؛ التي غنّاها أيضاً المغني المصري النوبي محمد منير: "وسط الدايرة يا أجمل نايرة، خلي قلوبنا تطير، وارحلي بينا فراشة حنينه بين زينات وعبير، لما الخُصلة تدور طربانة تبقى حرير في حرير"، كما حظيت أغنيته "أنا عارفك يا فؤادي"، من كلمات الشاعر إسماعيل حسن، بانتشار واسع في كثير من الدول الإفريقية؛ "أنا عارفك يا فؤادي طال عذابك، وا سُهادي، وا شقاي أنا، وا عذابي".

تشييع الفنان محمد وردي

وكما بقيت الموسيقى تشحذ خيال آينشتاين، وتمدّ إليه يد العون، كُلّما واجهته الصعوبات؛ إذ يروي ابنه هانز: "كلّما بلغ به الإرهاق مبلغاً، أو واجه تحدياً صعباً لجأ إلى الموسيقى، فتنحلّ جميع صعوباته"، كذلك كان محمد وردي، فقد عاش 79 عاماً؛ أنفق خمسين منها في الغناء، وقبل رحيله، عام 2012، قال وردي: "لولا الغناء لما عشت ربع هذا العمر".

الصفحة الرئيسية