كأنّ المدن كلّها طروادة: الأسطورة وفهم الواقع وترميزه

كأنّ المدن كلّها طروادة: الأسطورة وفهم الواقع وترميزه

كأنّ المدن كلّها طروادة: الأسطورة وفهم الواقع وترميزه


24/12/2018

... "كلّ المدن وهبها الربّ للحياة ومنحها أسرارها"

ما تزال الأساطير المؤسسة لتصور الحياة، تحكم تنظيم الدول والمجتمعات والطبقات، ورؤيتها لنفسها ومكانتها، ولم يبتعد عنها الفكر الديني والسياسي اللاحق بها، و/ أو الناشئ عنها، فقد ظلّ الفكر الإنساني، حتى القرن الرابع الميلادي تقريباً، يرى الحاكم إلهاً، وكان تحولاً كبيراً عندما صار ينظر إلى الحاكم على أنّه مستقل عن الإله، وإن كان يمثل إرادته ويطبق تعاليمه، ويستمد أيضاً حقوقه وحضوره من وصايا الإله، وعندما كرّست الثورة البريطانية "المجيدة"، عام 1688، ولاية المواطن على السلطة، وقيدت صلاحيات الملك بالدستور والقوانين التي تحرسها هيئات منتخبة، كان ذلك يبدو ثورة فكرية وسياسية، ما تزال تؤسّس وتلهم الأنظمة السياسية المعاصرة، وما يزال كتاب جون لوك "الحكم المدني"؛ الذي ظهر في منتصف القرن السابع عشر، أهم كتاب في السياسة، لكن حتى بعد مئة عام من الثورة البريطانية، بدت الأنظمة الجمهورية فكرة متطرفة لم تكن متقبلة ولا حتى متصورة!

ما تزال الأساطير المؤسسة لتصور الحياة تحكم تنظيم الدول والمجتمعات ولم يبتعد عنها الفكر الديني والسياسي اللاحق بها أو الناشئ عنها

وفي الوقت الذي صدر فيه كتاب جون لوك، صدر أيضاً كتاب توماس هوبز، "لفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة"، مستعيراً على نحو صريح أسطورة لفياثان؛ الوحش الأسطوري الذي كان يحرس المدينة من الأعداء، لكنّه يطلب من أهلها، في المقابل، أن يقدموا له كلّ يوم دماغ طفل، وهكذا كان أهل المدينة يذبحون كلّ يوم طفلاً، ويقدمونه للوحش ليلتهمه، وفي يوم فكر أحد الرجال المكلف بذبح ابنه وتقديمه للوحش، أن يقدم دماغ خروف بدلاً من الطفل، وقال في نفسه إنّها مغامرة تستحق، فإذا قتله الوحش فإنّه لا يريد الحياة بعد ابنه، وإن لم يكتشف الحيلة نجا ابنه، وقدم بالفعل دماغ خروف، ولم يلاحظ الوحش ذلك، وهكذا صار أهل المدينة يقدمون للوحش الخراف بدلاً من الأطفال، وتبدو الأسطورة واضحة في رمزيتها، سواء بالنسبة إلى القرابين البشرية؛ التي كانت تقدم للآلهة، ثم استبدلت بالخراف والمواشي، أو كما يستخدمها هوبز، للسلطة التي ترمز إلى الوحش؛ بمعنى أنّ السلطة بذاتها ليست أمراً محبباً للناس، ولا تحبّ السلطة الناس، لكن هناك ضرورات متبادلة؛ الأمن، والدفاع، والتنظيم الاجتماعي والقانوني، مقابل موارد الناس (الضرائب).

اقرأ أيضاً: جون لوك.. فيلسوف التسامح بلا منازع

تبدأ الأسطورة بتعالي الإله الكبير، وتفويضه شؤون تنظيم الكون والحياة، مثل: الموت والخصب والعطاء، والمطر، والبحار، والجمال، لمجموعة من الآلهة الصغار من أبنائه وامتداداته، وهذه الآلهة تحالفت بدورها مع جماعات وطبقات من البشر، منحتها صفات مميزة للحكم، وقد ظلّ هذا الاعتقاد مؤثراً في أوروبا، حتى نهاية القرن التاسع عشر، العائلة المالكة في إسبانيا، على سبيل المثال، ليست إسبانية، لكنّ الإسبان اختاروا واحداً من سلالة بوربون الفرنسية الأصل، التي حكمت معظم أوروبا، استناداً إلى الدم الملكي، وما تزال تحكم في إسبانيا ولكسمبرغ.

اقرأ أيضاً: "الأيام": كيف وظّف طه حسين الأسطورة لتحرير العقل؟

ويظل الإصلاحيون، وإن أحببناهم، متمردين يائسين، يواجهون العذاب الأبدي لأنهم أغضبوا الآلهة؛ بريموثيوس، وسيزيف، وكساندرا، وسبارتاكوس؛ لقد استطاع بريموثوس أن يعرف بالفعل، ويكسر احتكار الآلهة وأبنائها للمعرفة، لكنها معرفة منحته حياة تظلّ فيها النسور تنهش قلبه، واستطاع سيزيف أن يتحدى الموت، ويحصل على الخلود، لكنّه خلود جعله يحيا إلى الأبد، يدفع الصخرة إلى أعلى الجبل، ثم تعود إلى أسفل، ويعود من جديد ليرفعها، وحصلت كساندرا على الحكمة، لكنّ أحداً لن يصدقها.

وهكذا؛ فإنّ الأوليغاركية حقّ إلهي أو طبيعي، وليس في وسع البشر، العاديين، أن يكون أحدهم سوى كاهن أو فارس في خدمة الأوليغاركيا، وحتى هذه الخدمة ليست سوى منحة.

اقرأ أيضاً: النبي الشاكّ والإله المتسامح

لكن نظلّ نبحث في الهوامش والممكنات والثغرات والألغاز، التي تعجز الآلهة، أو تتركها لنا، هكذا أيضاً؛ ففي كل المدن "بريام" يناضل بحكمته وخبرته ويوازن بين الاتجاهات والرغبات والمصالح، فيخطئ ويصيب، لكنه يظل في حزن مديد، وهمّ الإنسان، الذي يحاول أن يكون مثل الربّ، يرعى مدينته وشعبه، فلا هو يقدر مثل الربّ، ولا هو يقدر على الانسحاب أو الاختباء.

وباريس الذي يزهد في السلطة وربتها (هيرا)، والحكمة وربتها (أثينا)، ويمضي بحثاً عن الجمال (أفروديت)، وفي ذلك يغوي ملكة إسبرطة (هيلين)، ويجر البلاد إلى حروب مدمرة، تموت المدن ويقاتل الجنود، ويموتون بسبب نزوة وحماقة لواحد من الأمراء، وهناك الكاهن الذي يفتي مستغلاً سلطته الدينية؛ بأنّ الحصان الخشبي هدية من الآلهة، وهو يعلم أنه يخبئ الجنود لاختراق المدينة العصية على الحصار!

يظل الإصلاحيون، وإن أحببناهم، متمردين يائسين، يواجهون العذاب الأبدي لأنهم أغضبوا الآلهة

وهكتور؛ الذي يقاتل بيأس ونبل، وبلا أمل يحاول أن يصلح عبث الآلهة وحماقات البشر، لكنه يمضي إلى موته، وهو يراه، وأخيل الذي يبحث عن نفسه بلا معنى ولا جدوى، يقترن هلاكه ومجده معاً، يكتشف أنه تعلم وعلّم القتال، ولكنه لم يعلّم رجاله وقف القتال، ويمضي إلى هلاكه، مهلكاً من معه ومن ضدّه، وهو يعلم أيضاً نهايته. ومينلا ماوس؛ يحارب لأجل الوهم، 12 عاماً، ويعود ومعه ألكساندرا، لكنّ زوجته التي أمضت أعوام الحرب الطويلة تلهو مع صديقها، لم تحتمل عودته، فقتلته!

لا يحتاج أحد سوى إلى أن ينظر في كلّ مدينة ويضع مكان كلّ اسم طروادي اسم مدينة أخرى، ويالله السلامة!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية