كم أديسون خنقه نظامنا التعليمي؟!

كم أديسون خنقه نظامنا التعليمي؟!


24/12/2018

يعود اختراع طريقة الامتحان التحريري إلى الصينيين (2200 ق.م)؛ حيث كان إمبراطور الصين يختبر الموظفين مرةً كلّ ثلاثة أعوام، لقياس مستواهم الفكري من أجل تعيينهم في المناصب العليا، أو لترقيتهم إلى درجة أعلى، أو فصلهم من التكليف الموكل إليهم، ثمّ ما لبث أن انتشر نظام الامتحان الصيني في الدول الآسيوية المجاورة، لينتقل فيما بعد إلى العالم الغربي، ثم إلى المدرسة التي ساهمت النظم الكولونيالية في تعميقه وانتشاره بصورته التي نعرفها اليوم.

لقد تخلينا عن مساعدة الطفل في أن ينمو نمواً صحيحاً متوازناً، لصالح نظام تقييم يحكم عليه بالنجاح أو الفشل

  وما نزال، بعد آلاف السنين من تاريخ ظهور الامتحان، نقيس ونقيّم مستوى أطفالنا بمسطرة الإمبراطور الصيني؛ فنعاملهم كموظفين يتوقف مستقبلهم على الامتحان الذي يقرر مصيرهم بشكلٍ نهائي، لقد تخلينا عن مساعدة الطفل في أن ينمو نمواً صحيحاً متوازناً، يوفّر له مناخاً منفتحاً على المعرفة والتحصيل العلمي، لصالح نظام تقييم يخلو من التقويم، ويصدر بحقّه حكماً نهائياً بالنجاح أو الفشل.

أديسون؛ صاحب المصباح الكهربائي وكثير من الاختراعات الأخرى، الذي نعته معلمه بالغبي، نجح بما فشل به كثيرون، بعيداً عن سلطة المدرسة وتقييمها، ولم يتعرّض لما تعرّض ويتعرّض له أطفالنا، وبالطبع هذه ليست دعوة إلى "اللامدرسية"؛ إنما دعوة لنحصي كم أديسون خنقناه بسلطة التقييم، وأوهمناه بأنّه غبي، حتى استحال إلى غبي بالفعل.

اقرأ أيضاً: لسان حال التربية الدينية في مجتمعاتنا: الطفل كالعجينة ..ما الخبز الذي ننتظره؟

كلمة فشل لم تتسرّب لقاموس أديسون النفسي، لقد نجا من هذا التقييم بتركه المدرسة بعمر 8 أعوام، وهذا ما جعله يمارس إمكانية الخطأ العظيمة في إنتاج المعرفة الإنسانية، فقوله: "أنا لم أفشل؛ بل وجدت 10 آلاف طريقة للنجاح"، ليس من باب عدم الإقرار بالفشل، وإنّما التأكيد على أهمية التجربة المفتوحة على كافة الاحتمالات.

الجهود الكبيرة المبذولة قبل امتحان الشهادات تحيل إلى أنّ الغش ظاهرة عامة تشبه وباءً تجب مكافحته

إنّ تقسيم الأطفال إلى أذكياء وأغبياء تقييم مجحف، يتم إقراره بنظام الامتحانات، الذي لاقى نقداً ورفضاً من مفكّرين كثيرين برهنوا على لا أخلاقيته التي تخلُّ بالشرط الإنساني، أمثال: باولو فريري، وبيير بورديو، وميشيل فوكو، ومنير فاشه، إضافة إلى تجارب لاقت نجاحاً مميزاً بتخليها عن نظام الامتحان، كتجربة فنلندا وسنغافورة، والتجربة التربوية المبكرة والمدهشة لخليل السكاكيني، لكن الأنظمة لن تقبل بالتخلي عن أداة تمنحها شرعية مضمرة وعلنية للتحكم بالفرد، وتحديد أهوائه وميوله، وصياغته بالطريقة التي تخدم أهدافها، لتجعل منه وسيلةً لغاياتها لا أكثر، ولذلك تشيح السلطات بوجهها عن كلّ نقد يخلخل هيمنتها، والطعن بأية تجربة تثبت بطلان منهجها، وإذا اضطرت للانصياع "مرغمةً" لتُماشي التغييرات العالمية، ستعمل على المظهر لا الجوهر.

اقرأ أيضاً: بين الجهل والمعرفة: الأمّي والمتعلم في خندق واحد!

"اللحية لا تصنع فيلسوفاً"، بتعبير ابن رشد؛ فالمناهج التعليمية الجديدة والإستراتيجيات المفتعلة ستبدو كفقاعات أمام القاعة الامتحانية التي تزداد بؤساً يوماً بعد يوم؛ وجوه صغيرة يلفّها الخوف والقلق والتوتر، تُفرد أمامها أوراق الامتحان، البعض ينكبّ على أوراقه محيطاً إياها من كلّ الجوانب لتفادي سرقة المعلومة منه، والبعض يتدفق الدم إلى وجهه؛ فهناك ما لا يستطيع معرفته، والبعض يشحب وجهه، بينما تغور عيناه في محجرين متصلبين؛ الأسئلة غريبة عنه، إنه لا يتذكر شيئاً، وهناك من تبدأ عيناه تزوغ يميناً ويساراً، يريد أن يلتقط أيّة إجابة قد تشكل خلاصاً من التهديد المرعب للدرجة "صفر"، البعض سيترك القلم على الورقة ويشرد في أحلام يقظةٍ خارج حدود سجن الأسئلة، وحين ينتهي الوقت المخصص للامتحان، ستسمع بكاء أحدهم، وسيتمسك آخر بورقة إجابة لا يثق بما دوّن عليها، أو بسبب استعصاء أسئلة على الحل؛ أمام كل هذه الوجوه، التي لا تقلّ في كثير من الصفوف عن الأربعين، سنجد صعوبة في أن نعثر على وجه هادئ مطمئن.

اقرأ أيضاً: "اللحم لك والعظم لنا" توصية تتلقفها المدارس بحفاوة!

على الضفة الأخرى لقاعة الامتحان؛ يقف المعلم منتظراً بفارغ الصبر انتهاء الوقت المخصص، متنازلاً بلا وعي عن كونه معلماً، وأنّ مهمته تقتصر على توفير الراحة والاطمئنان لتأدية الطلاب امتحاناتهم، ليتلبّس التسمية التي تُطلق عليه في القاعة (المراقب)، ويلعب دور الشرطي الذي يفترضُ مسبقاً أنّ هناك من سيغش؛ فنظام المراقبة هو أداة السلطة الأبرز في القمع، المعلم (المراقب) يعيد إنتاج السلطة وهيمنتها؛ كما أنّ الجهود الكبيرة المبذولة قبل امتحان الشهادات من الدوائر المختصة في وزارات التربية لمكافحة الغشّ، تحيل مباشرةً إلى أنّ الغش ظاهرة عامة، تشبه وباءً يجب مكافحته، دون أن يتنبه أحد إلى أنّ الأنظمة نفسها التي تعتمد نظام الامتحانات، تكافح ظاهرة هي المؤسّس الفعلي لها.

اقرأ أيضاً: منهاج التربية الدينية وأثره في المراحل التعليمية الأولى

ستبقى جملٌ من نوع "عينك بورقتك"، مع حذف قسمها الثاني: "وإلّا..." للشيوع، تحمل العقلية التي تجعل من المعرفة هامشية، مقابل صورها المجرّدة والفارغة.    

إنّ نظام الامتحان، خاصة في المراحل الأولى من التعليم، لا يحقق الجدوى المطلوبة، إذا كانت هذه الجدوى موجودة أصلاً؛ فالعلامة المتدنية للطفل لم تغير من واقع تعلّمه؛ بل في كثير من الأحيان تزيده سوءاً، المعلم أمام الأعداد الكبيرة في غرفته الصفية لا يمكنه متابعة كلّ طفلٍ على حدة، وتقويم الخلل الذي كشفته العلامة المتدنية، والطفل الذي حصل على علامة متدنية سترافقه هذه العلامة كوصمة عار تؤطر جميع إمكانياته وتشلّها.

الطفل الذي حصل على علامة متدنية سترافقه هذه العلامة كوصمة عار تؤطر جميع إمكانياته وتشلّها

يسأل أحد الأطفال: ماذا يفعل المعلم بأوراق الامتحان بعد إعطائنا العلامة؟ وعند إجابته أنه يحتفظ بها، عبّر عن أسفه لأنه لا يريد أن يرى أحد علامته المتدنية؛ فهذه العلامة هي التي عرّضته لتأنيب معلمه، ونعته بالكسول والغبي وغير المبالي، وسخرية رفاقه، وغضب أهله من علامةٍ يرون أنّها مؤشر على ضياع تعبهم وعدم تقدير الطفل لمجهودهم، خاصةً إذا كانوا يسعفونه بدورات التقوية والدروس الخاصة التي أصبحت ظاهرة عامّة في كثير من مجتمعاتنا.

اقرأ أيضاً: "عقلية الضحية".. كيف نورثها لأطفالنا؟

لقد نجح هذا التقييم في جعل الجميع قلقين؛ حيث أصبح المعنى اللغوي لكلمة امتحان "محنة وابتلاء"، واقعاً معيشاً، المحنة التي تم توظيفها لتعزيز آليات القهر الممارسة على الإنسان، وللحدّ من إمكانات العقل بدلاً من إطلاقها، فطفلتي ذات الستة أعوام بدأت بالاحتجاج، بعد يومين من بدء الامتحان، قائلة: "لا أريد الذهاب إلى المدرسة إنهم يسألون أسئلة أعرف إجاباتها وهذا يشعرني بالملل"، أنظر إليها وأتساءل: هل كانت تنتظر أسئلة لا تعرف الإجابة عنها؟! ولا أجرؤ أن أخبرها أنّ استمرار العملية الامتحانية عبر هذا التاريخ الطويل للتطور البشري، وما يحمله من إقصاء، يدل على طبيعة الحضارة التي صنعناها اليوم؛ حضارة لن تتخلص، على ما يبدو، من عقد نشوئها وأساطير تفوّقها وارتقائها، طالما أنّها ما تزال تنتج القلق والخوف والحرب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية