2019 ضيف ثقيل على لبنان

2019 ضيف ثقيل على لبنان


02/01/2019

سجعان قزي

لا نسأل ماذا تحمل السنة الجديدة إلى لبنان، بل ماذا نحمل نحن إلى لبنان في السنة الجديدة. السنة مادة زمنية نحن نصنعها وندمغها ونعطيها هوية. موحدين؟ تهمد العواصف أمام أقدامنا. منقسمين؟ يقتلعنا النسيم ولو عليلا. خلافا لما نظن: في لبنان والشرق لا نتبع التقويم المسيحي أو الهجري، بل تقويم النهضة والانحطاط. فاليوم لا نبدأ سنة جديدة؛ نحن في السنة ذاتها منذ سنوات. نجتاز مرحلة انحطاط مكونة من سنوات وأجيال. منذ سنة 1948 اعتمد الشرق هذا التقويم وتضامن معه لبنان منذ سنة 1958، ودارت النكبات.

لن تنتهي هذه المرحلة إذا غيرت الدول الكبرى سياساتها، وزالت إسرائيل من الوجود، وسقطت الأنظمة العربية، وانتهت حروب المنطقة، ودحر الإرهاب، وتغير الزمان. لن تنتهي إذا امتد الهلال الشيعي أو عاد الهلال السني أو حتى إذا ارتفع الصليب المسيحي وأنار لبنان والشرق.

تنتهي مرحلة الانحطاط في لبنان لحظة نؤمن جديا بلبنان وطنا نهائيا وبالدولة اللبنانية دون سواها، وبأرض لبنان للبنانيين فقط، وبالقانون يساوي بيننا بالحقوق والواجبات. ونترجم هذا الايمان بالممارسة الأخلاقية والوطنية والدستورية.

تنتهي مرحلة الانحطاط لحظة تنزع الطوائف مشاريعها الانفصالية أو التوسعية، ويقدم حزب الله سلاحه إلى الجيش اللبناني، وتتجرد المذاهب من ولاءاتها الخارجية، وينحصر القرار اللبناني بالشرعية، ونقر اللامركزية الكاملة في أقاليمنا والتشريعات المدنية في مجتمعنا، ونعتمد الحياد الإيجابي في سياستنا الخارجية والقوة المهابة في سياستنا الدفاعية.

تنتهي مرحلة الانحطاط لحظة نواجه العدو ذاته ونتحالف مع الصديق ذاته، فلا يكون عدو فريق حليف الفريق الآخر، وحليف الفريق الآخر عدو الفريق الأول؛ وتحدد الدولة العدو والصديق وليس كل طائفة. نسالم معا ونقاوم معا.

تنتهي مرحلة الانحطاط لحظة نجتث غالبية الطبقة السياسية، ونختار طاقما آخر صاحب قضية وشجاعا ونزيها يشبه طموحاتنا لا غرائزنا، ونلتزم النظام الديمقراطي والاستحقاقات الدستورية، ونستعيد تقاليدنا الاجتماعية الأصيلة. نأكل إلى المائدة ذاتها فنتشارك الخبز وإن لم نتبادل الخمر علنا. تنتهي مرحلة الانحطاط لحظة نصبح دولة مثل سائر الدول الراقية ومواطنين مثل سائر مواطني الدول الطبيعية.

هذه "الشروط" الوطنية، الصعبة جدا، والخيالية بالنسبة لكثيرين (أنا منهم)، هي بديهيات في الدول الأخرى. لكن، أكانت صعبة أم سهلة، لا مناص من الالتزام بها سريعا لنبقى معا ولا يتغير لبنان، فالسنة المقبلة مدججة بالأحداث. لا نعتبر أن تجاوزاتنا وزلاتنا وخياناتنا تمر من دون حساب التاريخ. لعبة الأمم أكبر من ألاعيبنا. وأصلا، لسنا أول دولة ولا آخر دولة يتغير شكلها ويتبعثر شعبها. لسنا أهم من الاتحاد السوفياتي ومن بلاد البلقان ومن يوغسلافيا ومن العراق ومن سوريا.

لا نظنن "أن الموت يزور جيراننا ولا يمر علينا" على حد قول "جان - بول سارتر" في مسرحيته: "الشيطان والله الطيب". ولا نتكلن على مغفرة الله، فبعد محو "الخطيئة الأصلية"، يغفر الله للأفراد لا للشعوب. المسيح بحث عن "النعجة الشاردة" لا عن القطيع بأكمله، وذبح العجل المسمن لـ"الابن الشاطر" لا للقبيلة بأسرها.

السنة الجديدة ستلد في شهورها الستة الأولى جزءا مما حبلت به في السنوات الماضية. وبحكم الواقع اللبناني المخلع، سيتأثر لبنان بجميع التطورات المنتظرة هذه السنة في المنطقة والعالم. فلكثرة حشر أنوفنا في شؤون الآخرين، صرنا معنيين بالخلاف الأميركي - الصيني بقدر ما نحن معنيون بالتنافس بين فريقي "الرياضي" و"الحكمة". لكننا عاجزون عن تحديد نسبة الأضرار والمنافع لثلاثة أسباب على الأقل: 1) اختلال التوازن اللبناني لمصلحة "حزب الله" فيما الوزن اللبناني النهائي هو للجيش اللبناني. 2) اختلال التوازن الإقليمي لمصلحة سوريا وإيران فيما الوزن العسكري لإسرائيل. 3) اختلال التوازن الدولي لمصلحة روسيا فيما الوزن الفعلي هو للولايات المتحدة وأوروبا.

هذه المعطيات لا تلغي التطورات الناضجة، عسكرية كانت أو دبلوماسية، ذلك أن التسويات في لبنان وسوريا والمنطقة تحتاج الحد من فائض القوة لدى بعض الأطراف. والانسحاب الأميركي من سوريا هو نذير أحداث عسكرية لا تسويات فقط. وعوض أن تتصرف الأطراف اللبنانية، بخاصة "حزب الله"، لدرء الأخطار المتقدمة، تواصل السير نحوها كأنها على موعد معها.

في هذا السياق، إن القضايا التي تربك الحياة العامة في لبنان تبقى: مصير سلاح "حزب الله"، مصير المطالبة بتعديل الدستور، نكبة النازحين السوريين، والأزمة الاقتصادية/المالية. وما لم يطرأ تطور كبير يخلط الأوراق لمصلحة الشرعية اللبنانية لن نشعر بالفارق بين السنتين الراحلة والآتية. وأخشى ما أخشاه أن يكون السلوك حيال الحكومة مؤشرا على إحداث شغور رئاسي بهدف إقامة جمهورية أخرى، هذه المرة، لا إيصال رئيس آخر.

لذلك، مرحلة الانحطاط مستمرة، والعودة إلى المسلمات الوطنية مستبعدة مع أننا في السنة الأخيرة قبل المئوية الأولى لإنشاء جمهورية لبنان الكبير. لكن الانحطاط ليس خيار الجميع، فالعافية الوطنية لم تمت بعد. في لبنان أجيال وجماعات متعددة الطوائف أحبت هذه الجمهورية وما فتأت تدافع عنها.

هذه الأجيال والجماعات قاومت المخرز بالعين، وقلبت المؤامرة مقاومة، جعلت الأخصام حلفاء، وحولت الاحتلال مشروع تحرير. هذه الأجيال والجماعات واجهت بالحق وانتصرت بالحرية، ظنت المحيط أخوة فإذ هو توسع واعتداء، وثقت بالشراكة الوطنية فإذا هي تعدد ولاءات وقضم صلاحيات. هذه الأجيال والجماعات ما هابت الآخرين وهم أقوياء، فروضت القدر وراهنت على الذات. هذه الأجيال والجماعات اعتقدت أن في الشرق إسرائيل واحدة فاكتشفت أن فيه أكثر. هذه الأجيال والجماعات مصممة على الصمود والمقاومة من أجل القضية اللبنانية مهما كانت محتويات السنة الآتية.

عن "ميدل إيست أونلاين"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية