داردو سكافينو: صعود اليمين المتشدّد في أوروبا انتصار للجهاديين

داردو سكافينو: صعود اليمين المتشدّد في أوروبا انتصار للجهاديين


09/01/2019

ترجمة: علي نوار


شهد العقدان الأولان من القرن الواحد والعشرين صعوداً حثيثاً لإرهاب واسع النطاق، يربط نفسه بأصولية متشددة عابرة للقارات، وكان الانعكاس الأكبر لذلك هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، والتي غيّرت شكل العالم إلى الأبد، فلم تتوقف منذ ذلك الحين الهوة بين الشرق والغرب عن الاتساع على جميع الأصعدة، وصولاً إلى خلق حالة من الذعر المجتمعي في دول الغرب، يعزّزها الخوف الذي يصنعه الجهاديون الذين لا ينفكّون يؤكّدون التناقض التام بين الإسلام والقيم الليبرالية والديمقراطية، التي نشأت بذرتها الأولى في الغرب.

بات الإرهاب ذريعة تستغلّها الولايات المتحدة لمدّ نفوذها على العالم والتدخل فيه

لكن قبل الانجراف نحو إصدار الأحكام، يتعيّن علينا دراسة الدور التاريخي والحديث الذي لعبه الغرب في تشكيل العالم العربي الحالي، هكذا يرى الكاتب والفيلسوف، داردو سكافينو، الذي قدّم في مقاله (حلم الشهداء... تأمّلات في الصراع الدائر حالياً)، الفائز بجائزة "أناجراما" لأفضل مقال في 2018، وهو تأمّلات حقيقية في روافد الفكر الجهادي ودوافعه السياسية والاجتماعية أكثر من تلك الدينية، كاشفاً قصور رؤية الغرب صاحب الخطاب الديني أيضاً، والمصحوب بنزعة علمانية نحو فكرة أنّ الله تعالى هو من يدير كلّ شيء في العالم، دون أن يعني ذلك مسوغاً سياسياً أو أخلاقياً للإرهاب.. كلّ ذلك إضافة إلى الخوض في المحور الرئيس للنزاع: التصوّرات المتناقضة بالكامل لمفهوم الحرية والعلاقة المثالية التي تربط بين الفرد والمجتمع.

داردو سكافينو
مقابلة مع الكاتب والفيلسوف الأرجنتيني، داردو سكافينو:
يرى الكثيرون، في الغرب، أنّ بداية الإرهاب كانت مع هجمات 2001 وتزايدت حدّته في الأعوام اللاحقة، لكنّكم تؤكّدون أنّ البداية تعود إلى ما قبل ذلك بأعوام، ما هي بذرة الإسلاموية الراهنة وما طبيعة الدور الذي اضطلع به الغرب في ميلادها وصعودها؟

ترجع أصول الإرهاب المتشدد، لما قبل 2001 بكثير، حيث تعود إلى مرحلة الهجمات التي استهدفت الحكومة الأفغانية التي كانت متحالفة مع السوفييت، في نهاية حقبة الستينيات، أو اغتيال الرئيس المصري السابق، أنور السادات، عام 1981، لكن خلال تلك الفترات كان الجهاديون حلفاء لواشنطن، وكان يُنظر إليهم باعتبارهم مقاتلين من أجل الحرية في الحرب ضدّ الشيوعية أو القوميات العربية العلمانية. بدأ الغرب في تصنيفهم كإرهابيين وأعداء للديمقراطية، في أعقاب الهجمات الإرهابية بفرنسا في التسعينيات، والهجوم الذي ضرب المدمّرة الأمريكية "يو إس كول" في أحد موانئ اليمن عام 2000.

اقرأ أيضاً: إرهاب اليمين المتطرف الخطر القادم من الغرب

ما هو الفرق بين الحرب الباردة قديماً (الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية) وبين النزاع العالمي الجديد؟
كانت الولايات المتحدة تعدّ كلّاً من قوات "كيم إيل-سونج" في كوريا الشمالية ومقاتلي الـ "فييت كونج" في الهند الصينية، جيوشاً معادية، ... لكن الأمر عينه لا ينطبق في حالة "الجماعات الإرهابية"، إذ تتعامل الولايات المتحدة معها كما لو كانت عصابات إجرامية، رغم أنّها ترتكب جرائمها خارج نطاق سيادة القوانين الأمريكية، ولا يصبح السجناء في هذه الحالة مقاتلين أعداء، ولا مجرمين أجانب، ما أدّى إلى وجود ظاهرة مثل؛ معتقل غوانتينامو خارج الأراضي الأمريكية، أو السجون السرية في عدّة دول، أو ما يطلق عليها "الاغتيالات الانتقائية" التي لا تندرج تحت بند العمليات العسكرية ولا الأمنية، وتبدو كعمليات صيد وليست أعمال حرب، لقد أصبح الإرهاب ذريعة كي تتدخل الولايات المتحدة في جميع دول العالم.

اقرأ أيضاً: لماذا ينشط اليمين المتشدد في ألمانيا الشرقية؟

رغم وجود أنظمة دكتاتورية علمانية يسارية وديمقراطية، بدرجة ما، في كثير من البلدان العربية، خلال حقبة السبعينيات، إلّا أنّها شهدت وجود أنظمة أصولية؛ فإلى أيّ مدى كان الغرب مسؤولاً عن عملية الأسلمة هذه خلال العقود المنصرمة؟
الغرب مسؤول بشكل مباشر عن هذه الأسلمة منذ دعمه لتلك الجماعات المتشددة في باكستان وأفغانستان، ومؤخراً في ليبيا ومصر، مثلما فعل كيسينجر من قبل في إندونيسيا أثناء حقبة الستينيات، في مواجهة حكومة سوكارنو، أحد مؤسسي حركة دول عدم الانحياز، هذا علاوة على دخول الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا في تحالف مع بعض الدول الخليجية، التي موّلت الكثير من الحركات الإسلامية، وليس من بينها تلك التي شنت هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، رغم الاشتباه في ذلك بسبب الحظر المفروض على التقارير حول هذه الوقائع، التي كان الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، قد تعهّد بالكشف عنها، رغم أنّه لم يفعل في النهاية.

اقرأ أيضاً: 9 دول ينشط فيها اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية

ترجع أصول الإرهاب الإسلامي، لما قبل هجمات 2001 بكثير

قومية أم وطنية أم أصولية أم تطرّف ديني؛ ما هي القضية الحقيقية للإرهاب الأصولي؟ وهل الإسلام فعلًا يتناقض مع القيم الغربية؟

اشتقّت كلّ هذه المصطلحات التي ذكرتها في الغرب، وليس الشرق، حتى لفظة "متطرّف" مصدرها حزب إسباني مناهض لليبرالية في القرن الـ 19، بينما كانت كلمة "أصولي" تستخدم لوصف بعض المنظمات المسيحية المتزمّتة في الولايات المتحدة مطلع القرن الـ 20، هل يمكن القول إنّ دكتاتوريات هتلر وموسوليني وفرانكو وسالازار وبيتان لم تكن متوافقة مع القيم الغربية؟ هناك أكثر من غرب بالطبع، كما أنّ هناك أكثر من شرق، إنّ فكرة الكتل المتجانسة التي روّج لها هنتينغتون لا أساس لها، نظنّ أنّ الغربيين هم من أبدعوا الديمقراطية، لكن إذا استعرضنا تاريخ الغرب، فسنجد أنّ الديمقراطية ظهرت في مناسبات معدودة قبل الحرب العالمية الثانية، ربما يكون صحيحاً أنّ الإسلامويين يسعون إلى استبدال الديمقراطية بالحكم الديني أو الثيوقراطية، لكن ليس هذا هو ما يتطلّع إليه المسلمون، فضلًا عن أنّ الغرب لم يمدّ لهم يد العون حينما فكّر، أو تظاهر بالتفكير، في أنّ الديمقراطيات ستنتشر بعد قصفهم للزعماء الديكتاتوريين بالقنابل.

اقرأ أيضاً: كيف تلتقي الإسلاموية مع اليمين المتطرف؟

أسلمة العالم العربي أمر واقع، لكنها تحدث أيضاً بين مسلمي الغرب الذين يتبنّى بعضهم الفكر الأصولي، هل فقد الغرب قيم الحرية الفردية والديمقراطية وخسر المعركة الفكرية؟ وإلى أيةّ درجة أثّر تراجع معدل الرفاه والأزمة الاقتصادية؟
منذ حقبة التسعينيات؛ بدأ الشباب المسلم الذي كان يتعاطف خلال فترات سابقة مع حركات التحرر الوطني، العلمانية والاجتماعية، في التفكير بأنّ الخيار الوحيد لمواجهة الرأسمالية الغربية وثقافة الاستهلاك أو سطوة المال هو الإسلام الأصولي الراديكالي، وأخذ سيد قطب وبن لادن يشغلان مكان ماو وفانون، وفي فرنسا كان آباء هؤلاء الشباب يعملون في الحزام الصناعي المحيط بالمدن الكبرى، لكن تراجع الصناعة أدّى لانزلاقهم في هاوية البطالة أو الوظائف البائسة، تزامن ذلك مع تراجع اليسار، الحزب الشيوعي على وجه الخصوص، خارج الأحياء الشعبية، ومع تصاعد وتيرة الهجمات، بدأ المسلمون في الشعور بالوصم ومع غياب الأحزاب أو النقابات التي تمثّلهم، لجؤوا إلى المساجد التي كان آباؤهم قد هجروها، وأدرك منظّرو تنظيم داعش هذه الظاهرة على نحو جيد للغاية: كلّما تزايدت الكراهية تجاه المسلمين في أوروبا استطاعوا تجنيد المزيد من الشباب؛ لذلك فإنّ الجهاديين هم المستفيد الأكبر من صعود اليمين المتشدد في الدول الغربية.

 

اقرأ أيضاً: هل نجح اليمين المتطرف بألمانيا في تأجيج "الإسلاموفوبيا"؟
ما الدور الذي لعبه مفهوما الشهيد والشهادة في هذه الحرب؟ وهل هما قاصران على الإسلام فقط؟

لا، بل إنّني أحاول إظهار كيف أنّه لطالما كانت هناك في الغرب فكرة مشابهة كثيراً للشهادة من المنظور الإسلامي، فضلاً عن أنّ فكرة البطولة العسكرية والموت في سبيل الوطن اختفت في الغرب قبل وقت قليل، ولا تختلف ثقافة البطولة هذه كثيراً عن الشهادة الجهادية، على أن الشهادة في الغرب اكتسبت قبل عقود مضت بعداً جديداً وهو الضحايا؛ فلم تعد الفئات الاجتماعية أو الأقليات راغبة في التذكير بأبطالها الذين سقطوا خلال معركة من أجل قضية ما؛ بل بـ "ضحاياها الأبرياء"، تطرّقت لهذه الظاهرة في (حلم الشهداء).

اقرأ أيضاً: الإسلاميون الراديكاليون إذ يستعيرون طرائق العنف الثوري لليسار

بدت ثورات الربيع العربي كحلّ بديل عن تغريب العالم العربي، لماذا فشلت؟ هل أخطأنا بالنظر إليها كثورات ديمقراطية بينما لم تكن كذلك في الحقيقة؟
بعد حصولها على الدعم من قبل أجهزة استخبارات عدة، دأبت الصحافة الغربية على تقديم هذه الثورات بصورة مبسّطة على نحو ما، نظراً إلى أنّ الشعوب ثارت في وجه حكّام ديكتاتوريين مثل بن علي ومبارك والقذافي، ما يعني أنّها حركات ديمقراطية بالضرورة، لكنّ الأمر لا يسير على هذه الطريقة، وبالمبدأ نفسه، فإنّ الفصائل المعارضة لبشار الأسد في سوريا حالياً لا تتّسم كلّها بالديمقراطية، هناك من لفت الانتباه إلى ذلك في وسائل الإعلام أثناء اندلاع ما يُسمّى بالربيع العربي، قبل أن يجرى اتهامهم لاحقاً بالدفاع عن حكام دمويين وفاسدين، مثلما حدث مع كثيرين ممّن عارضوا حرب العراق، عام 2003، التي نتج عنها ظهور تنظيم داعش.
لو لم تتدخل الولايات المتحدة في العراق، فربما لم يكن تنظيم داعش ليظهر

إذا لم يكن سبب النزاع، كما تؤّكدون في كتابكم، الصراع بين الثقافات أو الأديان أو القيم، فما هو منبعه أو الأسباب التي تؤدي للجهاد... هل هي اقتصادية أو سياسية أو شيء آخر؟
.. يسعى تنظيما القاعدة وداعش بالتأكيد لفرض الشريعة، وربما إنشاء خلافة، لكنّهما لم يشنّا الحرب ضدّ الغرب بسبب ذلك، إذا كانت اتفاقات أوسلو قد حقّقت نجاحاً، فربما لم تكن حماس لتوجد اليوم وتسيطر على قطاع غزة، ولو لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها قد تدخّلوا في العراق، فربما لم يكن تنظيم داعش ليظهر.

اقرأ أيضاً: إسلامي سابق يحكي قصته مع السلفية الراديكالية في ألمانيا
يعطي الغرب الأولوية للعمليات العسكرية في سبيل احتواء التهديد، وقد ينتصر في ميدان القتال، لكن هل النصر العسكري كافٍ للقضاء على أيدولوجية تهيمن على عقول ملايين الأشخاص؟ ما الذي يجب فعله؟ وهل نحن بصدد صراع بلا نهاية؟

لا اعتقد أنّها أيدولوجية تسيطر على عقول الملايين، سأضرب مثالاً؛ حين احتل العسكريون الأرجنتينيون، عام 1982، جزر مالبيناس/فوكلاند، وأرسلت مارجريت تاتشر الأسطول البريطاني، أيّد الكثير من الأرجنتينيين، حتى هؤلاء المعتقلون الذين كانوا يناضلون ضدّ الدكتاتورية، نظام جالتييري. حينما ترى مجموعة ما أنّ العدو الرئيس هو غزو خارجي، يمكن ضمان دعم قطاع عريض من الشعب والذي يتبنّى حزمة مبادئ، لقد حدث الشيء ذاته في العالم الإسلامي؛ حين حلّ الإسلامويون بدلاً من القوميين العلمانيين في الحرب ضدّ الإمبريالية الغربية، وهذا لا يعني أنّ ملايين المسلمين يريدون تطبيق الشريعة في بلادهم، أو العيش تحت وطأة حكم خلافة دينية، لكنّ الاعتداءات الغربية ستسهم فقط في انخراط مزيد من الشباب في صفوف هذه الجماعات، ومع غياب بديل سياسي قادر على تحريك الشعوب في مواجهة التبعات الاجتماعية الناتجة عن أشكال الرأسمالية الحالية، تظهر الرؤية الجهادية كبديل يوحي بعودة المجتمع المثالي لتستقطب المزيد من الأتباع.


• مقابلة مع الكاتب والفيلسوف الأرجنتيني، داردو سكافينو، أجراها الصحفي أندريس سيواني، ونشرت بموقع مجلة "الكولتورال"، التابعة لجريدة "الموندو" الإسبانية

الصفحة الرئيسية