الجابري محاولاً الإجابة عن أميّة النبي

الجابري محاولاً الإجابة عن أميّة النبي


15/01/2019

لماذا لا يكون كتابك الآخر عن القرآن الكريم؟ هكذا اقترح أحد أصدقاء الجابري عليه، بأن يدخل مجالاً آخر، يجهل الجابري نفسه مدى علاقته بأعماله السابقة، أو مشروعه ككلّ "نقد العقل العربي"، بتعبير أدق، لتأتي أحداث 11  سبتمبر، وتجعل المفكر المغربي ينطلق مرة أخرى من صدمة تهزّ كيان العالم العربي، وكأنّ المثقف العربي لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال صدمة، فنكبة 67 هي كانت الصدمة التي شكلت مشروع الجابري "نقد العقل العربي"، فيكتب الجابري تفسيره وتعريفه بالقرآن الكريم، بعد تلك الصدمة الثانية للثقافة العربية المعروف بـ"القرآن الحكيم التفسير بحسب أسباب النزول".

اقرأ أيضاً: الدالاي لاما يدافع عن الإسلام وجميع الأديان: الأرض بيتنا الوحيد

وما يهمّنا هنا مناقشة بعض ما جاء في مدخل القرآن الكريم، والتعريف به، ونضع بين أيدينا قضية أخرى خاض فيها الجابري، وقدم فيها أطروحته، وهي قضية ليست بجديدة، وهي أميّة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأميّة العرب؛ فهل كان النبي أمّياً لا يعرف القراءة والكتابة؟ وهل هناك وجه إعجاز -كما قيل- في هذا الأمر؟ كما قلنا هذه الأسئلة ليست بجديدة في الثقافة العربية المعاصرة، لكن يعالجها الجابري بطريقته المعهودة، وهي الحفر (البنيوي في التراث)، بما يتعلق بهذه الأسئلة، فيبدأ بوضع نصب عينيه الحادثة الأولى التي شكلت القول بأمّية النبي بمعناها التراثي، وهي عدم معرفة القراءة والكتابة.

أولاً: ما أنا بقارئ!

يعرض الجابري أمامه الروايتين اللتين تتحدثان عن بداية نزول الوحي، فبالنسبة إلى الجابري، عندما جاء جبريل إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقال له: اقرأ، فقال: ماذا اقرأ، أو ما أنا بقارئ، لا تنفيان فعل القراءة بقدر ما تستفهمانه، فيجعل الجابري (ما أنا بقارئ) علامة للاستفهام بشأن القراءة، وليست نفياً للقراءة، ويشبهها الجابري بصيغة أخرى في الكلام العربي، وهي: "ما أنا بفاعل بكم؟"، (فما) في (ما أنا بقارئ) يحملها الجابري ما حملته (ما) (ما أنا بفاعل بكم؟) مما يجعلها تغلب المعنى الشائع كلياً، وتصبح تأكيداً للقدرة على القراءة، ولتأكيد ذلك يقرر الجابري أنّ القراءة هنا ليست تتبعاً لحروف مكتوبة، إنما هي (تلاوة) و(تكرار) لما سيقوله جبريل، فعندما يقول له جبريل (اقرأ)، لا بدّ من أن يسأله النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ماذا يقرأ، أو ما يقرأ ليجيب جبريل بالآيات ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.

ثانياً: النبي الأمّي والأمة الأمية

يرى الجابري؛ أنّ هناك آيات كثيرة تصف النبي، صلّى الله عليه وسلّم، بأنه "أمّي"، و"الأمة" التي بعث فيها بأنها "أمّية"، ويرتب الجابري الآيات التي تقول بذلك، بحسب ما اختار من منهج، وهو ترتيب الآيات بحسب أسباب وتاريخ نزولها، وهي:

نفي المعرفة أو الاطلاع على كتاب سماوي فحوى ما تحمله الآية التي يتناولها القائلون بالأمية التراثية

1.    قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ ويعلّق الجابري: المقصود النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وحتماً الآخرون هم أهل الكتاب.

2.    قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ ويعلق الجابري قائلاً: المقصود أناس من العرب اعتنقوا اليهودية، ولا علم لهم بالتوراة أو المسيحية، ولا علم لهم بالإنجيل، ويقولون إنّ ما يعتقدونه من التوراة والإنجيل.

3.    قوله تعالى أيضاً: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ والمقصود في الآية بـ"الأميين" الذين تحدث عنهم أهل الكتاب؛ هم العرب، ويورد الجابري هنا مقولة طريفة: "ليس علينا في غشّ العرب من حرج".

اقرأ أيضاً: الإعجاز إذ يجعل القرآن كتاباً علمياً!

4.    وبالنسبة إليّ؛ أرى أنّ كثيراً ما يفعل "المغرورون بدينهم وتدينهم"؛ ذلك إيذاء من ليسوا على دينهم؛ أي يستحلونهم انطلاقاً من دعوى (تفضيل الله)، ولا يذكر الله حتماً هذه النماذج من (التدين)، والمقولات التي يعتقدها أهل الكتاب عبثاً.

بالنسبة إلى الجابري الأمية هي خلوّ الذاكرة التاريخية للعرب وللنبي الذي منهم من كتاب سابق

5.    قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والمقصود أيضاً في الآية هم العرب، وليس للأمر علاقة بالقراءة أو الكتابة، كما سيتضح لاحقاً فيما يذهب إليه الجابري، وهو أنّ كلّ هذه الآيات لا يصدق عليها أنها تقصد عدم القراءة والكتابة؛ لأنّ التقابل فيها، والقول للجابري: "بين الأميين من طرف وأهل الكتاب من طرف آخر"؛ ما يعني بالنسبة إلى الجابري؛ أنّ الأمية هي خلو الذاكرة التاريخية للعرب وللنبي الذي منهم من كتاب سابق، أي كما تقول الآية في سورة يس: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ وهنا يتضح مدى الفارق بين القول بالعجز عن القراءة والكتابة، والقول بخلوّ الذاكرة التاريخية، فالقول الأول لا يتسق والرسالة بصورة كلية؛ إذ لا حاجة إلى عدم معرفة القراءة والكتابة، بقدر ما الحاجة هي إلى القول الثاني، وهو انعدام الوعي الديني في الذاكرة المحمدية والعربية، مما يفتح المجال داخلها لإمكانية صدور وعي ديني أو رسالة جديدة.

ثالثاً: هل في أمّية النبي إعجاز؟

يتناول أهل السير والمغازي والفقهاء أمّية النبي، صلّى الله عليه وسلم، على وجه إعجازي، فيقولون إنّ هذا الإعجاز يكمن في إتيانه الرسالة رغم أمّيته، ومنهم من يرى أنّ الإعجاز في أنّه تعلّم الكتابة والقراءة بعد نزول الوحي، بلا معلم يعلمه القراءة والكتابة، وهذا الإعجاز أيضاً هو الذي ينفي إمكانية افتراء النبي للقرآن الكريم، فكونه لا يقرأ ولا يكتب مقولة تعصم النبي، صلّى الله عليه وسلّم، من أقاويل أهل الكتاب مثل قولهم إنّ النبي هو الذي كتب القرآن الكريم بنفسه.

يرى الجابري أنّ ردي النبي الكريم: ماذا اقرأ، أو ما أنا بقارئ لا ينفيان فعل القراءة بل يستفهمانه

لكنّ بالنسبة إلى الجابري بلاغة الكلام عند العرب أمر ليس في حاجة إلى قراءة أو كتابة، إنما الأمر يكمن في نفي المعرفة أو الاطلاع على كتاب من الكتب السماوية الأخرى، وهو فحوى ما تحمله الآية التي يتناولها القائلون بالأمية التراثية: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾؛ فالارتياب يأتي من كون النبي، عليه السلام، يستنسخ القرآن الكريم، من الكتب السماوية السابقة، لكن لنفي هذا الارتياب تأتي أمّية النبي الكريم بمعنى عدم المعرفة بكتاب سابق؛ أي إنّ النبي لم يطلع على التوراة والإنجيل، ولم تكن له معرفة بهما، بل يذهب القرآن الكريم إلى أبعد من ذلك، فلم يكن النبي يعرف حتى (الإيمان)، ومفهومه من قبل أن يأتيه القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية