في ذكرى ميلاد عبد الناصر.. هل سقط المشروع القومي العربي؟

في ذكرى ميلاد عبد الناصر.. هل سقط المشروع القومي العربي؟


17/01/2019

ما بين ثورة تموز (يوليو) 1952، وثورة كانون الثاني (يناير) 2011، تاريخ طويل وحافل بالمتغيرات والأحداث؛ حيث تبدّلت أحوال وتوارت، خلف غياهب الزمان، وتحت أقدام العرب أنفسهم، من تطلعات قومية، وأمانيّ بالوحدة، بينما تواصلت التنازلات، التي بدأت بالمصالحة مع عدوّ تاريخي، وصولاً إلى الهرولة الساذجة لطرق أبواب واشنطن عبر تل أبيب.

ما حدث بعد الربيع العربي، وصعود الإسلام السياسي، يعود لتطلع أمريكا للسيطرة على الشرق الأوسط

إنّ إدراك ما حدث عشية انفجار "الربيع العربي"، وصعود قوى الإسلام السياسي، يعود بنا إلى أكثر من نصف قرن مضى من الزمان، مع بدء انشغال الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، وتطلعها إلى السيطرة عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانحسار نفوذ الاستعمار الغربي التقليدي، وظهور واشنطن كقوة جديدة في العالم الغربي في مواجهة الاتحاد السوفييتي، الذي كان يحاول هو الآخر بسط نفوذه هنا وهناك، وفي ظلّ مرحلة مخاض ثوري عنيف اجتاح العالم آنذاك، بدأت حرب من نوع خاص بين القوتين الكبريين، اصطلح على تسميتها بـ "الحرب الباردة"، والتي شهدت، رغم برودتها، أشدّ الصراعات سخونة، وأكثر المعارك دموية؛ في كوريا، وفيتنام، والسويس، والمجر، وكوبا، وغيرها.

اقرأ أيضاً: 5 مبدعين اضطهدهم جمال عبدالناصر ونظامه
كان الشرق الأوسط من أشدّ بؤر الحرب الباردة سخونة، لقرابة ربع قرن من الزمن؛ حيث كانت المنطقة محطّ تطلعات المعسكرَيْنِ المتنافسَين على مناطق النفوذ في العالم، وكان الشرق الأوسط يمثل للولايات المتحدة أهمية إستراتيجية قصوى، من حيث الموقع الجغرافي المتميز، وموارد البترول الغنية، وقناة السويس، إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني الوليد في فلسطين، والذي كان يرتبط آنذاك بشبكة من المصالح مع الولايات المتحدة التي أرادت أن تكون إسرائيل قاعدة متقدمة للمشروع الإمبريالي الأمريكي في الشرق الأوسط، في محاولة لاحتواء وتطويق المدّ الشيوعي، وضمان عدم وقوع المنطقة تحت النفوذ السوفييتي، مثلما حدث في الهند الصينية وكوبا وفيتنام، ومن هنا بدأت خطط الهيمنة الأمريكية بـ "مشروع ترومان" عام 1949، الذي عُرف باسم "النقطة الرابعة"؛ نسبة إلى المادة الرابعة منه، وتضمّن إمكانية تقديم مساعدات سياسية واقتصادية وعسكرية إلى دول العالم العربي الواقعة تحت النفوذ الغربي، ثم تبعه مشروع "القيادة الرباعية للشرق الأوسط" عام 1951، بهدف إقامة سلسلة من التحالفات السياسية والعسكرية مع دول المنطقة، ثم مشروع "قيادة الشرق الأوسط العسكرية" عام 1953، أو الحزام الشمالي للمنطقة التي تضمّ بعض الدول العربية، وبعض دول الجوار في آسيا، خاصة إيران وباكستان وتركيا، إضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، ونتج عن ذلك ما عرف باسم "حلف بغداد"، ثم جاء "مشروع آيزنهاور" لملء الفراغ عام 1957، ليعبّر عن واقع سياسي إقليمي ودولي جديد بعد حرب السويس عام 1956، وكان هدفه فرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة، في مقابل تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية، وإدراج إسرائيل كعضو فعّال في المنطقة، في ظلّ المشروع التوسعي الأمريكي.

جاء مشروع آيزنهاور لملء الفراغ وللتعبير عن واقع سياسي جديد بعد حرب السويس هدفه فرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة

وعلى صعيد الوضع السياسي في الشرق الأوسط؛ كانت المنطقة العربية بالكامل تئِنُّ تحت وطأة الاستعمار الغربي، بعد أن قسَّمت اتفاقية "سايكس بيكو" تركة الرجل الأوروبي المريض (تركيا)، بالتواطؤ مع أنظمة متهالكة، فمصر قلب، العالم العربي، كانت واقعة تحت حكم ملكي فقد سيطرته على كلّ شيء، وباتت أهواء الملك العابث تدفع بوضع نهاية درامية له، في حين ربط النظام العراقي مصيره بالمشروعات الغربية، فكان "نوري السعيد" وكيلاً عن بريطانيا في المنطقة قبل أن يكون رئيساً لوزراء العراق، وفي سوريا ولبنان، كان الواقع السياسي غير مستقر وشديد الاضطراب، وفي الجزيرة العربية لم يكن الوضع أفضل حالاً، و في اليمن كانت أسرة "حميد الدين" تمارس آخر طقوس الحكم الإلهي، وقد نصب الملوك أنفسهم أئمة، ليتوقف بهم التاريخ عند القرون الوسطى، وفي الخليج وعُمان كان الشيوخ والأمراء يحكمون بمنطق القبيلة، ليظهر الشيخ "شخبوط" ومن على شاكلته، في حين كان المغرب العربي واقعاً تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، الذي حاول القضاء على الهوية العربية للشعوب المغاربية، وكانت نكبة فلسطين 1948، تجسيداً حقيقياً لما يعيشه الواقع العربي من أفول.

اقرأ أيضاً: جمال عبدالناصر يدير معارك الفيسبوك
وفي لحظة تاريخية ربما كانت فارقة، قامت ثورة تموز (يوليو) المصرية فوق أشلاء نظام ملكي متهاوٍ، لتهبّ رياح التغيير، وتشتعل جذوة القومية العربية الخامدة، من واقع آلام الشعب العربي ورغبته في الخلاص، لتمضي المنطقة العربية في سياق ثورات التحرر الوطني العارمة، والتي كانت في مرحلة مخاض عارم اكتنف العالم من كوبا إلى فيتنام، لتبدأ حالة من المدّ الثوري الوطني، التي لم يستطع أحدُ الوقوف في طريقها.

اقرأ أيضاً: عبد الناصر يدعم الثورة الإيرانية .. يا لثارات مصدق
ومنذ البداية؛ كانت المواجهة مع الاستعمار الغربي لا مناص منها، وكان النزاع مع العدو الصهيوني مسلّمة تاريخية لا بدّ منها، فظهر جمال عبد الناصر، الذي حلّت ذكرى ميلاده قبل يومين  (15 يناير 1918 – 28 سبتمبر 1970)، بمشروعه القومي العروبي، فحاصر "حلف بغداد" على الصعيد العربي، قبل أن يشارك في إشعال حرب استقلال تاريخية في الجزائر 1954، وأحبط "مشروع آيزنهاور"، بعد أن خرج منتصراً من حرب السويس 1956، وحينما كانت الخطط تجري على قدم وساق في "حلف بغداد" لالتهام سوريا، فوجئ الجميع بقيام الوحدة بين مصر وسوريا، لتظهر للمرة الأولى منذ عصر "محمد علي" دولة واحدة تضمّ مصر، وأكبر بلدان الشام، وحين سقط الحلم الوحدوي نتيجة لأخطاء فادحة، لم يسقط مشروع عبد الناصر الذي ظهر من جديد في اليمن، ليخوض حرباً فرضتها مقتضيات المشروع القومي، ويقف وجهاً لوجه أمام الرجعية المتحالفة مع نظام ديني قبلي، لينجح في حماية الجمهورية الوليدة من السقوط، إلى أن جاءت الهزيمة الكارثية، في حزيران (يونيو) 1976، التي توقع الجميع أنّه لن تقوم قائمة للمشروع القومي بعدها.
ومن جديد، خرج عبد الناصر من الأزمة أكثر إصراراً على المواجهة، فكانت فرحة بناء الجيش المنهار، ثم مرحلة المواجهة، لتبدأ واحدة من أشرس معارك التاريخ الحديث ألا وهي؛ حرب الاستنزاف، وليثبت الجيش العربي المصري أنّه لم ينكسر وأنّه موجود، وأنّ الهزيمة حدث عارض في تاريخ الشعوب والأمم.

محاولات القفز على القضايا العربية المركزية واعتبار الصراع العربي الإسرائيلي من موروثات الماضي يمثل قتلاً للمشروع العروبي

في تلك الآونة؛ كانت النزاعات العربية الداخلية أكثر سلباً من الصراعات الخارجية. ومع التسليم بوجود أخطاء تجلّت بوضوح في أحداث الانفصال السوري والتورط المباشر في حرب اليمن، وهزيمة حزيران (يونيو) 1967م، إلا أنّ ذلك ليس مبرراً لإهالة التراب على فترة تاريخية، ظهر فيها المشروع القومي، وتجلت استقلالية القرار، والقدرة على المواجهة والصمود حتى مع الهزيمة، كما ظهرت جوانب الوحدة بين الشعوب العربية، وإن لم تقم بين الحكومات بالقوة نفسها؛ حيث التفّت الشعوب العربية على هدف واحد، للمرة الأولى في تاريخها، ووضعت إسرائيل تحت ضغط دائم ومقاطعة مذلة، ولأول مرة تذوب الفوارق والحدود، فها هو عبد الناصر، ومن حوله الجموع المؤمنة بالمشروع العروبي من قصر الضيافة في دمشق، إلى ميدان بورسعيد في الجزائر، ومن صنعاء إلى الخرطوم، وللمرة الأولى تذهب الجيوش العربية، حتى إن كانت رمزية، من العراق إلى الأردن لحمايته، ومن الجزائر والمغرب والسودان وغيرها، إلى خطوط المواجهة، كان الهدف واضحاً، والسعي إليه قائماً، لولا عوامل داخلية وخارجية أعاقته مع فقدان الإرادة لدى البعض، والخوف على المصالح الشخصية لدى البعض الآخر، وليس أدلّ من موقف الرئيس الجزائري، هواري بومدين، حين طار إلى موسكو بعد هزيمة حزيران (يونيو ) 1967 مباشرة، حاملاً "شيكات على بياض" ليشتري السلاح للجيش المصري، وليس أدلّ من مظاهرات الخرطوم التي كادت أن تشتعل لو لم يتراجع عبد الناصر عن قراره بالتنحي، فأين ذلك كلّه من صورة الشارع العربي الآن؟

اقرأ أيضاً: غضب بسبب إحراق صورة عبد الناصر.. و"إم بي سي" ترد
إنّ محاولات القفز على القضايا العربية المركزية، واعتبار الصراع العربي الإسرائيلي من موروثات الماضي، يمثل قتلاً للمشروع العروبي، في ظلّ السعي إلى دمج "إسرائيل" في المنطقة عبر مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات السياسية، التي تجبر أيّ طرف عربي على التعاون والتطبيع، مع إخراج الشعب العربي الفلسطيني من المعادلة دون تحقيق آماله المشروعة في دولته المستقلة، لتبدأ إعادة صياغة للحالة السياسية في المنطقة العربية، في ضوء المصالح الأمريكية، ومتطلبات "الأمن الإسرائيلي"، خارج إطار المشروع القومي العربي الذي بات هو الآخر في نظر هؤلاء من موروثات الماضي.

الصفحة الرئيسية