رضا عبدالسلام: رحلتي إلى إذاعة القرآن الكريم بدأت بتحايلي على الإعاقة

رضا عبدالسلام: رحلتي إلى إذاعة القرآن الكريم بدأت بتحايلي على الإعاقة


17/01/2019

أجرى الحوار: ماهر فرغلي


قال المذيع في إذاعة القرآن الكريم المصرية، رضا عبد السلام، إنّ ولادته بلا ذراعين لم تدفعه إلى الاستسلام والانعزال عن مجتمعه، فسعى طوال حياته إلى "التحايل على العجز وهزيمته"، في كل المراحل التي مر بها.
وبين في حواره مع "حفريات" كيف نجح بدعم من أسرته في البيت والمدرسة في قهر إعاقته وتعلّم الكتابة باستخدام قدمه وفمه حتى تخرج من الجامعة بنجاح.

اقرأ أيضاً: الإعاقة الحركية لا تمنع ممارسة الكاراتيه في غزة
ويعرّج عبدالسلام على أهم المحطات التي تجاوزها في رحلته، خاصة في طفولته المبكرة، حتى أصبح  مذيعاً، "كأنّ القدر كان يعدني لأمر ما في هذه المهنة العريقة، وإن بدا هذا من الوهلة الأولى مستحيلاً".
وهنا نص الحوار:

لا مستحيل أمام الدعم والإرادة
لنبدأ من أعوامك الأولى، وكيف تكيفت مع ولادتك بلا ذراعين؟

حينما توضع على المحك؛ إمّا أن تنجح وتثبت أنك تستحق الحياة، وإما أن ترسب، لقد ولدت بلا ذراعين، ولم أكن معهما أستطيع أن أؤدّي أيّ شيء من ضرورات الحياة، وكان عليّ أن أتحايل على العجز وأهزمه، وأجعله شبه معدوم، والمواقف الناجمة عن الاحتكاك بأصناف مختلفة من الناس هي ابتلاء حقيقي لي، لكنّ أبي الذي آمن أنني إنسان، وأنّ الله تعالى ما دام قد أراد لي الحياة فإنّه كتب لي القدرة على أن أعيش، نفخ في روحي المثابرة والأمل، ورسم لي طريق التعب والجد وعدم النظر للمثبطين، أو طريق العيش على أن أتكفف الناس، وحينئذ سأخرج من حياتي بلا قيمة تذكر. وكان يقول لي "لا تسمح لنفسك أن تكون محلاً للشفقة، ولا تجعل الناس تنظر إليك نظرة ضعف".

رضا عبدالسلام مع الزميل ماهر فرغلي (حفريات)

كذلك أمي، التي رأت مولوداً لم ترَ له شبيهاً في الأطفال حولها، لكنّها يوماً ما لم تشعرني أن لي يدين قصيرتين، وأستاذتي فادية؛ التي كانت تعاملني كزملائي، بل وتقدمني عليهم، وأختي التي حملت في بداية عهدها بالحياة كلّ حاجاتي، وكانت إذا رأتني من بعيد تفرغ نفسها تماماً لكلّ ما أريد، وأصبح لنا، أنا وهي، قلبان نستقي منهما روح الحياة.

حينما توضع على المحك إمّا أن تنجح وتثبت أنك تستحق الحياة وإما أن ترسب

إنّ هؤلاء، مع باقة من أصدقاء الطفولة؛ هم الذين أعطوني في مسيرة الحياة الثقة التي دفعتني إلى الأمام، وعلى الجانب الآخر؛ كان هناك من وقفوا في طريقي، والذين كانوا لا يرون في شخصي إلا العجز، فتراهم يؤخرونني حين أستحق التقديم، ويبخسون حقي لأنني أتمسك به، ويريدونني أن أعيش بلا قيمة، لكن الإرادة الإنسانية قد أوجدها خالقها كي تعمل، لا لتقعد، ويحضرني دلالة على هذه المعاني، حينما خرجت في إحدى الحلقات التلفزيونية، واتصل بي بعدها شخصية مهمّة، وقال إنّ ابنته تعيش في أمريكا وقد ولدت طفلاً معاقاً بنفس طريقتي، وقد انتابها اليأس، لكنّها لما رأتني دبّ فيها الأمل.
كانت التجربة عندي هي القاعدة، أجرب كلّ شيء، وكنت مقتحماً؛ لأنّ الحياة بالنسبة إلى طفل لا بدّ من أن يكون بها التجريب والمغامرة، فمثلاً كنت أريد أن أرتدي ملابسي بنفسي، وحاولت أكثر من مرة فلم أقدر، وأمي طالما كانت تنهرني عن فعل ذلك، حتى لا يتسبّب هذا في إحباط لي.

التجارب القاسية تدفع للأمام
هل كان تحقيق الأمنيات بالنسبة إليك مستحيلاً في البداية؟

ليس كلّ الأمنيات؛ فمنذ أعوام العمر الأولى كنت دائم الحركة، وعلمني أبي كيف أركل كرة القدم، وبدأت علاقتي بهذه الرياضة، لكنّها انتهت الآن بعد هذا العمر، وليس كل رغبته تمكنت من تحقيقه كممارسة السباحة مثلاً، فقد كنت أذهب مع بعض الأولاد إلى الترعة، هم ينزلون للسباحة وأنا بجانب ملابسهم وأحذيتهم، وكنت أحبّ جداً الذهاب معهم، وكانت أمنية السباحة بالنسبة لي مستحيلة التحقق، عندما أراهم يسبحون ضاربين بأيديهم الماء الجاري.

اقرأ أيضاً: 17 لاعباً من غزة يغيّرون قواعد كرة القدم
وفي إحدى المرات؛ وجدت نفسي بسبب مشاكسات الطفولة في وسط الترعة بعد أن دفعني أحد الأولاد بكل قوته، وظللت أصارع الموت غرقاً، حتى جاءني أحدهم وأمسك بي من وسط جسمي ورفعني كي أتنفس حتى عادت لي الحياة مرة أخرى، وتعلمت من وقتها ألا أضع نفسي في موقف أكون فيه عاجزاً عن التصرف.

عبدالسلام: جئت بالقلم وعلقته بين أصبعي، فدهش والدي كيف فعلت ذلك

كيف بدأت علاقتك مع القلم والكتابة؟
القلم كان مثلاً لي حين لم أرتمِ في حضن اليأس؛ شجعني أبي وعلمني كيف أمسك القلم بقدمي، كان أبي خائفاً في البداية من أن تفشل التجربة، فقال لي نجرب في وقت آخر، لكنني أصررت على المحاولة ونجحت، وعندما أعاود التفكير في الخطوة، وكيف سأجلس وأنا أكتب وأنظر إلى ما أكتبه، وهو بعيد عن عينيّ، فجلست واضعاً رجلي تحت مقعدتيّ، وأقمت رجلي اليسرى كالزاوية القائمة، ثم جئت بالقلم وعلقته بين أصبعي، فدهش والدي كيف فعلت ذلك، فنظر لي مبتسماً ثم ذهب ليخلد إلى النوم وهو مرتاح الصدر.

اقرأ أيضاً: طه حسين: إيمان بانقشاع الظلمة ولو بعد حين
كان أبي يعلمني الخط والكتابة والحروف حتى استطعت كتابة اسمي والحروف منفردة، وأذكر حين كنت في المدرسة الابتدائية، وكان كلّ زملائي يفردون أصابعهم حين نسأل مثلاً خمسة زائد أربعة كم، ويعدون عليها، كنت أشير بأصابع رجلي، ولا أجد حرجاً في ذلك.

رحلة الدراسة

في رأيك؛ ما هي المحنة الأصعب التي واجهتك؟
المحنة الأصعب؛ حين جاء اليوم الأول للدراسة، واكتشف أبي أنّ اسمي غير مدرج مع الطلبة، فثار وعلم أنّ الوزارة رفضت قبول المعاقين، وضاعت السنة الأولى، ونصح صديق والدي أن يذهب بي لوكيل الوزارة، ويريه قدراتي بالكتابة، وقد مرّ شهر في السنة الثانية، ولما رآني الوكيل تعجّب، فقال له والدي: لو عندك ابن مثله هل ترضى ألا يتعلم؟ فسكت الرجل، فأكمل: إذا لم توافق سأذهب لرئيس الوزراء، ولو لم يوافق سأذهب لجمال عبدالناصر، وأمسك بي والدي، وخلع لي حذائي، وطلب مني أن أكتب بقدمي، فكتبت بخط جيد، فذهل الرجل، ووافق على الفور.

حين جاء اليوم الأول للدراسة اكتشف أبي أنّ اسمي غير مدرج بسبب إعاقتي (تعبيرية)

صف لنا كيف كان يومك الأول في المدرسة؟

أستاذتي فادية كان لها دور كبير؛ فهي التي استقبلتني كأنها تحمل عن وليدها كلّ ألوان التعب، وفي أول يوم كانت هناك مشكلة كبيرة؛ كيف أجلس على الأرض لأكتب بأصبع قدمي، وهذا محال داخل الفصل، ولم تفلح في حلّ المشكلة معي، وأجلستني على الأريكة فلم يستقم جسمي، وكدت أقع، فلجأت لوالدي ففشل أيضاً فاستسلم لواقع لا يستطيع أن يغيره، وخلال هذه المحنة قال أستاذي، حسنين محمد، لوالدي: "الولد شاطر لكن لا بدّ من وسيلة للكتابة"، قال له أبي: "وإذا لم نجد"، وأطبق الصمت، فتدخلت والدتي لتقول لوالدي، تذكر كيف واجهتنا المحن وانتصرنا عليها، وبالفعل وجدت الله تعالى يلهمني للكتابة عن طريق إمساك القلم بأسناني، وكانت الأبلة فادية، هي والأستاذ حسنين محمد، يساعدانني على تحسين خطي.

هل مرّت أيام الدراسة بيسر وسهولة فيما بعد؟
لا، فممّا أذكره؛ أنني كنت أكره الرياضيات، وأتعامل مع هذه المادة تعامل المضطر الذي يجد نفسه مجبراً على التعامل مع شيء لا يحبه ولا يطيقه، وأذكر أنه عندما بدأنا نتعامل مع مادة الهندسة، كان لا بدّ لنا من استعمال الفرجار؛ حيث عموده الأول مركّب فيه السنّ الذي يثبت على الورقة، والعمود الآخر به القلم الرصاص المثبت الذي يلف بخطه لرسم الدائرة المطلوبة بعد تحديد القطر عن طريق المسطرة، وقد كان ذلك تحدياً كبيراً لي، لكن كما هي العادة ظللت أبحث عن وسيلة، وظللت أجرب حتى اهتديت إلى طريقة لإنجاز المهمة، وهي تثبيت السنّ بقوة عن طريق الضغط على رأس الفرجار بفمي وبأسناني حتى يثبت تماماً، ثم يسلم الفم رأس الفرجار إلى إصبع يدي الشمال، وأضغط قليلاً بصدري وأحرك بإصبعي الفرجار حتى تكتمل الدائرة تماماً، وكانت مهمة شاقة، لكن كنت عندما أتمّها أشعر براحة لا مثيل لها، وأحياناً كنت أفشل، فأعاود حتى أتم رسم الدائرة.

دعمني كثيرون لكن ثمة من وقفوا في طريقي وكانوا لا يرون في شخصي إلا العجز

وكذلك مع آلة هندسية أخرى، وهي "المنقلة"، وكانت مما يثقل على مثلي استعمالها لأنها قصيرة، ومن ثم لا أستطيع أن أتحكم فيها؛ لذا كنت أقيس الزوايا عن طريق وضعها وتحديد الزاوية ثم تثبيتها مرة بعد مرة، حتى ينقضي الأمر، وكنت أشعر عند استعمالها بضيق النفس، وما إن أنتهي حتى أطلق الزفرات لإعلان الانتهاء من هذه المحنة، وبالنسبة إلى المسطرة؛ كانت تتعبني جداً؛ لأنها طويلة، وكنت إذا ثبّتها وبدأت أخطّ الخط تحتها، تهتز وينزل الخط، كي يشرب من الترعة، كما كنا نتندر ساعتها؛ لذا ومع أشياء أخرى كنت لا أطيق مادة الرياضيات.

ثمرة العزيمة والإصرار

عبدالسلام: بعد رحلة طويلة أصبحت مذيعاً على الهواء في الإذاعة

كيف كانت حياتك الجامعية؟
مرت الأيام سريعاً، وبعد حرب الـ 73 مع إسرائيل، دخلت كلية الحقوق، ودرست الشريعة، وحصلت على تقدير جيد، وأذكر أنّ السبب في عدم حصولي على امتياز هو تأخري بالكتابة، وفي أحد الامتحانات بقي في الوقت نصف ساعة فقط، فوقفت فجأة بعد أن سمعت المراقبة تقول ذلك، وقلت لها أنا أريد وقتاً إضافياً، وكراسة إجابة أخرى، لأنّ الكراسة التي أكتب فيها ستنتهي بعد ورقة أو ورقتين، وأريد أن أكمل الإجابة كما أريد، وكان يقف في هذا الوقت في اللجنة رئيس الكنترول، وكان أستاذاً في كلية الزراعة، ولم أكن أعرفه، فلما قلت أريد وقتا إضافياُ وكراسة جديدة، قال: لا وقت ولا كراسة، فنظرت إلى السيدة المراقبة ولم ألتفت إليه، وكررت عليها السؤال، فرد هذا الرجل مرة أخرى، وقال: لا وقت ولا كراسة، وكان هذا سبباً في عدم حصولي على تقدير.
كيف إذاً درست الحقوق ثم مارست الإعلام وأصبحت مذيعاً؟
في البداية، فكرت في التقديم للنيابة العامة، لكنّ أحد الموظفين قال لي لا تتعب نفسك لن يوافقوا عليك، وذهبت للأستاذ عبدالوهاب مطاوع للتقديم في الإذاعة، وسألني ساعتها: "لماذا تريد أن تكون مذيعاً؟"، فقلت: "لأنني أمتلك صوتاً ليس به لعثمة، ودرست اللغة العربية والحقوق والشريعة، وأملك كل المؤهلات"، فابتسم وجهه، وبدأت رحلتي أن أكون مذيعاً، وهي أقدار الله تعالى، التي تمهد لحياتي في كثير من مواقفها وأحوالها، وكأن القدر كان يعدني لأمر ما في هذه المهنة العريقة، وإن بدا هذا من الوهلة الأولى مستحيلاً.
صف لنا هذه الرحلة، التي كانت نهايتها وقوفك خلف (ميكروفون) إذاعة القرآن الكريم؟
الرحلة كانت صعبة، بدأت حين ذهبت لرئيس الإذاعة، فهمي عمر، الذي قابلني باستهجان، وقال لي: "ماذا ستعمل هنا؟!"، فقلت له: "مذيع"، فتعجّب، وكلفني أن أذهب إلى الطابق الثالث، وكان قسم التدريب لمدة شهر، وبعدها أخضع لامتحان في الإلقاء وغيرها، ويوم الامتحان طلبوا مني قراءة خبر عن زيارة السلطان قابوس لمصر، ثم قراءة القرآن الكريم، ولم يكملوا باقي الامتحان في اللغة العربية وغيرها، لقد كانوا يريدون أن يوقفوا الحلم.

تعلمت أن أشكر من يعرض علي المساعدة وأعتذر عن تقبلها ما دامت في مقدوري

لقد وجدت كل الأبواب موصدة، والقلوب مقفلة، والرحمة تنادي لكن لا مستجيب، فدخلت لرئيس الإذاعة أشتكي له، فغضب مني، لكن الأستاذ عطية، أحد العاملين هناك، والإعلامي أمين بسيوني، الذي كان سيتسلم رئاسة الإذاعة، كانا يدركان إمكانياتي، فوافقا على تعييني في إذاعة وسط الدلتا، ثم إذاعة القرآن الكريم، ليخرج الصوت، رغم منعه، وبعد رحلة طويلة أصبحت مذيعاً على الهواء في الإذاعة، وبعدها بأعوام قليلة مات أبي، وأحسست أنّ جسمي كله تفكك، ووجدتني أقع على الأرض، وأنظر إلى الناس، وكأنها خيالات أمامي، هذا الرجل الذي لولاه ما كنت ولا حييت.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية