مواجهة عبر الموسيقى بين التشدد والاعتدال

مواجهة عبر الموسيقى بين التشدد والاعتدال


20/01/2019

عماد بوظو

في مدينة الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى ذات المكانة الرمزية الخاصة، أقيم لثلاث ليالي متتالية في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر 2018 أكبر مهرجان موسيقي عالمي تم تنظيمه في السعودية حتى الآن. أحيى الحفل النجم الإسباني أنريكي إغليسياس والنجم الفرنسي ديفيد غيتا ونجوم وفرق عالمية أخرى بالإضافة للفنان المصري عمرو دياب، وسط حضور كثيف ونسبة مشاركة واسعة للفتيات السعوديات. كانت وجوه الحاضرين تضج بالسعادة وحب الحياة، وتفاعل الجمهور مع الموسيقى كان شديدا مثل ما يحدث في بقية دول العالم، ومع الهواتف النقالة وصلت هذه المشاهد للعالم لتصور رغبة نسبة كبيرة من شباب وبنات السعودية بأن يستمتعوا بحياتهم وشبابهم.

ورغم أن لباس الحضور من الفتيات والشباب كان هو اللباس السعودي التقليدي، فقد صدرت كثير من التعليقات المنتقدة والمهاجمة لما حدث باعتباره انحلالا وتغريبا وخاصة لحدوثه في الدرعية منشأ الدعوة الوهابية وتركز الهجوم على ما اعتبروه اختلاطا وهو مجرد وجود الشباب والبنات في ساحة واحدة مكشوفة لا مجال فيها لأي خلوة أو خصوصية، وعلى المرأة إذ اعتبروا خروجها من منزلها بكامل زينتها. ومنهم من قال إن الموسيقى هي من المنكرات التي لا يمكن قبولها بأي حال ورأوا أن واجبهم هو النهي عنها.

وقبل أيام أحيى الفنان المصري عمر خيرت مع فرقته الموسيقية حفلة في مدينة العلا الواقعة بين المدينة وتبوك قدم فيها أشهر أعماله، وليلة 18 من الشهر الحالي قدم أصغر عازف بيانو منفرد "لانج لانج" حفلا موسيقيا، كما سيشهد شتاء طنطورة إطلالة أم كلثوم بتقنية الهولوغرام في 25 من الشهر الحالي، ثم أندريا بوتشيلي مطلع شباط/فبراير المقبل ضمن سلسلة من الفعاليات والحفلات الموسيقية التي تشهدها السعودية مؤخرا.

في المقابل، يواجه الإصلاحيون في إيران عدة عقبات خلال محاولاتهم إقامة حفلات موسيقية لأنها سرعان ما تصطدم بمعارضة وقوة نفوذ المحافظين على المستوى الوطني أو على مستوى الأقاليم والمدن، رغم أن موقف المذهب الشيعي أقل تشددا من موقف التيار السلفي الذي يحرم الموسيقى بكل أشكالها وأغلب آلاتها، بينما في المذهب الشيعي لا يحرم استخدام جميع الآلات الموسيقية وهناك موسيقى محللة وموسيقى محرمة حسب الأجواء المرافقة لها، ورغم أن الجو الاجتماعي في إيران أكثر انفتاحا مقارنة بالسعودية، فقد كان يتم إلغاء الحفلات رغم أنها لموسيقيين محليين تحت ذرائع مختلفة. مثلا، في مدينة مشهد، اعتبر أحد كبار رجال الدين أحمد علم الهدى "أن مدينة يوجد فيها ضريح الإمام الرضا لا يمكن أن تقام فيها الحفلات الموسيقية فهذا إهانة للإمام"، ولذلك رغم الحصول على كل التراخيص والموافقات المطلوبة كانت قوات الأمن تمنع الحفل.

كما تم منع بعض الحفلات لأسباب أخرى، فقد قال وكيل أعمال المغني علي رضافي إن عناصر أمن اتصلوا به وأبلغوه أنه غير مرحب بإقامة حفل لأغنياته "الفرحة" بسبب فترة حداد ديني في البلاد. كما تمت مهاجمة وزير الثقافة السابق علي جنتي لأنه سمح بإصدار عمل موسيقي تؤدي فيه مغنية مقطع منفرد، إذ منذ عام 1979 تحظر قوانين الجمهورية الإسلامية على النساء الغناء انفراديا حتى لأداء لازمة موسيقية. وتم إلغاء حفلات أخرى في بعض المدن لوجود عازفات نساء ضمن الفرق رغم أنهن محجبات. وفي بعض المدن الإيرانية يمنع على النساء حتى حضور الحفلات الموسيقية باعتبار ذلك اختلاطا يحض الدين على تجنبه؛ وتمرد الشباب الإيرانيون على ذلك من خلال تنظيم موسيقى الشارع التي تعزف فيها فرق موسيقية بالساحات العامة بدون مقابل ولكن أجهزة الأمن الإيرانية أصدرت قرارا عام 2018 بحظرها إذا لم تحصل على إذن مسبق باعتبارها "تتضمن مشاهد وتؤدي إلى سلوكيات خارجة عن الأعراف الاجتماعية".

يعود سبب هجوم المتشددين على الاحتفالات الموسيقية إلى أن بعض رجال الدين حرّموا الموسيقى، مثل ابن تيمية الذي قال إن "المعازف هي خمر النفوس تفعل أعظم من ما تفعله الكؤوس فإذا سكروا بالأصوات حلّ فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش"، أو ما قاله ابن القيم على سماع المعازف: "إن السماع فسق والتلذذ به كفر"، رغم عدم وجود أي إشارة في القرآن إلى ذلك ولكنهم استخدموا الآيتين "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله" (لقمان 6)، "والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما" (الفرقان 72)، وجعلوا المقصود بلهو الحديث هو الغناء. لكن رجال دين آخرين اعتبروا تفسير لهو الحديث يعود على الكلام المنمق الباطل الذي يشكك في آيات الله، أو الجدال في أمور وجزئيات لا فائدة منها.

كما تجاهل المتشددون أن هناك من كبار رجال الدين من رأى تحليل الموسيقى، مثل ابن حزم الذي يعتبر أكبر علماء الإسلام تأليفا وتصنيفا بعد الطبري، حيث قال "إن استماع الموسيقى مباح مثل التنزه في البساتين ولبس الثياب الملونة"، أو ما قاله حجة الإسلام أبو حامد الغزالي "من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج"، وكذلك ما قاله شيخ الإسلام العز بن عبد السلام "إن الغناء بالآلات وبدونها قد يكون سبيلا لصلاح القلوب"، وكثير غيرهم.

الموسيقى هي لغة التعبير العالمية وتحيط بالإنسان من كل الجوانب، من أصوات الأشجار والأنهار والرياح وموج البحر والطيور وتباين الأصوات البشرية، وأغلب الآلات الموسيقية هي محاولة لتقليد هذه الأصوات، ولذلك فإن الموسيقى كانت دوما جزءا من حياة الإنسان وخاصة في منطقة الشرق الأوسط؛ فهناك الموسيقى السومرية بمصاحبة القيثارة وآلات العزف ذات الأوتار الأفقية والعامودية، والموسيقى البابلية التي ازدهرت خصيصا أيام حمورابي، كما استخدم المصريون القدماء الآلات الوترية والنفخية والمصفقات النحاسية والعاجية وشكلوا فرقا كاملة من الموسيقيين لتشارك في الحفلات والأعياد. كما قيل إن أقدم نوتة موسيقية في العالم وجدت في رأس شمرا على الساحل السوري مكتوبة على لوحات مسمارية تعود لحوالي 1400 قبل الميلاد، وفي الجزيرة العربية قبل الإسلام كان هناك آلات موسيقية عديدة منها المعزف والكنبور والمربع والعود الذي كان يصنع من الجلود والمزهر وغيرها، كما كان هناك الحداء أصل الغناء العربي والمقصود به ما يطرب الأذن بحسن نغماته.

واستمرت الموسيقى مع الدعوة الإسلامية، وقال شوقي ضيف في أحد كتبه إن الغناء ظل في المدينة في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، ودعم قوله هذا بحديث للرسول: ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت، وفي عهد بني أمية والنهضة التي شهدتها اهتم الخلفاء بالموسيقى وأهلها فعندما مرض المغني معبد عالجه الوليد بن يزيد في قصره وعندما توفي شيعه بنفسه، وذكر في موسوعة "من عيون الكتب في التاريخ والفنون" وموسوعة "أعلام الموسيقى حياتهم وآثارهم" أن السيدة سكينة بنت الحسين أنشأت صالونا أدبيا خاصا بها حيث كانت تستمع إلى الشعراء وكبار المغنين مثل ابن سريح والغريض ومعبد وهم من الحجاز وحنين الحيري من العراق، وقد قيل إن سعد بن أبي وقاص ومصعب بن الزبير وعائشة بنت طلحة وعبد الله بن جعفر كانوا من رعاة الموسيقيين.

وفي العصر العباسي وصلت الموسيقى إلى عصرها الذهبي وقدم بعض علماء ذلك العصر أبحاثا في الموسيقى مثل الفارابي في "كتاب الموسيقى الكبير"، والكندي في رسالة في المدخل في صناعة الموسيقى، وابن سينا في بحث محاسن الألحان، وفي كتاب الأغاني ليونس الكاتب، وكتاب النغم وكتاب الإيقاع للخليل بن أحمد الفراهيدي، واشتهر من الموسيقيين إبراهيم الموصلي وإسحق الموصلي وابن جامع وإبراهيم بن المهدي، وفي الأندلس أنشأ زرياب حضارة موسيقية متكاملة انتقل بعضها إلى أوروبا، أي أن الموسيقى ازدهرت في هذه المنطقة بدون انقطاع حتى العصور الحالية، وكان للموسيقى في الحجاز مكانة خاصة ومن منابعها الأصلية مكة المكرمة، ولذلك يبدو ما أن قاله المتشددون بعد حفل الدرعية: "من كان يتصور أن يرى يوما هذه المظاهر (الحفلات الموسيقية) في بلاد الحرمين" بعيد عن الواقع والتاريخ حيث أن الموسيقى لم تفارق أبدا بلاد الحرمين.

الموسيقى بآثارها البدنية والعاطفية والعقلية والاجتماعية والجمالية والروحية تساهم في تحسين حالة الإنسان، قال أفلاطون "إن الموسيقى يمكن أن تؤثر على طبيعة الفرد"، واليوم تشترك الموسيقى في مواجهة موجة التشدد التي تحكمت بالحياة الاجتماعية والثقافية في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، ومن المؤكد أن معركة المتشددين مع الموسيقى ستكون خاسرة لأنها تتناقض مع الطبيعة البشرية.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية