راشيل كوري.. دعوني أقاوم وحدي

فلسطين

راشيل كوري.. دعوني أقاوم وحدي


07/01/2018

في العام 2015، قامت قوةٌ من الجيش الإسرائيلي بمهاجمة شبانٍ فلسطينيين وناشطين غربيين حاولوا زرع أشجار زيتونٍ في ذكرى مقتلها.."إنّهم يقومون بهدم وتجريف المنازل كل بضعة أيامٍ هنا"، بهذه الكلمات عبّرت راشيل كوري في مقابلة سُئلت فيها عن سبب وجودها في مدينة رفح الفلسطينية، وبعد أعوام وتحديداً في 16 آذار (مارس) 2003 قضت هذه الشابة الأمريكية قبل أن تجاوز 24 ربيعاً ضحية جرافة عسكرية إسرائيلية وهي تحاول منع هدم بيت مواطن فلسطيني. رغم أنّها كانت ترفع شعار "كن إنساناً"، مرتديةً معطفاً برتقالياً وهي تحمل مكبراً للصوت وتدعو الجنود الإسرائيليين للتوقف عن عملية الهدم وتجريف الأراضي، غير أنّ سائق الجرافة لم يكترث لنداء الشابة الشقراء وقام بدهسها في عملية متعمدة، بحسب ما نقل المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن متضامنين رافقوا راشيل وقتها.

منذ طفولتها، وهي تحلم أنّها موجودة في هذا العالم لأجل الأطفال الآخرين، الذين لا يجب تجاهلهم وهم يعانون الجوع والفقر والعنف. وفي سن الشباب، ذهبت إلى فلسطين؛ لأن راشيل التي كبرت، لم تنسَ ما قالته راشيل الطفلة في حفل تخريجها من الصف الخامس.

لحظة دهس راشيل كوري من قبل الجرافة الإسرائيلية

حين اندلعت الانتفاضة الثانية يوم 28 أيلول (سبتمبر) 2000، عمل الجيش الإسرائيلي على تكريس الإجراءات العقابية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وفي غزة لرفضه الاعتقالات والحواجز العسكرية والتضييق الاقتصادي، وبحلول العام الثالث للانتفاضة، وصلت راشيل إلى فلسطين لتقوم بتحقيق الكلمات التي تفوهت بها منذ سنوات، بوصفها عضوةً في منظمة التضامن العالمي لدعم القضية الفلسطينية "ISM".

رغم أنّ كلمة "تضامن"، تزعج "إسرائيل" أكثر من أي كلمةٍ أخرى، فإنّها وعلى مضض، كانت تتجنب الناشطين الأجانب خلال قمعها لتظاهرات الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة في غزة والضفة؛ حيث غالباً ما كان الناشطون يصطفون في مواجهة قوات الجيش وجرافاته حين تستعد لهدم بيوت الفلسطينيين أو ترويعهم بالضرب والاعتقال الذي لا يفرق بين كبير وصغير  أو نساء وأطفال.

راشيل كوري: الحياة صعبةٌ جداً على الناس في غزة وعلى العالم أن يخجل مما يحدث

ومع أنّ هذه الانتفاضة حصلت على تغطيةٍ واسعة؛ إذ أصبحت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة قادرةً على نقل الحدث الفلسطيني مباشرةً، إلا أنّ القوات الإسرائيلية لم تخجل من عين الكاميرا، ولا من عيون الأطفال الخائفين من الجنود المدججين بالسلاح، تماماً مثلما لم يخجل قاتل راشيل من نظرة الرجاء في عينيها، وهي تدعوه للتوقف عن الهدم والكراهية وترويع الناس.

مثّلت حالات التعاطف مع الشعب الفلسطيني في مطالبه المشروعة حرجاً لقوات الاحتلال أمام العالم، إلا أنّ هذا الكيان الغاصب كان بغطرسته يقابلها بعدم اكتراث؛ فسمح لجنوده التحرش بهؤلاء المتضامنين، ومحاولة تخويفهم، لثنيهم عن نقل حقيقة ما يحدث إلى الرأي العام العالمي، وقد مثلت راشيل حالة إنسانية فريدة بالتضامن بين أبناء الشعوب من أجل حقوقهم المسلوبة، دون النظر في طائفة دينية أو هوية أو مسافةٍ جغرافية.

 

 

"إني أشهد هذا التطهير العِرقي المزمن وخائفة جداً، وأراجع معتقداتي الأساسية عن الطبيعة الإنسانية الخيّرة، هذا يجب أن يتوقف. أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرّس حياتنا لجعل هذا يتوقف"، بهذه الكلمات عبرت راشيل في إحدى رسائلها عن سبب ذهابها إلى فلسطين.

نبرة راشيل الواثقة في مقابلةٍ تلفزيونية مسجلة إلى اليوم على موقع يوتيوب، قالت فيها إنّ القوات الإسرائيلية "تمنع عن رفح الماء، تقمع المتظاهرين، تهدم البيوت، وتهاجم كل من يقف في وجهها"، جعلت منها هدفاً أساسياً؛ لأنها مثّلت صوتاً ينطق باسم الضمير الإنساني من جهات ليست طرفاً في القضية التي يصر فيها الإسرائيليون دوماً على شيطنةِ الفلسطيني، واختلاق كل عذرٍ ممكن لاتهامه بالإرهاب.

دفعت راشيل حياتها ثمناً لعدم التغاضي عما يحدث في فلسطين مثلما يفعل معظم العالم

ولعلّ وجود مؤسساتٍ عالمية "تدير الأزمات"، وأمم متحدة، ودول "فاعلة"، لم يكن لها الأثر تجاه فلسطين، مثلما يمكن أن يفعل إنسان أدرك أن إنسانيته لا تتوضح إلا بالوقوف إلى جانب الآخرين كما تقول راشيل التي وصفت الحياة في رفح بقولها: "الحياة صعبةٌ جداً على الناس هنا، وعلى العالم أن يخجل مما يحدث هنا".

وربما كان يمكن للفتاة الأمريكية، ابنة منطقة أوليمبيا بواشنطن، أن تظل حية إلى اليوم، لو أنها تغاضت عما علمت أنه يحدث في فلسطين، تماماً مثلما يفعل معظم العالم، لكنها لم تختر أن تكون حاجزاً واقياً للفلسطينيين في مظاهراتهم، كما وصفها الإسرائيليون، بل أبعد من ذلك، شكلت درعاً يدافع عن إنسانية العالم، عن محبته وسلامه في وجه جرافات الكراهية؛ كما عبرت في رسالة لوالدتها "ما أشعر به يسمى عدم تصديق ورعب، خيبة أمل، أشعر بالانقباض من التفكير في أن هذه هي الحقيقة الأساسية في عالمنا وأننا جميعنا نساهم عملياً فيما يحدث، لم يكن هذا هو ما أردته عندما جئت إلى هذه الحياة، ليس هذا ما كان ينتظره الناس هنا عندما جاءوا إلى الحياة، وليس هذا هو العالم الذي أردتِ أنت وأبي أن آتي إليه عندما قرّرتما إنجابي".‏

قدمت راشيل مثالاً للتضامن بين أبناء الشعوب دون النظر في طائفة دينية أو هوية أو مسافةٍ جغرافية

راشيل كوري، التي خلدها الفلسطينيون رثاء على جدران بيوتهم المتهدمة، ورسائلها إلى والديها التي نشرت في كتاب حمل اسم "دعوني أقاوم وحدي" لم تنل –كما كان متوقعاً-أي عدالةٍ من القضاء الإسرائيلي الذي اعتبر أن موتها، في حي السلام بمدينة رفح "تم بطريق الخطأ".

نجح الكيان الصهيوني في تهشيم جسد راشيل الغض، لكنه فشل في منعها من كشف وجهه البشع، لتتحول إلى أيقونة أخرى انضمت لأحرار العالم الذين دفعوا حياتهم ثمناً للحقيقة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية