كيف ساهم طهي الطعام في تطور حضارتنا الإنسانية؟

الطعام

كيف ساهم طهي الطعام في تطور حضارتنا الإنسانية؟


30/01/2019

قبل قرابة مليون عام، في غابات إفريقيا، ازدادت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ما أشعل الحرائق في النباتات المحيطة بالقبائل الإفريقية القاطنة هناك، لتسقط قطع من اللحم عن طريق الصدفة، ما كان انفتاحاً لأفق جديد أمام البشر، ليتعرفوا ولأول مرة على النيران التي أفزعتهم في البداية، لتصير لاحقاً جسر عبورهم إلى مستقبل أكثر تطوراً مما يمكن أن تتخيله أدمغتهم.

الطهي كان التكنولوجيا الأولى في حياة البشر

اللغة والمطبخ

بالنظر إلى لغات مختلفة، نجد أنّ الطهي ارتبط لغةً بمعانٍ أعمق من أن تعبر عن الطعام فحسب، ففي اللغة اليابانية، على سبيل المثال، يعرف المطبخ باسم "كامادو"، والتي تعني موقد الطبخ، وتطلق أيضاً على العائلة وعلى البيت، أمّا الطلاق في اليابانية "ريكون"، فيعني انهيار الموقد، في إشارة واضحة للمكانة التي يحتلها "المطبخ" لدى الشعب الياباني.

في اللغة اليابانية يعرف المطبخ باسم كامادو والتي تعني موقد الطبخ وتطلق أيضاً على العائلة وعلى البيت

وعن الدور التاريخي الذي لعبته تكنولوجيا الطهو في اللغات المنطوقة، يمكن التوقف عند تحليل أستاذ الأنثربولوجيا الطبيعية في جامعة هارفارد  ريتشارد وانغهام "Richard Wrangham"، وقدمه في كتابه "موقد النار: كيف جعلنا الطهي بشراً"، موضحاً أنّ عملية اكتشاف النار لم تثبت بالأدلة العلمية إلّا قبل مليون و800 ألف عام، وهناك ترجيحات لاكتشافها قبل ذلك، ولم تثبت بعد، لكن هناك العديد من الآثار التي قدّمها الباحث ترتبت على اكتشاف الطهي؛ حيث كانت التكنولوجيا الأولى في حياة البشر، والتي ارتبطت باكتشاف النار.
يعالج وانغهام مسألة الطبخ، والتي تبدو للعديد من المجتمعات المعاصرة أمراً بديهياً، فلم يكن الأمر بالنسبة للبشر الأوائل، وفق وانغهام، مجرد طعام أكثر لذة، أو سعرات حرارية مرتفعة ساعدتهم على تطوير أدمغتهم، وبالتالي انتقلوا لمرحلة الإنسان المنتصب، ولكن أعاد الطبخ تشكيل العلاقات الاجتماعية، وتكوين الروابط بين الرجل والمرأة، وتشكيل الأسرة، ثم القبيلة، ثم الثقافة، وهي الخاصية التي تميز الإنسان العاقل عن بقية الكائنات.

ريتشارد وانغهام "Richard Wrangham"
وهذا ما حاول سلفاً استخدامه، الأب الروحي للأنثربولوجيا البنيوية، كلود ليفي شتراوس، في كتابه "النيء والمطبوخ"، كتوضيح للتضادات الفلسفية بين المعاني وما يمكن أن تمثله من ترسيخ معارفية وثقافية لدى المجتمعات الإنسانية على تبايناتها.
ويعزز وانغهام فرضية "داروين" بخصوص التطور، فقد رأى داروين أنّ "اللغة والنار" هما ما خلقتا الإنسان الواعي الذي نعرفه اليوم، أما وانغهام فيحاول جعلها أكثر خصوصية بمناقشة الطهي كفرضية تطورية، خلقت دماغين بشريين وليس واحداً.

دماغ واحد لا يكفي
لم يعزز اكتشاف تكنولوجيا الطهي حجم الدماغ البشري فحسب؛ بل خلق ما يشبه دماغاً ثانياً للإنسان، في الجهاز الهضمي، بحسب دارسة نشرها موقع "Neuroanthropology"، حول التغير الذي شهده الجهاز الهمضي للإنسان بعد صغر حجمه، عن "أقربائه من الغوريلات"، على الرغم من أنّها لا تأكل اللحوم، إلّا أنّ طهو الطعام، وفق الدراسة، منح فرصة للجهاز الهضمي لتصغير حجمه، حيث تقل الطاقة المستخدمه لهضم الطعام المطهو، عن المستهلكة في هضم الطعام النيء، وتلك هي الركيزة الأساسية في علم الأعصاب المعوي، وتعتمد هذه الدراسات بشكل أساسي على عملية تطور الأسنان في البشر عن الحيوانات، والتي تحتوي على أنياب طويلة بالرغم من أنّها آكلة للنباتات.

 كتاب "موقد النار: كيف جعلنا الطهي بشراً"
ولكن الملاحظة الفارقة لوانغهام كانت حول الاختلاف الشديد الذي شهده حجم الدماغ بالتزامن مع تغير طول القناة الهضمية، ويستنتج منه، حدوث تغير كلي في النمط الغذائي المعهود، وهو توفير فائض من السعرات الحرارية داخل الجسم لم يعهده الإنسان من قبل، استغله الدماغ لتكبير حجمه، والقيام بوظائف إدراكية أكثر تعقيداً من ذي قبل، كما استغلته المعدة في توفير مزيد من الدم للدماغ الذي تتصل به بشكل مباشر.

اقرأ أيضاً: القتال على الطعام في اليمن
"أكثر بكثير من تسخير النار، ما سمح لنا حقيقة أن نصبح بشراً هو استخدام النار في الطهي"، بتلك المقولة لخصت الباحثة في علم الأعصاب بجامعة ريو دي جانيرو البرازيلية، سوزانا هوزل، بحثها المنشور في مجلة "the National Academy of Sciences"، حول دور الطهي في تطوير إنسان الـ"هومو ايريكتس"، منتقلين إلى عصر الـ"هومو سيبيانس"، موضحة أن الدور الذي لعبه الطهي في تسخير الألياف الصلبة، منح فرصة للجهاز الهضمي في حفظ الطاقة التي يستهلكها للدماغ، ما جعل حجم أدمغتنا يزداد باضطراد غير مسبوق، مقارنة بأجسادنا.

فالقردة العليا، على سبيل المثال، لا تقوى على حمل دماغ بشري؛ حيث إن طعامها الذي يستغرق من يومها قرابة عشر ساعات، لا يقدم سوى 30% من الطاقة التي يحتاجها الدماغ البشري، لذلك فإن نمو الدماغ والجهاز الهضمي مرتبط بكمية السعرات الحرارية التي يستهلكها البشر، وهي ضئيلة جداً في الطعام النيء مقارنة بالمطبوخ.

الطهي ومؤسسة الزواج

بالتوازي مع التطور الذي شهدته أجهزة الإنسان الحيوية، تغيّرت العلاقات الاجتماعية بين البشر، مؤسسة روابط جديدة، ترتكز عليها المجتمعات الحديثة حالياً، وتعتبر ركيزة أساسية في ثقافات لا تزال تشكل إرثاً في الوعي الجمعي للبشر.

بفضل اكتشاف الطهي ظهرت مؤسسة الزواج والتي قررتها المرأة لتجد من يحميها من سطوة الذكور وتكالبهم على الطعام

فبفضل اكتشاف الطهي ظهرت مؤسسة الزواج، والتي قررتها المرأة لتجد من يحميها من سطوة الذكور وتكالبهم على الطعام؛ حيث وجد الإنسان المأمن من الحيوانات المفترسة بفضل النيران، التي أتاحت له أيضاً الطهي فيها بعد جمع غنيمة صيده، فنشأ الزواج بين الرجل والمرأة من باب تبادل المنفعة؛ فالمرأة ستجد من يجلب طعاماً لها ولأطفالها، مقابل أن يستثمر الرجل وقته في الحصول على اللحم والثمار، وهو ما تطور بعد نشأة المجتمع الزراعي لعلاقة الزواج من أجل الحفاظ على ملكية الأرض، وحفظ الأنساب حيث سينسب الأطفال فيما بعد إلى الأب بدل الأم، ولكن مهنة الطبخ التي امتهنتها النساء، لا تزال تلتصق بهن إلى يومنا الحالي، كجزء أصيل من مهام مؤسسة الزواج في معظم المجتمعات المعاصرة، حتى بعد أن أصبح الحصول على الطعام أمراً متوفراً، ولا يحتاج إلى عضلات الرجال كما كان سابقاً.

اقرأ أيضاً: هذه المجتمعات تزداد فيها الحساسية من الطعام... لماذا؟
لم تتغير العلاقات بين الرجل والمرأة فحسب؛ بل تحولت العلاقات الإنسانية من الصراع على الموارد، إلى تكوين جماعات وعائلات، تتشارك فيما بينها عملية تقسيم العمل من أجل الحفاظ على مواردها، فمهمة الرجال كانت حماية الطعام حيث توقد نيرانه، بينما تقوم المرأة بطهي ما يجمعه الرجال.

بحسب كتاب تاريخ الزواج، تشرح الباحثة الأمريكية في أصول العائلات، ستيفاني كونتز، كيف تطورت مؤسسة الزواج والعائلة والأوضاع الاجتماعية للبشر، طبقاً للحاجة الاقتصادية والمتغيرات البيئية، ففي المجتمعات البدائية، قام الزواج كنوع من أنواع الحاجة الملحة، وتتغير تلك العلاقة بتبدل المنافع، فكل فرد يمكن أن ينتقل لينشئ أسرة جديدة، طبقاً لاحتياجه في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ البشر، بينما هناك مجتمعات أخرى، وهي أقلية، كان الطبخ فيها حكراً على الرجال، مثل بعض قبائل التبت، والهند الاستوائية، والتي تقوم المرأة فيها بالعمل، وتجمع بين أكثر من زوج نظراً لضآلة الموارد المتاحة، ليجتمع عدد كبير من الرجال على امرأة واحدة، وهو عُرف لايزال سائداً في بعض القبائل الهندية، رصدتها الطبيبة والكاتبة المصرية نوال السعداوي في كتابها "رحلاتي حول العالم"، في زيارتها لبعض القبائل الهندية في سبعينيات القرن المنصرم، لتتعرف على البنية الاجتماعية لهم.

الطهي والكثافة السكانية

كان الإنجاب ولا يزال أحد الغرائز الأساسية لدى البشر، ولكن قبل أن يكتشف الإنسان طهي الطعام، كانت عملية الطمث لدى النساء تسير بعشوائية وبلا انتظام نتيجة قلة السعرات الحرارية التي تحصل عليها المرأة، والتي تحتاج المزيد منها لإنتاج البويضات شهرياً، وكذلك الرجل لتنشيط الجهاز التناسلي لديه.

اقرأ أيضاً: المنسف سيد الطعام الشعبي والضيافة في الأردن
وهذا ما توصلت إليه دراسة ألمانية أجراها معهد العلوم الطبيعية بجامعة جايسن، مع بداية الألفية، لتحديد العلاقة بين الخصوبة والنمط الغذائي، ونشرت نتائجها على الموقع الرسمي للجامعة، أوضحت أنّ نظام التغذية القائم على الأطعمة النيئة، أوقف الدورة الشهرية لدى أكثر من نصف نساء التجربة، كما أصاب قرابة 70% من الذكور بالتوقف عن النشاط الجنسي، وذلك نتيجة لقلة السعرات الحرارية التي يحصل عليها الجسم، وتوقف عملية التمثيل الغذائي في صورته المعهودة.

ظل الطهي لعصور سحيقة، الصانع الأعظم لأنظمتنا الحيوية المتطورة

وتشير دراسة أخرى أجراها عالم الوراثة الأمريكي، أنتوني ليتل، إلى أنّ توفر السعرات الحرارية للنساء، منحهن القدرة على الاحتفاظ بالدهون، التي شكلت ركيزة أساسية في الحفاظ على خصوبتهن وكذلك تغذية الصغار، كما منح الرجال قدرة أكبر على تكوين عضلات أكثر صلابة تعينهم على بناء الحضارة.
ظل الطهي لعصور سحيقة، الصانع الأعظم لأنظمتنا الحيوية المتطورة، ولأدمغتنا المميزة عن بقية الكائنات، وعلاقاتنا الاجتماعية والإنسانية التي ننسج حولها خيوطاً من الخصوصية، وظل أيضاً لقرون سابقة، في عدة حضارات، سر التعاون بين البشر، قبل أن تغزونا الحداثة بالمطابخ الخاصة.
لم يكن هذا المفهوم متواجداً، فكانت هناك مطابخ عامة يذهب إليها الناس، ويتشاركون طهي طعامهم، ثم يعودون إلى منازلهم ليأكلوه، ولم يكن يعرف موقد الطعام الخاص، بل صنع الطعام بالأحطاب في احتفالية جماعية شبه يومية، بهذا الحدث الذي يشكل حياة الناس، قبل أن تُسجل أول براءة اختراع في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1825 بأول موقد طهي من الغاز، وحتى منتصف القرن العشرين وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليتحول الطبخ أيضاً إلى عملية فردية تقوم بها النساء، في الغالب، في المنازل.

الصفحة الرئيسية