السودانيون يتظاهرون.. والبشير يبحث عن كفيل

السودان

السودانيون يتظاهرون.. والبشير يبحث عن كفيل


08/01/2018

منذ أن وصلت حكومة الإنقاذ إلى السلطة في السودان العام 1989، عجزت عن تقديم أي برنامج اقتصادي أو إصلاحي حقيقي، بل اعتمدت على استغلال كل الفرص المتاحة لتكريس موارد الدولة لصالحها؛ إذ قامت ببيع معظم المؤسسات العامة لأتباعها بثمن بخس، بحجة "التمكين"، وهي نفس الكلمة، التي يتشدق بها الإخوان في كل مكان حلّوا فيه، وهذا ما أدى مؤخراً إلى احتجاجات واسعة في محافظات سودانية.

رقعة الاحتجاجات الشعبية في السودان اتسعت وزادت حدتها خلال هذا الأسبوع، رداً على زيادة أسعار الخبز، فتظاهر المئات من طلبة جامعة الخرطرم قبل أن تتصدى لهم قوات الشرطة وتفرقهم، كما خرج المواطنون محتجين خلال الأيام الماضية في عدة مدن من بينها مدني وسنار في وسط البلاد.

عجز نظام  البشير منذ وصوله السلطة في السودان عن تقديم أي برنامج اقتصادي أو إصلاحي حقيقي

السلطات علقت الدراسة في مدارس التعليم الأساسي والثانوي اعتباراً من يوم الاثنين الماضي ولمدة أسبوع، فيما حذر وزير الدولة للشؤون الداخلية، في وقت سابق أن السلطات ستتعامل بحزم مع أي أعمال "تخريبية وإثارة للفوضى" على حد تعبيره.

وقال حزب المؤتمر السوداني المعارض إن الأجهزة الأمنية السودانية اعتقلت عدداً من قيادات الحزب، وإن الاعتقالات جاءت بعد الدعوة التي أطلقها الحزب لمناصريه بالخروج في مسيرات احتجاجية ضد الغلاء.

الرئيس السوداني عمر حسن البشير الذي أصرّ على موقفه الذي أعلنه منتصف العام الماضي بأن دولته لن تتخلى عمن أسماهم بـ"المستضعفين"، أي إيواء وحماية جماعة الإخوان، التي ينتمي لها الرجل عقدياً وتاريخياً، لم يأبه بمستضعفي بلده في ظل تجذر الفساد الرسمي بالجملة، الذي بلغ حد أن مدير شركة حكومية قبل سنوات أسس شركات خاصة باسم أقربائه ومنحها عقوداً بأكثر من ثلاثمئة مليون دولار، وتلك الشركات قاضت شركة حكومية وألزمتها بدفع عشرات الملايين من الدولارات زعمت أنها مستحقة لها، ولم تكتف بذلك، بل وجندت لذلك مؤسسات عدلية، بل وأحد قضاة المحكمة الدستورية ووزير عدل سابق، من أجل مهزلة تحكيم حصلت بموجبها على الملايين، مما دعا إلى تدخل البرلمان وتسريب الفضيحة.

السودان والكفيل التركي القطري

المظاهرات جاءت كختام لمناورات سياسية إقليمية قام بها البشير، الذي لم يستطع أن يحيا طوال الوقت إلا بكفيل يكفله، وانقلب مؤخراً على كل تحالفاته، ووجد كفيلاً تركياً قطرياً، متناسياً أنه بهذا خلق ملفات شائكة في علاقاته العربية، كما علاقاته بشعبه الجائع الفقير، الذي يضج من الفساد المستحكم في الدولة.

وكشفت وسائل الإعلام عن اتفاق بين الخرطوم والدوحة لإنشاء ما وصفته بأكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر، وذلك في زخم تنامي التعاون بين البلدين، خصوصاً وأن قطر سعت أيضاً بالقفز على حصارها من الدول الأربع، ووجدت رئة تتنفس منها، وهي السودان، في توازن بالغ التعقيد، لذا فقد عملت على تطوير موانئ معاكسة على الجهة الأخرى من البحر الأحمر، لتوسيع نفوذها.

البشير الذي أصرّ على عدم التخلي عن "مستضعفي" الإخوان لم يأبه بمستضعفي بلده في ظل فساد رسمي بالجملة

الحضور القطري في السودان لا يقتصر على الموانئ وإنما يشمل أيضاً المصارف والعقار والزراعة،  بل وهناك أيضاً الجانب الثقافي، وهو ما أشار إليه السيد ضاحي خلفان على صفحته بتويتر بقوله إن السبب للاتفاق السوداني ـ التركي القطري هو "لحماية تمرد إخواني يخطط له بحيث تبقى هذه القواعد جناحي حماية للتنظيم".

"سواكن" خنجر في ظهر مصر والسعودية

مثّل منح السودان جزيرة سواكن الاستراتيجية لتركيا في كانون الأول (ديسمبر) 2017 طعنة أخرى في ظهر جيرانها العرب، ليمثل شوطاً آخر على طريق تذبذب حكومة البشير في تموضعها الإقليمي، الذي شهد منذ العام 2014 تبدلات جذرية نقلت البلد الأفريقي من ضفة إلى أخرى مغايرة تماماً.

لقد اتجه النظام السوداني الحالي إلى القطع، نهائياً، مع المحور السعودي ــ الإماراتي – المصري، ورغم نفي وزير الخارجية السوداني خلال زيارة أردوغان نية بلاده الدخول في حلف إقليمي جديد، قائلاً إن "السودان لم ولن يكون يوماً جزءاً من أي محور، ونحن منفتحون على كل دول العالم لتبادل المصالح، وتركيا دولة شقيقة ولنا معها تاريخ طويل"، إلا أن حجم الاتفاقات التي تم توقيعها مع أنقرة، والتي بلغ عددها 22 وبرز من بينها الاتفاق على تشكيل "مجلس للتعاون الاستراتيجي"، وتتويج زيارة أردوغان بمباحثات ثلاثية جمعت، رئيس أركان الجيش التركي، خلوصي أكار، ونظيره السوداني عماد الدين مصطفى عدوي، ونظيره القطري غانم بن شاهين الغانم، حملت كلها أكثر من رسالة على هذا الصعيد، خاصة اجتماع رؤساء الأركان الثلاثة، الذي كان إشارة ضمنية إلى مصر، وأيضاً إلى الخليج، وهو ما أوضحه مستشار الشيخ محمد بن زايد، الدكتور عبدالخالق عبدالله بتساؤله: "هل الهدف من هذا التحرك العسكري التركي محاصرة السعودية بقوات عثمانية من الشرق والغرب؟".

كشفت وسائل الإعلام عن اتفاق بين السودان والدوحة لإنشاء ما وصفته بأكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر

وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، خلال مؤتمر صحفي بالخرطوم يوم 26‏/12‏/2017 قال: "إننا وقّعنا اتفاقية يمكن أن ينجم عنها أي نوع من أنواع التعاون العسكري"، مشيراً إلى أن وزارة الدفاع السودانية منفتحة على التعاون العسكري مع أي جهة... ومستعدة للتعاون العسكري مع تركيا!.

وهذا يشير بوضوح في الإطار العام أن جزيرة سواكن التي تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر الذي يحدّ السعودية من الغرب، إضافة إلى قاعدة الريان التركية في قطر، سيشكلان في حدهما الأدنى، "عامل إزعاج وإقلاق" للسعودية.

مصر من جهتها اعتبرت أن ما يفعله السودان هو بمثابة حشد عسكري مضاد لها، فوجود تركيا في جزيرة سواكن، إلى جانب وجودها في الصومال، يؤكد سعيها الى إحكام قبضتها على كامل الموانئ الواقعة في البحر الأحمر والقرن الأفريقي وشرق أفريقيا عموماً.

حلايب حاضرة

السودان استدعت سفيرها بالقاهرة للتشاور، مدعية أن ذلك بسبب أزمة حلايب، وفي المقابل حشدت جيشها على طول الحدود مع أرتريا، مدعية أن مصر تواجدت هناك بجيشها، ووصول تعزيزات عسكرية من مصر، تشمل أسلحة حديثة وآليات نقل عسكرية وسيارات دفع رباعي إلى قاعدة "ساوا" العسكرية في إريتريا.

وذكرت وزارة الخارجية السودانية في بيان مقتضب الخميس الماضي، أنها قررت "استدعاء سفير السودان لدى القاهرة عبد المحمود عبد الحليم إلى الخرطوم بغرض التشاور".

الحضور القطري في السودان لا يقتصر على الموانئ وإنما يشمل أيضاً المصارف والعقار والزراعة

مصر رفضت سحب سفيرها في خطوة مماثلة، مهاجمة إيواء السودان للإخوان، وقالت إن البشير يريد أن يدخل أردوغان فى القضايا العالقة بين القاهرة والخرطوم.

البشير تعود على المناورة بالملفات الإقليمية، طمعاً في الكفالة وإنقاذه من الحال الاقتصادي المتردي، رغم أنه وحكومة الإنقاذ ادعوا أنهم سيطبقون "نظرية اقتصادية إسلامية"، بمجرد وصولهم للحكم العام 1989. ورغم أنه ناور بجزيرة سواكن، طمعاً في أموال الأتراك، فإنه لم  يلتفت لما يجري في إقليمي كردفان ودارفور الباحثين عن الحكم الذاتي.

انقلب البشير على كل تحالفاته لصالح كفيل تركي قطري على حساب خلق ملفات شائكة في علاقاته العربية

في ظل التنافس الجيواستراتيجى الجاري، فإنه لا مناص من التكاتف العربي في وجه الأطماع الفارسية والعثمانية الجديدة، وهذا ما عبر عنه في 27 كانون الأول (ديسمبر) 2017 وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش عندما قال إن "العالم العربي لن يسمح بقيادته من قبل طهران أو أنقرة، إن النظام العربي في مأزق، وإن الحل يكون في التكاتف والتعاون أمام الأطماع الإقليمية المحيطة".

ربما لم ترقَ مظاهرات الشعب السوداني الحالية إلى مستوى ثورة شعبية، لكنها بلا شك تمثل مقدمة لما هو أبعد من مجرد احتجاجات معزولة، في ظل الفساد المتفشي وأدوات القمع التي ينتهجها النظام الإخواني التي لن تجدي معها أي مقامرات سياسية تعول على الخارج.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية