صراع "البيعات" بين "داعش" و"القاعدة".. اللعب بالميثاق الغليظ

الإرهاب

صراع "البيعات" بين "داعش" و"القاعدة".. اللعب بالميثاق الغليظ


10/01/2018

استلبت الجماعات الإسلاموية الراديكالية مبدأ "البيعة" للحاكم في الشريعة، ليكون أساس العقد بينها وبين أميرها، فتسمع له وتطيعه في اليسر والعسر، بعد اعتبار أن الدول المدنية القائمة، ورأس السلطة التنفيذية فيها، وآلية اختياره، لا تنطبق عليهم شروط ومواصفات الدولة المسلمة، وهو يترتب عليه مبدأ "شغور منصب الإمام".

ومع أنّ هذا العقد بصيغته المغلظة، حسب مفهوم تلك التنظيمات، يأخذ صفة الرباط المقدس، والميثاق الغليظ، إلا أنّها تتلاعب به في خضم الصراعات الطاحنة التي تدور رحاها بين زعمائها على السلطة والقيادة، فلا تعجز عن تخريج أحكام تبرر نقضه، في مواجهة التنظيرات التي تحاول إثباته، وفق دوران المصلحة إيجاباً وسلباً.

من يغدر بمن؟

حتى شهر آب (أغسطس) من العام 2004، لم تكن لزعيم تنظيم "التوحيد والجهاد" في العراق، "أبو مصعب الزرقاوي"، بيعة في عنقه لزعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، إلا بعدما أعلن عن انضمام تنظيمه للقاعدة الأم من العام نفسه، ليتحول مسمى تنظيمه إلى "القاعدة في بلاد الرافدين".

وفي نهاية العام 2006، وبعد أن لقي "الزرقاوي" حتفه، على إثر غارة للطائرات الأمريكية استهدفته، أعلن قائد التنظيم وقتذاك، أبو أيوب المصري، عن تحول التنظيم إلى ما أسماه "دولة الإسلام في العراق"، وليخرج "الظواهري" ليبارك هذا الإعلان وليثني على الأمير الجديد لتلك الدولة المزعومة، أبي عمر البغدادي ووزير حربه "المصري".

وفي ليلة من ليالي العام 2011، توجه قائد ملثم قاصداً الأراضي السورية، ومعه ثلة من المقاتلين، وصناديق تحوي في باطنها ملايين الأموال.

القائد هذا هو أبو محمد الجولاني، أحد القادة الميدانيين لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وقتذاك، سميت داعش فيما بعد، وكان مبعوثاً لــ "البغدادي" ليكون مسؤولاً عن تشكيل فرع له، على الأراضي السورية، بمسمّى جديد "جبهة النصرة"، وسرعان ما بدأت أفواج المقاتلين تهبّ على الجبهة، فلم تمض سوى أشهر قليلة حتى استطاعت أن تسلب الأرض من تحت أقدام "النظام".

في عام 2011 توجه قائد ملثم للأراضي السورية ومعه ثلة من المقاتلين وصناديق تحوي ملايين الأموال

بدأت ملامح الرغبة في الانفصال تبدو واضحة من تصرفات "الجولاني"، ما جعل رجالات "البغدادي" من الملتفين حوله، وأبرزهم، حجي بكر، وأبو محمد العدناني، يرسلون التقارير التي تحذر أمير التنظيم العراقي، من تمرد وشيك يعد له أمير "النصرة"، مما دفع "البغدادي" لإصدار خطاب صوتي يعلن فيه تبعية الجبهة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، مما يعطيه مبرراً لحله وإعلان كيان جديد يحمل مسمى "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام".

رد "الجولاني" بتسجيل صوتي اعترف فيه بما قاله "البغدادي" من أنه كان جندياً من جنود تنظيمه في العراق، وأنّه أردفه بشطر مال التنظيم، وببعض رجاله، إلا أنه باغته بسحب بيعته لصالح بيعة أيمن الظواهري مباشرة، محتجاً بأنه بذلك يكون قد ارتقى للأعلى رافضاً قرار "البغدادي" بالاندماج.

دخل "الظواهري" على خط الصراع ليعلن بدوره في تسجيل صوتي قبوله لبيعة "الجولاني"، وإصدار أمر بانسحاب تنظيم الدولة من الشام، وبقاء "النصرة".

رد "الجولاني" بتسجيل صوتي اعترف فيه بما قاله "البغدادي" من أنه كان جندياً من جنود تنظيمه في العراق

ثارت ثائرة تنظيم "البغدادي" ليخرج أبو محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم التنظيم وقتذاك، برسالة صوتية بعنوان "عذراً أمير القاعدة، ليعلن رفضه لأوامر زعيم القاعدة، وليؤكد أن تنظيمه ليس تابعاً لتنظيم القاعدة وقت أن تمّ حلها في العراق لصالح إعلان دولة مشيراً إلى أنّ البيعة التي كانت في عنق تنظيمه للظواهري لم يعد لها أثرا.

لم يكتف "العدناني" بذلك؛ بل ذهب لوصف غريمه "الجولاني" بــ "الخائن الغادر الناكث"، وأنه استطاع أن يلعب بالظواهري لعب الصغير بالكرة، فيما ادعى أن بيعتهم لزعيم القاعدة كانت بيعة احترام وتقدير، ولم تكن بيعة على الإمارة أو الولاية العامة، وأنّه لو كان بإمكان الظواهري أن يلج بقدميه مناطق سيطرتهم ما وسعه إلا أن يبايع "الخليفة القرشي" في إشارة إلى أبي بكر البغدادي، زعيم "داعش"، كما أنّه في استدلاله على عدم وجود تلك البيعة، استند إلى حجة يراها منطقية وشرعية، وهي أنّه لا يجوز لدولة أن تبايع تنظيماً.

الزعامة أم العهد؟

تطاحن الفصيلان حتى جاء منتصف العام 2016، لتعلن جبهة النصرة، فك ارتباطها بالقاعدة، ولتغير مسماها إلى "فتح الشام"، ثم لتندمج بعد ذلك مع عدة فصائل تقترب معها في الأيديولوجية، لتشكل ما أطلق عليه "هيئة تحرير الشام"، ليخرج "الظواهري" بعدها في تسجيل صوتي بعنوان: "سنقاتلكم حتى لا تكون فتنة بإذن الله" ليكشف عن انزعاجه من حل بيعة "الجولاني" له فيقول: تصبح السياسة الشرعية، عند البعض، سيالًا لا ينضبط، كانت بيعة احترام وتقدير، وأطعناهم في الخارج وعصيناهم في الداخل، وآخر يقول بيعة اضطرار، وثالث يبرر بيعة مكانية، ورابع يفتي بثوابت ومتغيرات، أما نحن فنرى أن البيعة عقد شرعي ملزم، يحرم نكثه، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).

ويبرر المبررون: "نريد أن نتجنب القصف، نريد أن نتجنب التصنيف، الممولون يشترطون علينا أن نبتعد عن من تكرههم أمريكا، لا نريد قطع الإمداد عن المهاجرين..".

دارت الأيام ونكث "الجولاني" ببيعة "الظواهري"، كما نكث ببيعة "البغدادي" من قبل ليجد زعيم القاعدة نفسه، وقد شرب من نفس الكأس الذي سقي منه زعيم "داعش"، إلا أنه كان قد بارك لـــ "الجولاني" فعلتها الأولى، ولم يقبل منه فعلته الثانية عندما جاءت في غير صالحه.

ويعود "الظواهري"، في تسجيله المعنون بــ "فلنقاتلهم بنياناً مرصوصاً" ليصف  "فك ارتباك" الجولاني بالقاعدة بــ "نكث البيعة" فيقول : "وأخبرنا إخواننا بالإضافة إلى أنه نكث للعهد، إلا أنه لم يحقق ما يطلبون من وحده، لأنه في حقيقته تراجع أمام الضغط الأمريكي، ولن يوقف القصف، ولا التصنيف بالإرهاب، ولا غير ذلك من الحجج الواهية التي طرحوها".

المبررون: نريد تجنب القصف والتصنيف، الممولون يشترطون علينا أن نبتعد عمّن تكرههم أمريكا، لا نريد قطع الإمداد عن المهاجرين

شنّ "الجولاني" حملة اعتقالات شملت كل من تمسك ببيعته للظواهري، وعلى رأسهم شيخه، سامي العريدي، مما دعا الظواهري ليقول في تسجيله السابق: "وزاد الطين بلة، سياسة التعمية على الأتباع، بأن كل ما يجري بموافقة قيادة القاعدة، وإن من ظل متمسكاً ببيعته للقاعدة سيعتقل، إن تحرك باسم القاعدة، ثم بدأت سياسة التضييق على الإخوة المتمسكين بالبيعة، ووصل لحد القتال، واعتقال النساء، والتحقيق مع الأطفال".

يتمسك الظواهري ببيعته ويقول "نحن لا نقيل ولا نستقيل"، ويضيف في موضع آخر "إننا لم نحل أحداً من بيعتنا فقد طردنا إبراهيم البدري ومن معه من الجماعة، ولكننا لا نحل أحداً من بيعتنا لا جبهة النصرة ولا غيرها، والبيعة بيننا وبين كل من بايعنا عقد ملزم يحرم نكثه، ويجب الوفاء به".

يعود الظواهري ليشير إلى غدر الجولاني ببيعته بحديث شريف "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل هذه غدرة فلان بن فلان".

يستذكر الظواهري ما فعله الجولاني وجوقته، عندما رفضوا تملص البغدادي من بيعة القاعدة، فيقول: "ثم ألم تكونوا تشيعون على البدري وزمرته بأنهم لا شرعية لهم، لأنهم نكثوا بيعة القاعدة، فلماذا تحلون لأنفسكم ما تحرمونه على غيركم (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم..)".

أبو محمد الجولاني

المسردب والضرير والأسير!

تطاحن الطرفان بفتاوى وتنظيرات تحاول دحض وجهة نظر الآخر، لكن اللافت في هذ السياق هي رسالة أسامة قاسم "أبو الحارث المصري"، وهو أحد قيادات تنظيم الجهاد المصري، ورفيق الظواهري في السجون المصرية، والتي وصف فيها الأخير بــــ "الأمير المسردب".

حاول "قاسم" في رسالته، إسقاط ولاية رفيقه القديم "الظواهري"، بحجة أنه من: "المحصورين في سرب من الأرض وراء البحار والقفار في أقصى الدنيا" ومع ذلك فهو "يوجب فيها على مجاهدين بشام الرباط الوفاء ببيعته".

شبه "قاسم" غيبة "الظواهري"، بغيبة "المهدي" عند الشيعة، وذهب لنسف شرعيته، طالما كان غائباً مرتكزاً على عدد من الأحكام والمقولات، الواردة في كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي.

أطلق سراح "الظواهري"، من السجن بعد المحاكمة في قضية اغتيال السادات، العام 1984

لم تكن مثل تلك الخلافات جديدة على التنظيمات المتطرفة، ففي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، زجّ بالمئات من قادة الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد في مصر في السجون، على إثر اغتيالها للرئيس المصري الراحل أنور السادات.

إذ اشتعلت الخلافات بينهم عندما هموا لاختيار أمير لهم في السجون، فتمسكت طائفة منهم، على رأسها كرم زهدي، بالشيخ عمر عبد الرحمن أميراً، بينما حاولت مجموعات أخرى على رأسها عصام القمري، بعبود الزمر أميراً.

وعندما احتد الخلاف أخرج كلا الفريقين حجته من كتب التراث ليلقيها في وجه الفريق المقابل، فكانت حجة "القمري"، ملتقطة من كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي هي "لا ولاية للضرير"،  في إشارة للشيخ  عمر عبدالرحمن، مرتكزاً على المقولة الآتية: "إن الأمام لو طرأ عليه العمى انعزل ولا تنعقد الإمامة له ابتداءً".

وبدأ الانشطار الاعتيادي فذهبت مجموعات الوجه القبلي لاختيار "عبدالرحمن" أميراً لها، واستخلصت مسمى "الجماعة الإسلامية" ونصبت مجموعات الوجه البحري "عبود" أميراً لها واختارت مسمى "الجهاد الإسلامي".  

أطلق سراح "الظواهري"، من السجن بعد المحاكمة في قضية اغتيال السادات، العام 1984،  وبقى عبود الزمر وصديقه أسامة قاسم يقضيان العقوبة وراء القضبان، وسيطر أيمن الظواهري على جماعة الجهاد، حيث طار للسعودية ومنها لأفغانستان، وبدأ عدداً من عملياته البائسة في مصر، إلا أنّ عبود الزمر، اعترض على منهجه في القيادة، فاحتدم الخلاف بينهما حتى أعلن الظواهري ومعه سيد إمام أنه "لا ولاية لأسير"، وانفصلا بالجماعة بعيداً عن  الزمر، مستندين للماوردي في الأحكام السلطانية إذ ذكر: إنه لو أسر الأمام ولم يرج فكه سواء من معسكر أهل الكفر أو بغاة المسلمين انتقضت إمامته... هكذا تدور الدوائر.

نجح الظواهري بهذا الإعلان في مواجهة عبود الزمر وتركه ومجموعته في السجن بلا جماعة حتى اضطر عبود الزمر وطارق الزمر للالتحاق بالجماعة الإسلامية، وظل أبو الحارث المصري في سجنه بلا جماعة، حتى خرج واليوم يسقى أبو الحارث المصري أسامة قاسم أيمن الظواهري من نفس كأسه الذي سقاهم منه بإعلانه "أنه الأمير المسردب".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية