كاتيا جرجورة: الشعور بالمنفى ثروة وعائق في آن

كاتيا جرجورة: الشعور بالمنفى ثروة وعائق في آن


كاتب ومترجم جزائري
11/02/2019

ترجمة: مدني قصري


أخرجت كاتيا جرجورة، وهي خريجة في مجال الصحافة والعلوم السياسية، عدّة أفلام وثائقية في الشرق الأوسط: "نداء كربلاء"، و"وداعاً مبارك"، و"لبنان"، "من كسر إلى كسر"، لقناة "ARTE" الفرنسية الألمانية، كما أخرجت فيلمين قصيرين بعنوان "في الدم" (جائزة فرنسا 2 في مهرجان بريست في 2009)، إضافة إلى  (Seul le Silence) "الصمت وحده"، الذي يحكي قصة منفى لاجئة سورية في فرنسا.

اقرأ أيضاً: غاسبا نوي مخرج فيلم Climax: الجمهور لا يشغلني
كما تقوم المخرجة اللبنانية الكندية جرجورة، وهي عضو في لجنة القراءة في مشروع "CNC" للأفلام القصيرة، بدور مستشارة للسيناريوهات، للمؤلفين الناشئين، ونظمت وأصدرت ورش عمل تدريبية وثائقية للمخرجين الشباب من العالم العربي، بما في ذلك بغداد في العراق (2015)، وكذلك في تونس والجزائر (2017). واليوم، تقيم كاتيا في باريس، وهي تكرس جهودها بالكامل لكتابة أوّل فيلم روائي طويل.

وهنا نص الحوار المترجم مع المخرجة كاتيا جرجورة:

"الصمت وحده"(Seul le Silence) ، هو فيلمُك القصير الأخير، الذي تمّ عرضه في مهرجان "Warm" في سراييفو في نهاية شهر حزيران، وتم عرضه خلال مهرجان تروفيل في أيلول، هل يمكنك العودة إلى مُكوّنات هذا الفيلم؟

القصة تستمدّ إلهامها من حالة وجود، وإحساس بالتفاوت الذي سكنني طوال حياتي كمخرجة أفلام وثائقية في مناطق النزاع؛ ففي كلّ مرة أعود فيها إلى البيت، بعد أفغانستان والعراق واليمن وإيران وغزة، كنت أشعر بأنني لست في مكاني الطبيعي. كان جسدي "هنا"، لكن رأسي بقي "هناك"، مع الأشخاص الذين شاركتهم حياتهم اليومية، في اضطرابات الحرب، هذا "الشعور بالدوار" هو، بالتالي، تمهيدٌ لرغبة في كتابة شيء ما.

جرجورة: القصة تستمدّ إلهامَها من حالة وجود، وإحساس بالتفاوت الذي سكنني طوال حياتي كمخرجة أفلام وثائقية بمناطق النزاع

خلال هذه الفترة؛ اندلع الصراع في سوريا، وبصفتي لبنانيةً، عشت لفترة طويلة في بيروت، وتأثرت بشكل خاص بالأحداث، كنت أعرف سوريا جيداً، رغبت في أن أذهب إلى هناك، لأنجز شيئاً ما، وكنت أتعذّب بسبب الشعور بالعجز والقلق، ثم، كان هناك تدفّق اللاجئين السوريين في فرنسا، الكثيرون منهم أخبروني بتجربتهم في المنفى، والشعور بالتفاوت الذي يشعرون به بين فرنسا، الأرض التي رحبّت بهم، وبين بلدهم الممزّق؛ لذلك قرّرت أن أحكي قصة لاجئة.

 "الصمت وحده" يحكي قصة منفى لاجئة سورية في فرنسا

قصة فدوى سليمان
يبدو أن لقاءً قد ألهمك بشكل خاص سيناريو الفيلم، اللقاء مع فدوى سليمان، ممثلة وشاعرة وناشطة، كانت رمزاً للثورة السورية، قبل وفاتها بالسرطان، عام 2017، وعلاوة على ذلك؛ فإن الفيلم مخصّص لها، في أيّ ظروف قابلتِ فدوى؟

من قبيل صدفة غريبة، التقينا في مهرجان الصور، في تبليسي، بجورجيا، في صيف عام 2012؛ كانت قد وصلت لتوّها إلى فرنسا قبل بضعة أشهر، سرعان ما أصبحنا صديقتين، قضينا ساعات طويلة في المقهى لمناقشة الشرق الأوسط، وإحساسنا بالاجتثاث، كانت فدوى ممزّقة كليّاً في بلدها، بعد تهديدها من قبل النظام، لم يكن لديها خيارٌ آخر سوى الفرار، ورغم أنها كانت شاكرة لفرنسا، إلا أنها شعرت بشدة "افتقادها" لسوريا، خصوصاً لأنها اضطرت إلى أنْ تتخلى هناك عن ابنها، الذي كان ما يزال طفلاً، لقد فهمتُ ما كان يمكن أن تشعر به: "عنفُ المنفى" الذي يظهر كقلق نفسيّ غامض، وهو مزيجٌ من الشعور بالذنب والعجز، ومن البُعد والوحدة، في كثير من الأحيان؛ كانت فدوى تلجأ إلى الصمت، أو تُغني الأغاني العربية التقليدية. من قصّتها، وغيرها من الشهادات التي جمعتُها من خلال اختياري للأدوار مع الجالية السورية في فرنسا، في مدينة ليون، وتروي، وروان، ورين، وباريس، رسمتُ وجهَ شخصية بطلتي الرئيسة: طالبة سورية شابة تجد نفسها، رغم أنفها، لاجئة في فرنسا، وتشعر بالقلق بشأن عائلتها التي اضطرت إلى تركها تحت القنابل.
معاني تنافر أصوات الفيلم
هذا التفاوت دائمٌ في الفيلم، ونشعر به بشكل خاص من خلال "الأصوات"؛ هل الصوت هو الناقل في الفيلم؟

إنه تنافر الأصوات المختلفة التي تشكل، بطريقة ما، مساحته الصوتية؛ أوّلاً هناك صوت ندا، اللاجئة، التي تغني، والتي تنسج أغنيتُها العلاقة بينها وبين شقيقها الصغير الذي بقي في سوريا، ثم الصوتُ الميكانيكي والبيروقراطي لموظف "OFPRA"، الذي يمثل ثقل وبرودة نظامٍ مكلف بإدارة طلبات اللجوء، هناك أيضاً صوت الأم، التي توهم بأنّ كل شيء على ما يرام، بينما هي في قلب الكارثة، وهناك صوت مازن، الصديق، الذي يندرج في نسيان الحرب، بينما ندا لا تستطيع قطع الحبل مع سوريا، وأخيراً؛ هناك صوتُ الصّمت، صمتٌ مليء بالعجز، والقلق، والذي يطبع الفيلم من البداية وحتى النهاية.
كيف تمّ اختبار الأدوار؟ لماذا انصبّ اختيارك على مزا زاهر وليس على ممثلة أخرى؟
بذلت كلّ جهدي حتى تكون البطلة الرئيسة، وجميع الممثلين العرب في الفيلم، سوريّين، ليس فقط لمسألة الأصالة فيما يتعلق باللكنة؛ لأن هناك العديد من اللهجات العربية، لكن أيضاً حتى يتماهى السوريّون أنفسهم فيه.

كان من المهم أن تقود المشروع بطلة لا تكتفي بالتمثيل، بل تعيش الحالة، بتفاصيلها ويظهر هذا على الشاشة

وكان ذلك أيضاً لمسائل شرعية إزاء عملي، والأشخاص الذين يخاطبهم هذا الفيلم، أنا لست سورية، لكنني اخترتُ الحديث عن حرب بعينها، وعن بلد بعينه، هو ليس بلدي، من المسلّم به أنّ المأساة السورية شبيهة بتلك التي عاشها والدي في لبنان في السبعينيات، لكنني لم أعشها بشكل مباشر.
العديد من المخرجين العرب، وغير العرب، أنتجوا أفلاماً تتناول المسألة السورية، دون التعامل بالضرورة مع ممثّلين سوريين، بل لبنانيين وفلسطينيين وجزائريين...، في بعض الأحيان تكون النتيجة مقنعة، لكنها قد تكون مخيّبة للآمال أيضاً، في حالتي؛ بما أنّ قصة الفيلم وأسلوبه كانا متجذّرين في الواقع، وبما أنني كنت أتعامل مع حالة "المنفى"، كان من المهم جداً أن تقود المشروع بطلة لا تكتفي بالتمثيل، بل تعيش هذه الحالة، بكل لحمها ودمها، وإيماءاتها، وتعبيراتها، وأن يظهر كلّ هذا على الشاشة.

أخرجت جرجورة فيلم "من كسر إلى كسر"، لقناة "ARTE" الفرنسية الألمانية

يبدو أنّ توزيع الأدوار كان مكافحة حقيقية؟

بالفعل، إصراري على العثور على امرأة سورية، بأيّ ثمن، وتتوافق مع ما كنت أفكرّ فيه، لم يكن بسيطاً، كما كنت أتصوّر. كنت أبحث عن امرأة شابة، ذات خصائص معينة: امرأة تتمتّع بخصائص القوة، والنعومة في آن. امرأة تراجيدية حقيقية، كما كان يجب أن يكون لها أيضاً صوتٌ بالغ، وبما أنّ الصوتَ كان هو موجِّه الفيلم، كان من الضروري أن تتفاعل مع شخصية الفيلم، من خلال صوتها.

اقرأ أيضاً: الهجوم على المخرجة نادين لبكي: لماذا تُعادي حركات الإسلام السياسي الفن؟
قمت إذاً باختيار الأدوار بشكل صارم وشامل. قمت بمسحٍ "فعلي" لأوروبا، وتركيا، ولبنان وسوريا، وقد رشحت أكثر من مئة امرأة، ممثلات وغير ممثلات، جلهنّ سوريات، بين 25 و35 عاماً، ومن صور الفيسبوك التي أرسلها لي أحدُ الأصدقاء، اتصلت بهنّ، وأرسلت لهنّ بعض مشاهد التمثيل، ثم تبادلنا الآراء عبر (Skype)، جميعهنّ كنّ استثنائيات ومُبدعات، لكنّ إحداهنّ تميّزت بالفعل، من خلال تمثيلها، والانفعال الذي ارتبط بهذا الدور، لكنّ المشكلة أنها تقيم في دمشق، ولم يكن لديها سوى جواز سفر سوري، ولم يكن لديها تأشيرة شنغن.
مع المنتجين الفرنسيين، سألنا أنفسنا السؤال: ماذا نفعل؟ في عام 2017؛ كان من الصعب للغاية الحصول على تأشيرة لفرنسا، الثورة السورية بدأت تلهث وتفقد أنفاسها، واستمرّ النزاع لمدة ستة أعوام، وكانت أوروبا تغلق أبوابها للاجئين، نصحني الجميع بالتخلي عن هذا الاختيار، قائلين إنه من المستبعد أن أحصل على تأشيرة دخول لـ "ماسة"، لكنني عنيدة بطبعي، شيء في صوتِ "ماسة" كان يقول لي إنني لم أنتبه لشيء بعينه؛ لذلك قرّرت أن أذهب إلى بيروت؛ لأنّ طلبات التأشيرة تؤخذ من بيروت، فلا توجد قنصلية، أو سفارة في دمشق، وأن أنطلقَ في عملية طويلة، ومُمِلّة، للحصول على التأشيرة، مع كل ما يفرضه ذلك من إشكاليات ووثائق.
ألم ينطوِ ذلك على مسؤولية شخصية كبيرة، من جانبك؟
في الواقع، لم أكن أعرف ذلك إلا بعد أن صرت بعين المكان، في لبنان، بعد أن تعرّفت على "ماسة"، وقدّمتُ طلب التأشيرة إلى السفارة الفرنسية، بدأتُ أسأل نفسي الكثير من الأسئلة: ماذا لو كان ردّ فعل "ماسة" سيّئاً عند وصولها إلى فرنسا؟ وماذا لو مرضتْ؟ وماذا لو تعذّر عليها تمثيل الدور؟ كنت أعي أن "ماسة"، مثل كلّ السوريين، قد صدمتها الحرب التي كانت تمزّق بلادها، كما أنها لم يسبق أن لعبت الدور الرئيس في فيلم خيالي. كانت ممثلة، متخرجة من معهد الدراما في دمشق، لكنها كانت ما تزال شابة، والأهم من ذلك أنها لم تغادر المنطقة قط، جلبُها إلى هذا الدور كان من المخاطر التي كان عليّ اتخاذها ومواجهتها.

اقرأ أيضاً: بعد فوزها بجائزة عالمية أنصار حزب الله يهاجمون المخرجة نادين لبكي
بعد شهر، سقطت التأشيرة، وبطريقة ما تحقّقت مخاوفي؛ خلال الأسابيع الثلاثة من الإعداد، والأيام العشر من التصوير، كان لدي انطباع بأنّ "ماسة" بدأ يراودها "حنين للوطن"، في الواقع، شعرت أنّ هناك خلطاً بين الخيال والواقع، "ماسة" لم تمثل، بل "كانت" هي الشخصية ذاتها، هذا ما كنتُ أريده في الأصل، ولكن عند مواجهة "البلاتو" كان الوضع أكثر تعقيداً، كان لا بدّ من إدارة المشاكل اللوجستية، ومستجدات التصوير غير المتوقعة، مع التأكد من قدرة الممثلة على الاستمرار في اللعب في أفضل الظروف الممكنة، لكن رغم هذه الصعوبات، نجح الفيلم، وتمكنت "ماسة" من تجسيد الشخصية التي كنت أتخيلها، وبشكل ملحوظ.
ما أخبار "ماسة" اليوم؟
لقد مكثت في فرنسا، وهي الآن تعيش في مدينة روان، المدينة التي تمّ فيها تصوير الفيلم، وحيث يوجد مجتمع سوري كبير، ومنذ ذلك الحين، لعبت دوراً في فيلم قصير آخر، وتقوم حالياً بإعداد مسرحية.
كيف كان تلقّي الفيلم؟
جرى العرضُ الأول في 2 أيار (مايو) 2018، في سينما "Grand Action" في باريس، أمام صالة مكتظة، بعد كل المصاعب التي مررتُ بها أثناء صناعة الفيلم، كنت "مخدَّرة" قليلاً، ولم أكن أتوقّع، بصدق، أيّ شيء، عندما دوّى التصفيق في النهاية، قويّاً وصادقاً، أدركت أن القاعة كانت منفعلة، ربما كانت هذه هي أجمل لحظة في حياة هذا الفيلم؛ الشعور بموجة العواطف وهي تستولي على الجمهور، بمن فيهم اللاجئون السوريون، الذين حضروا في ذلك المساء، الذين تناولوا الكلمة قائلين إن الفيلم يروي قصتهم جميعاً، كما بدا الفريق، بما في ذلك مسؤول المونتاج الذي أدين له بالكثير، راضين، وبالنسبة إلى "ماسة" أيضاً، التي كانت مدعوة، كان شرفاً حقيقياً، لقد هنّأها الجميع على أدائها، لقد تأثرتْ كثيراً، كان ذلك الترحيب بها في فرنسا، والتكريس الأوّل للفيلم.

جرجورة: بعيدة كلّ البعد عن الشعور بالانتماء إلى مجتمع الاستهلاك المفرط

المنفى، هو أيضاً قصة شخصية، وقصة أسرة، بحكم أصولك الكندية-اللبنانية؛ كيف تحددين نفسك في هذا الإطار؟

إذا كنت مهتمةً بمسألة المنفى، فذلك لأنني شخصياً "مجتثّة"، وطني بلا شكّ لبنان، من قِبل والدي، ومن كوني عشت هناك عشرة أعوام، لكنّني لا أستطيع أن أؤكد نفسي كلبنانية بالكامل، لم أعرف الحرب الأهلية، لم أترعرع في لبنان، لم أنشأ على القيم الشرقية التقليدية، وأتحدث العربية بلكنة فرنسية، لبنان جزء من هُويتي، لكن ليس كلّ الهُوية.

جرجورة: مهتمةً بمسألة المنفى لأنني شخصياً "مجتثّة"، وطني بلا شكّ لبنان، لكنّني لا أستطيع أن أؤكد نفسي كلبنانية بالكامل

من ناحية أخرى؛ لا أستطيع أن أدّعي أنّني كندية، أو بالأحرى كيبيكية، من جهة والدتي، رغم أنني قضيت الـ 25 عاماً الأولى من حياتي في كندا، صحيح أن بعض سمات شخصيتي قد تطورت من خلال نشأتي في أمريكا الشمالية، لكنني بعيدة كلّ البعد عن الشعور بالانتماء إلى مجتمع الاستهلاك المفرط، و"الرفاه" الهادئ الذي يميز المساحات الكندية الشاسعة.
لا تعطَى الهُوية إلى الأبد
أحسّني أقرب إلى الثقافة الفرنسية؛ حيث نشأت في حبّ الأدب الفرنسي، وتاريخه، وقيمه، وجذوره في أوروبا، مشروعاتي أنجزتها في فرنسا، منذ أكثر من 20 عاماً؛ أنا أعيش هناك منذ 10 أعوام، هذا هو وطني "الروحي"، لكنّني أدرك أيضاً أنني لست "فرنسية أصلاً ودماً"، بلهجتي، وماضيَّ وأصولي. فلنقل إنّ صلتي بفرنسا صلة عقلية، فيما صلتي بلبنان صلة روحية.

اقرأ أيضاً: مخرج مصري شاب يجابه التيارات التكفيرية بسلاح المسرح
مع مرور الوقت، وطّنت نفسي على كوني "متعددة"؛ أقبل الانتماء إلى "أي مكان ولا لأي مكان بعينه": أنا في كل مكان، ولست في مكان واحد حقاً، هذا الشعور بالمنفي، أرى أنه ثروة، وعائق في آن؛ فمن ناحية، يولد هذا عندي تعاطفاً أكبر تجاه الآخرين، وانفتاحاً على العالم، وإبداعاً طافياً، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يسبب لي هذا تشتّتاً، وعدم استقرار وجودي، وخوفاً من الالتزام أيضاً.

اقرأ أيضاً: فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية

لنقل إنه يجب أن نَترسّخ في ذواتنا، حتى لا نفقد أقدامنا، خاصة عندما نعمل بشكل مستقل، عندما يفصلنا محيط عن عائلتنا، ولا نملك معالم مرجعية تربطنا بالطفولة، يجب أن نتعلم كيفية إدارة هذا التنوع في الهُوية، وقبوله، والسماح له بالتطور، فكما قال الكاتب، أمين معلوف، بشكل جيد، في كتابه "Les identites Meurtrières" (الهويات القاتلة): "لا تعطى الهوية إلى الأبد، بل إنها تبنى وتتحول على مدى الوجود".
لقد قمت أيضاً بعمل أفلام وثائقية وخيالية، فكيف يمكن لهاتين التجربتين المختلفين أن تكونا جزءاً من نفس المسار؟
كلا التجربتين تتفاعلان، وتتغذيان، ويكمل كل منهما الآخر، في حالتي؛ لا غنى لأحدهما عن الآخر، لا شكّ في أنّ القصص الخيالية التي تخطر ببالي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتجربتي على الأرض، بالشهادات التي سمعتها، بالصداقات التي طورتها، أنا أعتمد على الواقع لإذكاء مُخيلتي، مع التركيز على الواقعية، وعبثيتها، وعلى الخرافي الخارق، هذا هو شأن فيلم "الصمت وحده"، وبالعكس، مع الأفلام الوثائقية، أراني أتعامل مع الحقيقي، لا سيما من خلال إدخال بعض مفاهيم الإخراج، وأدوات سرد الخيال.
عائلة مجزّأة تصارع دولة شمولية


ما هي مشاريعك القادمة؟
في جُعبتي مشاريع عدّة؛ ضرورات الوظيفة تقتضي من المخرج المستقل، التنقّل دائماً من مشروع إلى آخر، حتى لا يظل مهمّشاً، غالباً ما تهتم أفلامي بالقصص الصغيرة للأشخاص الذين يضطرون للتخبط مع التاريخ العظيم الذي يتجاوزهم، ويُحبط حرّيتهم، في العمل والفكر، هذه هي حالة مشروعٍ روائي خيالي، أعمل عليه، وهو فيلم تجري أحداثه في إحدى الدكتاتوريات العربية، يستعرض مصير عائلة مجزأة تصارع دولة شمولية.

اقرأ أيضاً: فيلم "ليلة طولها اثنتا عشرة سنة".. تحفة فنية عن أدب السجون
لقد بدأت أيضاً في عمل فيلم وثائقي تجريبي، وهو امتداد لفيلمي القصير "الصمت وحده" (Seul le Silence)، تكمن الفكرة في العثور على هؤلاء النساء الشابات السوريات اللواتي اخترتهنّ للدور الرئيس للفيلم، وسبر أعماقهنّ من حيث شعورهنّ بالاجتثاث، من خلال العديد من أشكال التعبير: الصوت، الكلام، الصورة، الفيديو، سأحاول التقاط وإرسال هذا الانطباع المنتشر حول المنفى.
أخيراً، ما هي رغبتك في "الصمت وحده"؟
أن يعيش الفيلم! أعتقد أنه حتى الآن لم يحصل على الحياة التي يستحقها؛ لقد عرض في بعض المهرجانات، لكن ليس بما فيه الكفاية، صحيح أنّ الآلاف من الأفلام القصيرة تُغرق السوق، وأنّ المنتقين للأفلام غارقون قليلاً، وأنّ المتفرجين ربما صاروا يتضايقون من سماع الحديث عن اللاجئين، لكن على أي حال، أعتقد أنّ هذا الفيلم يتناول موضوع المنفَى بشكل مختلف؛ بحشمته، وتواضعه، وصمته، هذه هي ردود الفعل والتفاعلات التي حصلت عليها، آمل أن تتاح للفيلم في المستقبل فرصٌ أخرى، وأن يمكن عرضه في الفضاءات المدرسية، والجامعبة، ومن خلال الأحداث المواضيعية، والمؤتمرات التي يمكنني التحدث فيها عن الفيلم كتجربة، وليس كفيلم فقط.


المصدر: lesclesdumoyenorient



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية