سيد عويس: حارس الموت والصمت في الفكر العربي

سيد عويس: حارس الموت والصمت في الفكر العربي

سيد عويس: حارس الموت والصمت في الفكر العربي


22/01/2018

لم يتمتع سيد عويس بشهرة كبيرة، سوى في الأوساط الأكاديمية التي قدرت مجهوده ودراساته السوسيولوجية السباقة، ومن الصعوبة بمكان أن تذكر اسم سيد عويس في مصر التي عشقها، وتسمع صدى يدل على معرفة جيدة بعالم الاجتماع ذي المكانة العلمية المرموقة، وما نسعى إلى توضيحه هنا هو إلى أي حد ينبغي استعادة "سيد عويس" ومنهجه في التفكير بوصفه حارساً للموت والصمت في الفكر العربي، والذي أراد أن يستنطق الصامتين، لا عن طريق التحاور معهم وإجبارهم على الحديث بغية تأويل ما ينطقون به صراحة، وإنما عبر استنطاق الرموز التي يتركونها خلف صمتهم؛ حيث تفرّد سيد عويس بالبحث والتحليل العلمي في العبارات المكتوبة على مؤخرات المركبات العامة، وعلى هياكل السيارات في القطر المصري دون اقتصار على مركزية مكان بعينه داخل القطر، وكان ذلك في دراسته الرائدة "هتاف الصامتين"، هكذا وبمنتهى البساطة، تتبع سيد عويس برشاقة شديدة السلوكيات العفوية للهامش ليستنطقه، فعل ذلك وهو يفهم جيدًا، أن هذا الاستنطاق لو تم بلا حذق فسيكون أشبه بالمراقبة التي تجبر المراقَب تلقائياً على اتخاذ أوضاع غير عفوية، بهذا استحق سيد عويس بين محبيه وقرائه لقب "رسول الفقراء".

حاول سيد عويس أن يحقق للموت شرعيته fميدان الدراسة الأكاديمية في عصر ساد فيه التفاؤل بإمكانية تطويع المستحيل

لم يكن سيد عويس حارساً للموت مكتفياً بالتأمل والتعرق في إنائه المغلق عبر استعارة الاقتباسات من الفلاسفة، وإنما باحث سوسيولوجي، أراد أن يجر الموت إلى حقل الدراسة الاجتماعية. كانت ذكريات الموت تحلق فوق عالم الاجتماع المصري منذ طفولته، فقد كان له إخوة كثيرون بعضهم لم يتم نضجه في رحم الأم، والبعض الآخر كان يموت بعد أن يأتي إلى الدنيا بسنوات قليلة، لكن المواجهة الأولى الحقيقية الأكثر قسوة وغرابة كانت في طفولته في غرة شهر رمضان؛ حيث كان هو وأطفال الأسرة الممتدة وأولاد الحارة قد اتفقوا على بناء مدفع من الطوب في وسط الحارة، حتى إذا ما جاء وقت الإفطار انطلقوا إلى ضربه، وكان الطوب حاضراً والورق موجوداً، ولكن أداة الاشتعال لم تكن موجودة في ذلك اليوم، وكان على سيد عويس واجب إحضار علبة الكبريت، ولكي لا يراها أحد بحوزته وضعها بدرج سري في كنبة مفروشة بالمندرة، وحين اقترب موعد الإفطار ذهب ليحضر علبة الكبريت، وحينها سمعته عمته "أم بطة" فنادت عليه، فأنكر ما كان ينوي فعله، وقال إنه جاء ليشرب، فأتت له بالقلة وشرب ثم خرج للحارة قليلًا، وعاد مسرعاً ليقوم بمهمته في إحضار الكبريت، لكنه حين دخل وجد عمته تنظر إلى البلاط ووجهها أصفر فاقعاً، ونادى عليها ولم ترد، فقد ماتت!، ربما لعفوية هذا الموت وصدمته وبساطته غير العابئة بالواقع، ومن ثم موت أبيه وتغير مسار حياته من بعد هذا الموت وضياع أحلامه في استكمال دراسته بالشكل الذي أراده وأراده أبوه من قبله؛ عميق الأثر في تناول سيد عويس للموت بعلمية شديدة مبتعدة تمام البعد عن أي تكلف في حرمة الموت المهيبة.

لم يكن سيد عويس حارساً للموت مكتفياً بالتأمل والتعرق في إنائه المغلق عبر استعارة الاقتباسات من الفلاسفة

لكن تلك الهيبة للموت لم تمنع سيد عويس من دراسته بأدوات التحليل الاجتماعي العلمية، فأنتج أعمالاً تميزت بالعلمية الرصينة والبعد عن التعقيد؛ بل صاغ معطياته العلمية بأسلوب أدبي يُقدر الألغاز ويتعامل معها عبر المجاز، رافضًا أن ينزع عنها سحريتها، ورافضاً أيضاً أن يمنع قلمه من دراستها، وربما كان لموت "أم بطة" المفاجئ ذلك الأثر في تتبع سيد عويس لهمس البسطاء، فقد أفرد بحثاً خاصاً للرسائل التي يرسلها الناس إلى الإمام الشافعى، وفيها يقول الناس ما لا يقدرون على التحدث به لأحد من أسرار ومعاص وهزائم وخيبات قد لا يتفهمها قريب مهما اقترب، وقد يخجلون من البوح بها حتى لأنفسهم بصراحة لكنهم وجدوا في الإمام الشافعي خير منصت لها، وكيف لا وهو نفسه في رحاب الموت، وليس واحداً من هؤلاء الذين يعيشون معهم، ومهما اقتربوا فما يربطهم بهم في النهاية هو المصالح والمخاوف، كما وجدوا في الإمام الشافعي خير وسيط إلى الله سبحانه وتعالى، ليغفر لهم أو يحقق لهم ما يصبون إليه، ربما كان تفكير سيد عويس ينصب على "أم بطة" وأمه أيضاً، كان يود أن يعرف ما كان من الممكن أن تقولاه وتشكيا منه، لو أتيحت لهما فرصة البوح، حتى لو كان هذا البوح مع شخص ميت يعتقد فيه ولاية ما.

اهتم الدكتور سيد عويس بأن يقدم عملاً  موضوعياً يرتكز على منهج البحث العلمي، وكانت هذه المحاولة شديدة الجرأة

بدأ سيد عويس التفكير في دراسة الموت بعد صدور القرارات الاشتراكية في مصر في 23  تموز (يوليو) 1961 مباشرة، اعتقاداً منه بأنّ تلك القرارات ستحدث  تغيرات جذرية (اجتماعية كانت أو ثقافية) في المجتمع المصري، وكان همه المعرفي منصباً على دراسة ما ستحدثه هذه التغيرات بدورها في نفوس أعضاء هذا المجتمع، وفي نظرتهم العامة نحو الحياة وفي نظرتهم الخاصة نحو ظاهرة الموت ونحو الموتى.

سيد عويس في مقابلة نادرة مع التلفزيون المصري عام 1987

في عصر ساد فيه التفاؤل بميلاد الدولة القومية الصناعية الحديثة في مصر، لم يقف سيد عويس كثيراً أمام صفتها المجردة، فلم يكتف بالتحمس أو التعليق على الخطة الخمسية التي دشنها نظام عبد الناصر، والتي طورت واقعياً الاقتصاد المصري بشكل ملحوظ، ولم يكتف بالتعليق على المحاولة الجدية لإعادة توزيع الثروة أو معدلات النمو والتنمية المرتفعة، لكنه اهتم بالنظر إلى المتغيرات من مرصد الموت، فحمل العنوان والسؤال البحثي نفسه منحى وجودياً بقدر ما هو عملي، ولعل هذه المنهجية في الرصد من فوق ربوة الهامش قد تجلت بوضوح مرة أخرى في حياة الباحث العلمية؛ حين ذهب إلى "النوبة" مع خمسة عشر باحثاً وباحثة ليسألوا أهلها عن مطالبهم في فترة بناء السد العالي، وقدم دراسات مجتمعية كان قوامها الناس عقب هزيمة 1967 التي كان يؤمن أنّ الشعب المصري لم يكن يستحقها.

كان "عويس" بالنسبة للموت كعالم الاجتماع الماركسي الأشهر "إريك رايت" بالنسبة إلى الماركسية

إنّ ما يربط "عويس" بذاكرة التنوير ليس بالتأكيد مجرد دراسته لما هو هامشي في الخطابات والمشاريع الكبرى بالحياة، لكن ما يربطه بتلك الذاكرة – سواء اتفق البعض معها أو رآها مجرد ذاكرة معبأة بأوهام الحداثة- هو محاولته ربط نتائج دارساته بالاندفاع القائم في فترة أحلام الستينيات نحو التغير الاجتماعي الثقافي عن طريق دراسة الظواهر، مادية كانت أو إنسانية، دراسة علمية تيسر لنا فهمها كما تيسر لنا التحكم فيها وتوجيهها نحو الأفضل.

في دراسته "عطاء المعدمين: نظرة القادة الثقافيين المصريين المعاصرين نحو ظاهرة الموت ونحو الموتى" اهتم الدكتور سيد عويس بأن يقدم عملاً  موضوعياً يرتكز على منهج البحث العلمي، وكانت هذه المحاولة شديدة الجرأة، فالبحث العلمي بمعناه الحديث في ميادين العلوم الإنسانية كان مقتصراً في أوائل القرن العشرين بمصر على العلماء الأجانب، وكان "سيد عويس" من رواد دارسي الاجتماع المصري بدوره في إضفاء طابع كهذا الطابع العلمي والموضوعي، فقد انقسمت دراسته عن الموت بشكل علمي إلى فصول تضمنت: "خطة الدراسة ومنهجها، وأضواء على ظاهرة الموت في حياة المصريين، وبعض البيانات الشخصية عن أعضاء عينة الدراسة المختارة، ونظرة أعضاء الدراسة المختارة نحو ظاهرة الموت، وكذلك نحو الموتى، وأخيرًا تناول بالبحث والتحليل العلمي بعض الاتجاهات العامة نحو ظاهرة الموت والموتى" ، بذلك كان "عويس" بالنسبة للموت كعالم الاجتماع الماركسي الأشهر "إريك رايت" بالنسبة إلى الماركسية، فكما حاول "رايت" أن يحقق للماركسية شرعيتها بإدراجها في "الميدان المركزي للسوسيولوجيا الأكاديمية، القائمة بشكل مبين على الأبحاث الكمية وبأداة أساسية هي الاستمارة، حاول سيد عويس أن يحقق للموت شرعيته في ميدان الدراسة الأكاديمية عبر دراسة علمية لظاهرته؛ في عصر ساد فيه التفاؤل بإمكانية تطويع المستحيل.

تظل استعادة منهجية سيد عويس في الاهتمام بما هو هامشي في الخطابات الكبرى وأساسي في حياة البشر، أمراً في غاية الأهمية بعد أحداث الانتفاضات العربية، التي خلفت أحزاناً تحتاج من المثقف أن يواسيها قبل أن يفكر في تغييرها، وقد ظهرت بواكير هذه الاستعادة في عناوين كتب جديدة، مثل "شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي" للدكتور ياسر ثابت، وهو عنوان يستدعي إلى الذاكرة عناوين "سيد عويس" بامتياز، لكن مازال هذا الاهتمام بالنظر من فوق ربوة الهامش، يعاني من ندرة حقيقية، ويجد نفسه في الأدب أكثر مما يجد نفسه في ميدان الأبحاث العلمية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية