موسيقى الراي من مقاومة الاحتلال وتطرف الإسلامويين إلى التمرد على الجسد

الموسيقى

موسيقى الراي من مقاومة الاحتلال وتطرف الإسلامويين إلى التمرد على الجسد


20/02/2019

على الرغم من شهرة الراي المغاربي التي حازت العالمية، واعتبرت أول موسيقى عربية تصل لهذا النطاق من الشهرة، ظن كثيرون أنّ تاريخ الراي يرجع فقط إلى نجومه الذين نعرفهم، ووصلت شهرتهم إلى أرجاء المعمورة، وهو ليس صحيحاً حيث إنّ للراي تاريخاً أقدم مما يتخيل عديدون.
تاريخ الراي
يعد الراي أقدم الفنون المغاربية، والاعتقاد بأنّ منبته كان الاحتلال الفرنسي للجزائرهو اعتقاد خاطئ، حيث أرجع الباحث والصحفي الجزائري، محمد بلحيّ، تاريخ الراي إلى دولة الموحدين في المغرب العربي؛ حيث بدأ الراي كنتاج ثقافي عن امتزاج الثقافة العربية بالأندلسية بالأمازيغية، وصورته الأولية كانت أبياتاً من الشعر المنشود، في الشوارع والحواري للعامة.

أصبح الراي حاضراً في كل المناسبات الدينية والاجتماعية وكان مهرباً للناس من قسوة التقاليد وملجأً عن قسوة الأحكام المتشددة

والراي تقليد شعري بدوي التراث، حسب ما استنتجه الباحث من مقدمة ابن خلدون الذي كتب عن الزجل الأندلسي المنتشر في بلاد المغرب أثناء فترة حكم دولة الموحدين، والراي في اللغة العربية يعني الرأي، الحكمة، وجهة النظر، النصيحة. ونظراً لما مثلته أشعار الراي من مزيج لكل هذه المعاني، فقد نشأ كفن شعبي معبراً عن وضع المجتمع وتطلعاته وآلامه، يُستعرض فيه جماليات اللغة في البدء، ثم تطور ليصبح مصحوباً بعزف الناي، كأحد أشهر الآت العربية، ثم أعيد إحياء الراي من جديد في نهايات القرن الثامن عشر، بعد سيطرة الإسبان على أجزاء كبيرة من المغرب العربي، ليصاغ في شكل أغانٍ نضالية مقاوِمة للاحتلال وكذلك لتوعية الناس، واستخدمه البعض للتحايل على السلطة، لطرح آرائهم بشكل غنائي بعيداً عن معارك السياسية وسياط الحُكام.

الراي تقليد شعري بدوي التراث

الراي.. حداثة وثورية
في عشرينيات القرن الماضي، عاد الراي ليصبح الفن المسيطر على الساحة، وذلك بعد أن أحكم الاحتلال الفرنسي قبضته على الجزائر، وعلى أعتاب حي قومبيطا في سيدي بلعباس، أحد أقدم الأحياء الشعبية في وهران، كان الحي الخط الفاصل بين المستعمرات الفرنسية بعمارتها الحداثية، وبين أحياء الزنوج والعرب الجزائرية التقليدية، بدأت في التشكل ثقافة مختلفة، ترفض العدوان بروافده، وتحاول التعبير عن هويتها بعدة طرق، هناك ولد الراي في ثوبٍ جديد، بعد أن نقلت فرنسا كل معالم حضارتها المزعومة إلى أطراف المدينة، وجعلت منها مركزاً لتواجدها، فأصبحت منطقة قومبيطا أحد الأحياء المهمشة، الذي لولا تهميشه لما أنتج ثقافته الخاصة المعبرة عن هويته الممتزجة بين العربية والأفريقية والأمازيغية البدوية، والأغرب من ذلك أن من قاد الراي في تلك المرحلة كانت النساء، اللائي خرجن من رحم القهر والظلم والاكتواء بنار العدو الفرنسي.
البدايات
منذ مطلع عام 1920، مثّل الراي بالنسبة للجزائريين ثقافة المحاربين غير التقليدين، حيث أصبح ذخيرتهم منذ ظهور الشيخ الخالدي، والشيخ حمادة، تبعتهم الشيخة الريميتي كأول امرأة تغني الراي، وأصبح الراي حاضراً في كل المناسبات الدينية والاجتماعية، وحفلات الزفاف ومهرجانات القديسين، وكان مهرباً للناس من قسوة التقاليد التي تحظر الحديث عن أمور بعينها، وملجأً بعيداً عن قسوة الأحكام الدينية، فأصبح المغنون يتحدثون عن الكحول وملذات الجسد، وكان هذان المحوران الأساسيان في الشكل الحديث للراي.

اقرأ أيضاً: مواجهة عبر الموسيقى بين التشدد والاعتدال
في الثلاثينيات أصبحت المقامات الموسيقية المتعددة ملمحاً أساسياً في غناء الراي، بعد أن أدخل الشيخ الوهراني العود والأكورديون والبيانو لأغانيه ممتزجة مع المقامات العربية الأصيلة، وقد أثرى هذا المزج بإدخال الموسيقى الإسبانية والفرنسية واللاتينية إلى الراي، وهو ما فعلته أيضاً الشيخة الريميتي في الخمسينيات، وامتد هذا إلى مرحلة استقلال الجزائر، ثم أدخلت إلى كل تلك الآلات، أدوات موسيقية تقليدية مثل الدربوكة والبندير، ممتزجاً مع الغيتار الكهربائي، والساكسفون.
الشيخة الريميتي

نسوية الراي.. الشيخة الريميتي
ولدت السعدية بدياف الملقبة بالشيخة الريميتي في أيار (مايو) من العام  1932، في قرية تسالة التي تبعد عن سيدي بلعباس حوالي خمسة عشر كيلومتر. انتقلت إلى قومبيطا وعمرها لا يتجاوز الثانية عشرة، تزوجت وهي دون العشرين، ثم تطلّقت وبدأت تغني في الأعراس التي كانت تقام داخل البيوت، غادرت سيدي بلعباس وأصبحت مغنية محترفة في ملاهي مدينة مستغانم، وذاع صيتها في أوساط منظمي الحفلات في وهران وغيرها من مدن الغرب الجزائري، وأصدرت أول أسطوانة لها عند المنتج باثي ماركوني في 1952، وسرعان ما أصبحت الريميتي نجمة الأغنية البدوية المنشقة والتي ستعرف فيما بعد بأغنية الراي.

اقرأ أيضاً: كيف تساهم الموسيقى في تجاوز البؤس الدنيوي؟
مست أغنياتها بجرأة لأول مرة الجسد الإنساني في كل حالاته، وبذلك صنعت قطيعة جذرية في بنية القصيد الغنائي، بعد إعاة بناء التركيبة اللحنية، بعيداً عن النظم الكلاسيكي السابق في أغنيات الراي البدوي، كما بدت الريميتي في أغانيها التي أصبحت شعبية، صادمة للذوق السائد وللنزعة المحافظة للأغنية الجزائرية وذلك من خلال تناولها للخمر واللذة الجسدية، بلغة غنائية حديثة وبسيطة بعيدة عن التكلف والتورية التقليدية.
ما بعد الاستقلال
قدمّت الشيخة الريميتي، الأم الأولى للراي الحديث، في وقت الاستعمار، حفلات موسيقية سرية للغاية، وعلى يدها صعد إلى الساحة الغنائية بلقاسم بوطيلجة، وبوتي سعدي ومسعود بلملو، الذين أدخلوا أدوات موسيقية حديثة مع الآت التقليدية، ثم جاءت مرحلة الاستقلال في ستينيات القرن الماضي، حيث قادت مدينة وهران ثورة الراي، وأصبح الراي فريقين هما الأوركسترا "Les Adam's" والأوركسترا "The Student's".

اقرأ أيضاً: لماذا اعتقلت الشرطة في المغرب شابين عزفا الموسيقى في الشارع؟
كان هذا النتاج الجديد من تأثير اليهود الجزائريين، وفناني البربر، والفنانين الشعبيين، واستمر هذا الانقسام الغنائي من الستينيات إلى الثمانينيات، حيث خضع الراي بعدها للعديد من التحولات قبل وصوله إلى أول أشكاله المعروفة في فرنسا، وهو الشكل الذي يسمح بوصوله إلى العالمية.
الشاب خالد

راي الشيوخ وراي الشباب
بينما اتسمت ملامح راي الشيوخ بالحدّة والقسوة، في توجيه المعاني الصادمة إلى مجتمع محافظ، وصرف نظره عن السلطة السياسية إلى المجتمع، وتناول قضايا الحب والخمر والظلم الاجتماعي، نظر إليها ممثلو السلطة باحتقار باعتبارها أحد أوجه الإسفاف والابتذال، إلى درجة وصفها بالنيوكولونيالية (الاستعمار الجديد)، إلّا أن ثورة التحديث التي طالت الجزائر في سبعينيات القرن الماضي، أتت بثمارها على موسيقى الراي وفنانيه، من حيث الإيقاعات الجديدة التي أُدخلت على الأغاني، ووصل الأمر لتغيير لقب الشيخ إلى الشاب، تأثراً بالموجة الموسيقية التحديثية القادمة من المشرق العربي، وهو ما بدأ بالتصاعد بعد وفاة الرئيس الجزائري هواري بومدين وصعود الشاذلي بن جديد.

الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد

وسرعان ما انتبه الشاذلي بن جديد الذي مثّل التيار الليبرالي بعد أن أطلق الرصاص على إرث بومدين الاشتراكي القومي، إلى أهمية مواجهة التيار الإسلامي الآخذ في الصعود، فكان الراي سلاحه لمواجهة هذا الخطر الإسلامي، وبدأ الاعتراف الضمني بالراي من قبل الدولة لأول مرة في تاريخه، حين أقامت وزارة الثقافة المهرجان الأول للراي في عهد بن جديد، اعتقاداً من السلطة بأنّ هذا الفن قد يشكل حاجزاً أمام تيار الإسلام السياسي المتصاعد في ذلك الوقت بسرعة لافتة، لتأتي حقبة الثمانينيات، محدثة انقساماً ثانياً في تاريخ فن الراي، حين حاول الفرنسيون إعادة صياغته كفن فرنسي معبر عن الفرنسيين ذات الأصول المغاربية.

الشابة فضيلة

الراي .. والنجاة من مطرقة التطرف
في العام 1994، بعد صعود الجبهة الإسلامية المتشددة في الجزائر، تم قتل الشاب حسني، أحد أشهر فناني الراي وقتها، وتلقت العديد من الفنانات تهديدات بالقتل، كالشابة الزهوانية، والشابة فضيلة، ما دفعهم نحو اللجوء إلى فرنسا، وممارسة الراي هناك ونشره في المجتمع الغربي، وفي حوار أجرته الشابة فضيلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، تحدثت عن تلك الفترة من حياتها، واصفة سنوات الإرهاب وما تعرضت له بأنها "كانت سنوات مظلمة في الجزائر، قتل الكثير من الفنانين، وتلقيت وعائلتي تهديدات بالقتل من الجماعة الإسلامية، لذلك ذهبت إلى فرنسا، منذ عام 1998، وأقمت حفلات في كل مكان، موسكو ودبي، والولايات المتحدة، وكنا كفناني راي ممثلين للثقافة الجزائرية في مجتمعنا، ثم طردنا من الجماعة الإرهابية، لنعبر عنها في الخارج".

بعد صعود الجبهة الإسلامية المتشددة في الجزائر قتل المغني الشاب حسني وتلقت العديد من الفنانات تهديدات بالقتل

لجأ نجوم الموجة الشبابية لموسيقى الراي أمثال؛ الشاب خالد، الشاب مامي، والشاب فوديل، إلى فرنسا، بعد خوفهم من الاغتيال الذي نفذه الإسلاميون بالشاب حسني وغيره من الفنانين والتيارات اليسارية، ومثّل ذهاب الشاب خالد إلى فرنسا خطوة أولى في صعود الراي إلى العالمية، خاصة بعد إنشاء ساحات خاصة بأداء مغني الراي في الأحياء التي يقطن بها أهل شمال إفريقيا المهاجرين إلى فرنسا.

اقرأ أيضاً: كيف عملت موسيقى شادي رباب على إنعاش صعيد مصر؟
وتزاحم صناع الموسيقى في فرنسا على ممارسة أغاني الراي وتقديم أغنيات للشباب الجديد. ومع بداية الألفية، بدأت فترة ذهبية في مسيرة موسيقى الراي وازدهرت صناعته، بعد أن أصبح فنانو الراي أحراراً عقب انتهاء سنوات النزاع المسلح. هكذا تعددت وظائف الراي في مختلف الحقب التي ظهر فيها معبراً عن التقلبات السياسية والاجتماعية، التي يمر بها المجتمع الجزائري، حتى وصل إلى العالمية حاملاً إرثه الثوري عابراً للتناقضات التي مرت بها البلاد منذ عقود.

الصفحة الرئيسية