الحجاب.. سيرة وطن

الحجاب.. سيرة وطن


21/02/2019

فتحتُ عيناي على زيّ أمي اليافاوية، وزيّها المدني؛ تنورة وقميص أو كنزة، وعلى رأسها ما كان يسمى بـ"الإشارب"؛ حيث تستر الجزء الخلفي من شعرها، وتظهر الجزء الأمامي.

صار لدينا نوعان من الحجاب: المتمثل بالزيّ التقليدي المرتبط بإرث حجب الشعر، والآخر الأيديولوجي المرتبط بموقف سياسي أصولي

وبوصفها مديرة مدرسة مختلطة؛ كانت تستقبل أولاياء الأمور بزيّها هذا دون حرج، وهو زيّ يختلف عن أزياء أهل قرية نوى؛ حيث الزي التقليدي المتكون من ثوب أسود، والصدر يختفي بقطعة قماش سوداء، وحول الرأس إما "إشارب" يسمى (طفخة) يخفي كلّ الشعر باستثناء قليل منه على الجانبين، وهو زيّ غير المتزوجات، أو عصبة سوداء تلتف حول "الشنبر" الذي يصل الرأس وتتدلى خلف الظهر، وهو أقرب إلى زيّ نساء حضارة تدمر، وزنوبيا على وجه الخصوص، وهذا الزي هو زي عام في القرية السورية بصور مختلفة.

اقرأ أيضاً: صراع التنورة والحجاب: هل بات مظهر المرأة مقياساً للنهضة؟

فلباس المرأة في دول العالم يعود بالأصل إلى تقاليد الزيّ وتحولاته، أختاي الكبرى والصغرى لم تعيشا تجربة الحجاب، وما أزال أذكر تلك الواقعة التي حدثت لأختي الكبرى التي كانت الطالبة الوحيدة، غير المحجبة، في المدرسة الثانوية للبنين في نوى؛ إذ حصل أنّ هناك أستاذ دمشقي،  فوجئ بها في الحصة الأولى، بدون حجاب، فأخرجها من الصف، وطلب منها أن تتحجّب، وجاءت إلى أبي تبكي، وكان والدي أستاذ التربية الدينية في الإعدادية الخاصة، فغضب وذهب إلى المدرسة محتجاً لدى مديرها الفلسطيني، على تصرف الأستاذ، وما كان من المدير إلا أن عنّف الأستاذ جراء سلوكه هذا، وطلب منه ألّا يعود إلى هذا السلوك.

اقرأ أيضاً: ماذا تخبرنا الفلسفة عن خلع حلا شيحة للحجاب؟

لكن الأستاذ وضع المدير أمام خيارين: إما أن تلبس الطالبة مها برقاوي الحجاب، أو لن يدخل الصف ويعطي دروسه! ولما كانت الطالبة قد رفضت الامتثال لإرادة الأستاذ، مؤيَّدة من والدها، فإنّ الأستاذ رفض دخول الصف وغادر المدرسة بعد أسبوع إلى غير رجعة.

أما المعلمات الآتيات من محافظات متعددة إلى القرية؛ فأغلبهن كن غير محجبات، باستثناء الآتيات من مدينة حماه، ولم يجد أهل القرية ما يزعجهم في ذلك، وكانوا يتعاملون معه على أنّه زيّ مألوف.

اقرأ أيضاً: حجاب المرأة بين سلطة التدين ووصاية العلمانية

في دمشق؛ شهدنا الخمار الأسود، والإشارب، والحجاب، كما شهدنا رؤية غير المحجبات، لكن مشهد النساء غير المحجبات طغى في مرحلة السبعينيات، ولم تكن مسألة الحجاب ذات شأن في مخيم اليرموك، الذي كانت معظم نسائه غير محجبات، حيث كان عدم وضع الحجاب هو السائد في الجامعة آنذاك، مع موضة (الميني جوب)، وهي التنورة التي ترتفع إلى ما بعد الركبتين؛ فجميع الفلسطينيات الآتيات من غزة والضفة، إلى جانب فلسطينيات سوريا، كن غير محجبات، ويشهد على ذلك مؤتمر الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي كان يُعقد في مدرج الجامعة، والرحلات الجماعية؛ إذ يندر أن تقلّ الباصات الأربعة أو الخمسة طالبة محجبة، وحتى الطالبات الآتيات من البحرين واليمن الشمالي كن غير محجبات، وحبيبتي الجميلة (من معرة النعمان) كانت غير محجبة.

اقرأ أيضاً: ماكرون يتحدث عن الحجاب وعلمانية الدولة والمجتمع

ودمشق كانت معرض الأزياء كلها، وتعرض محالها كلّ أنواع الزيّ المتعارف عليها.

كانت الفئات الوسطى العربية عموماً، والشامية والمصرية والعراقية على وجه الخصوص، فئات ذات مشروع تحرري، واحتلت المرأة في هذا المشروع مكانة مهمة، وكان الانتماء الأيديولوجي لها مرتبطاً بطقوس الزي، وكان انتشار الزي الأوروبي صورة أخرى من اختراق الثقافة الأوروبية لعالمنا، وارتبطت الحداثة بتحديث الزيّ، فكما انتشرت البزة الأوروبية والبنطال وربطة العنق انتشاراً واسعاً في عالم الفئات الوسطى المدنية والريفية، انتشرت التنورة وكشف الرأس.

اقرأ أيضاً: بعد النقاب.. كيف تبدو حياة النساء الفرنسيات اللواتي خلعن الحجاب؟

في الثمانينيات من القرن الماضي؛ بدأت تتغير أحوال البلاد والعباد، مصر والشام، صانعتا المعايير والقيم في بلاد العرب، تتعرضان لأكبر كارثة في تاريخهما المعاصر؛ كارثة انهيار الفئات الوسطى بسبب نظامين أسسا للفساد وتحطيم القيم، كان انهيار الفئات الوسطى وتحول الجزء الأكبر منها إلى فئات فقيرة، فقداناً لحيوية المجتمع، وهزيمة مريعة للحداثة.

فساد وفقر وقمع وانهيار المشروع الذي حملته الفئات الوسطى في مرحلة ازدهارها، مع انتشار الكارثة الأرضية -المجتمعية، عاد الناس للتمسك بأستار السماء.

اقرأ أيضاً: نيويورك: تعويض 3 مسلمات أجبرن على خلع الحجاب

في عام 1981؛ كانت سوريا تعيش أسوأ حالاتها بعد معركة ضارية بين النظام والإخوان المسلمين، حين راحت مظليات سرايا الدفاع المستقلة عن أية سلطة حكومية، في 29 أيلول (سبتمبر)، يخلعن الأحجبة عن رؤوس النساء في دمشق بالقوة.

كان الوعي السوري، وما يزال، بسرايا الدفاع، وعياً بالشر المطلق؛ فأفراد هذه الطغمة العسكرية منفلتون من عقالهم الأخلاقي والعاطفي والواقعي والعقلي. وما يزال خريجو هذا الكهف يحتفظون بأخلاقهم السيئة رغم انتهائه.

سواء كان الحجاب زياً أم أيديولوجيا؛ فهو خيار فردي، ولا يجوز لأية سلطة إجبار النساء على خلعه أو ارتدائه

كان ردّ المجتمع السوري المتأفف من نظام حطم فئاته الوسطى، وأودى بالجزء الأكبر منها إلى المرتبة الدنيا في السلم الطبقي، على السلوك الهمجي، تحدياً حجابياً، فعاد الحجاب مرة أخرى، لكن ليس بوصفه زياً متوارثاً، وإنما بوصفه موقفاً؛ فالعودة إلى ارتداء الحجاب في سوريا ليست عودة دينية؛ بل موقف سياسي من نظام ديكتاتوري يستهين بقيم الناس وحريتهم، وفي مصر، هي الأخرى؛ تحولت الفئات الوسطى إلى الحجاب، بوصفه صورة عن الميل الأصولي العام في البلاد.

وهكذا صار لدينا نوعان من الحجاب: الحجاب المتمثل بالزيّ التقليدي المرتبط بإرث حجب الشعر، والحجاب الأيديولوجي المرتبط بموقف سياسي أصولي. 

اقرأ أيضاً: خلع الإيرانيات حجابهن يهدّد بخلع نظام الولي الفقيه

وسواء كان الحجاب زياً أم أيديولوجيا؛ فإنه يقع في حقل الخيارات الفردية، ولا يجوز لأية إرادة سلطوية، مهما كان مصدر قوتها، أن تحمل النساء على خلعه أو ارتدائه؛ بل وليس الحجاب أو غيره، سبباً لاتخاذ موقف من المرأة .

ويجب أن يكون وعي المرأة بذاتها صادراً عن إرادتها العقلية، وليس عن وعي الرجل بها.

وإذا فكرنا في رغبة الرجل في حجب المرأة، أو كشفها بحظ من العراء، فإن كلا الموقفين يصدران عن النظر إلى المرأة بوصفها فتنة.

المرأة في الأصل والفصل والواقع ليست فتنة وليست عورة؛ المرأة ذات حرة، ولها ما تشاء، وليس ما يُشاء لها، وعندما نقول ذلك فإننا نخرج من حقل النقاش العقيم حول المساواة بين المرأة الرجل؛ بل نكون في حقل الذات الحرة المعبرة عن ذاتها قولاً وفعلاً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية