الإسلاميون والتقلبات الفكرية : هل هي خطيئة؟

هل تعدّ التقلبات الفكرية خطيئة؟

الإسلاميون والتقلبات الفكرية : هل هي خطيئة؟


04/04/2024

لعل ما من وصم ارتبط بطابع سلبي، عربياً، بقدر وصف شخص بأنّه "غيّر مبادئه"، عند الإشارة لتبديل أحد ما منهجية تفكيره السابقة.
السؤال الذي يطرح ذاته: إلى أي مدى يُعدّ تغيير منهجية التفكير، أو العقيدة الفكرية التي يعتنقها أحد من الناس، خطيئة أو نقيصة يوصم بها كلما استعر الخلاف؟

اقرأ أيضاً: هل نجرؤ على تجديد الفكر الديني؟
بداية، يجدر التفريق بين تغيير لهجة الخطاب الذي تستخدمه شخصية ما، وتحديداً حين يتعلّق الأمر بالخطاب الموجّه للشرق أو الغرب، وبين تغيير المنهج الفكري برمّته؛ وفي الحالة الأولى، لربما يكون مجدياً استذكار شخصيات مثقفة عدة مثل الشاعر الراحل محمود درويش، الذي كان ينتقي لهجة مغايرة تماماً عند خطابه مع مطبوعات غربية، إلى حد أثار عاصفة انتقاد حوله غير مرة، وكذلك المفكر الراحل إدوارد سعيد الذي كان ينادي بأقصى درجات التسامي والحوار والسلمية وهو في بلاد العم سام، لكنه اختار رمي الحجارة على جنود الاحتلال الإسرائيلي بمجرد أن اقترب من السياج الحدودي بين فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.

إلى أي مدى يُعدّ تغيير منهجية التفكير أو العقيدة الفكرية التي يعتنقها أحد من الناس خطيئة أو نقيصة؟

لكن ما نحن بصدده: ليس تغيير لهجة الخطاب، بل التغيّر في المنهج لدى بعض الشخصيات، وأثر هذا التغيير في إثراء النتاج الذي قدّمته الشخصية، وليس بالضرورة جعل المحصلة سلبية، كما قد يظن البعض.
لعلّ على رأس هؤلاء المفكر الراحل د.عبد الوهاب المسيري الذي تنقّل بين تيارات فكرية عدة، بدأها بحركة الإخوان المسلمين، لكنه ما لبث أن انطلق بعد هذا لأقصى اليسار فالشيوعية، وليعود مجدداً للوسط الإسلامي.
لم يكن الأمر لدى المسيري مقتصراً على التنقّل الفكري بين هذا وذاك، بل كان يمتدّ حدّ التنظيم الحزبي؛ إذ انتظم في صفوف جماعة الإخوان المسلمين في مستهلّ حياته، لينتمي عقب هذا لليسار المصري، وكان الشيوعي على وجه التحديد، ولينتقل من هذا نحو حزب الوسط الإسلامي الذي كان على رأس مؤسسيه، وليُمسك بمنصب المنسق العام لحركة "كفاية" المنادية بإصلاحات ديموقراطية في مصر.

 

التنقّلات الآنفة أثرت رؤى المسيري ونتاجه الفكري، فخرجَ بطيف واسع من المؤلفات والموسوعات والتصوّرات الفكرية والسياسية التي أسهمت بشكل لافت في إثراء نتاجه، كما كان البُعد القومي العربي ظاهراً في حديثه إلى مدى بعيد، ولعل اهتمامه اللافت بالقضية الفلسطينية يبرهن على درجة تغلغل الفكر القومي لديه، مقروناً برؤاه حول البلاد العربية، وبنبرة تارة تحمل نكهة يسارية وتارة أخرى دينية وسطية، وتارة ثالثة مستقلة.

 

 

اقرأ أيضاً: يحيى القيسي: طغيان تقديس الماضي أسهم في أزمة الفكر الإسلامي
الأنموذج الآنف يجعل المتأمل يستحضر نقطتين: أولهما أنموذج سيد قطب الذي تنقّل هو الآخر بين تيارات فكرية، وإن لم تكن متباعدة بالقدر الذي تبدو عليه تنقلات المسيري، فيما النقطة الثانية حول عباءة الإخوان المسلمين والفكر الإسلامي الذي أفرزَ جملة من القيادات السياسية عربياً، بعضها أعلن براءته من الرحم الديني الذي خرج منه.

لعلّ على رأس هؤلاء المفكر الراحل د.عبد الوهاب المسيري الذي تنقّل بين تيارات فكرية عدة

لربما لن يجول في خلد من يتابع سيرة سيد قطب المليئة بالفكر التكفيري لاحقاً، أنّ الرجل خرجَ من رحم الأدب والكتابة التي تبشّر بالحب والجمال نحو التطرّف، وأن الرجل كان يهجس بمقارنة الطبائع والثقافات عند سفره، لينقلب مرة واحدة نحو الفكر المتشدّد الذي أفضى لإعدامه لاحقاً.
وكاتب "في ظلال القرآن"، الذي يزخر بالضروب اللغوية البديعة، هو ذاته من تركَ حزب الوفد المصري، لينضمّ لحركة الإخوان المسلمين، ليُمعن في الفكر المتطرف، وليُتّهم بمحاولة قلب نظام الحُكم في العام 1966.
قطب، لم يكن أنموذجاً في الانقلابة الفكرية، على صعيد التنظيمات فحسب، بل كان كذلك في مناحٍ عدة؛ إذ كان يدعم الكُتّاب الشباب حتى من كان منهم يملك فكراً شيوعياً، كما كان يُثني على السلوكيات التي رآها في الغرب إلى حد وصل مرحلة الإعجاب الظاهر، ليبدأ رحلة الطرف النقيض بمجرد انتظامه في صفوف الإخوان المسلمين.

عبد الوهاب المسيري
ليس قطب وحده من كان في مسيرته السياسية محطة الإخوان المسلمين؛ إذ كم من قيادة فلسطينية خرجت من صفوف هذه الحركة، لكنها سرعان ما انطلقت بعيداً عنها، ولعل قادة الصف الأول مثل الرئيس الراحل ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) خرجوا من رحم الجماعة، ولو كان هذا لفترة مؤقتة فحسب، إبّان الدراسة الجامعية في القاهرة، لكنهم سرعان ما أخذوا تياراً مستقلاً لم يُحسب في يوم على التيارات الإسلامية.

من يتابع سيرة سيد قطب قد يعجب أنّه خرجَ من رحم الأدب والكتابة التي تبشّر بالحب والجمال

واحد من الذين تبنّوا هذا المنطلق (أن الحركة الوطنية الفلسطينية لا تتبنّى طرحاً دينياً)، كان الدكتور عز الدين المناصرة في كتابه "الثورة الفلسطينية في لبنان"، حين ردّ على اتهام لليمين اللبناني يقول إنّ الفلسطينيين أخلّوا بتركيبة لبنان السكانية، بقوله إنّ منظمة التحرير الفلسطينية لم تتخذ من المظاهر الدينية ولا الفكر الديني ديدناً لها منذ انطلاقتها، بل كانت مظلة جامعة للتيارات جميعها، وهو ما يُثبت التاريخ صحته؛ إذ لم يحدث أن فرضت أي من أطيافها مظهراً دينياً أو سلوكاً مبنياً على قاعدة العقائدية، وتحديداً ما قبل ظهور التيارات الدينية الفلسطينية آنذاك.
في هذا السياق، خرج من عباءة الإخوان المسلمين كذلك مجموعة من القيادات السياسية الأردنية، نحو الحياة السياسية الرسمية، إلى حد نسيَ فيه المعظم انتماءهم الفكري الأول، بعد تقلّدهم مناصب وصلت إلى رتبة رئيس وزراء في حقب ما، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة.

اقرأ أيضاً: مفهوم العدالة الاجتماعية عند مفكري الإسلام
تنظيم الإخوان المسلمين، يُعدّ لدى كثيرين فاتحة الدخول للحياة السياسية، سواءً انتقل للتيار المناقض وهو العلمانية أو التيار السياسي الرسمي عند تقلّد مناصب سياسية في الدولة. وهذه الحالة قد تنسحب على بعض اليساريّين أيضاً الذين انتقلوا من اليسار إلى الخطّ الرسمي للقيادة.
ولعل من حالات التقلّبات الفكرية الطريفة ما حدث مع المناضل الفنزويلي الفلسطيني إلييتش راميريز سانشيز (كارلوس)، الذي كان يُمثّل أقصى حالات اليسار المتطرّف، لكنه بعد أعوام من الاعتقال في فرنسا، دبّج رسالة من معتقله يشدّ فيها على يد أسامة بن لادن؛ لوقوفه ضد الغرب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية