نحو لحظة تاريخية جديدة للنهضة والإصلاح الديني

نحو لحظة تاريخية جديدة للنهضة والإصلاح الديني

نحو لحظة تاريخية جديدة للنهضة والإصلاح الديني


24/03/2024

أحياناً كثيرة نتعلق بحبال الوهم كمجازفة أخيرة لتفسير سيروراتنا الحياتية وفعلنا اليومي، وكمجتمع عالم ثالثي، كأفراد ومؤسسات، فإننا أكثر ما نكون صيداً ثميناً لهذا الوهم العالق في الوعي إلى آخر حدّ، الفرد خائف ومهزوم داخلياً، ويعاني الكبت والتنميط الذي يسبب البلادة، ويعاني الفراغ الذي جعله مستهلكاً نهماً لكلّ الأفكار الجاهزة والمعلبة، إنّه فرد يعيش أزمة وعي حقيقي على الرغم من هذا الكم الهائل والرصيد الكبير من المعلومات الموضوعة بين يديه، وعلى بعد نقرة واحدة على شاشة الحاسوب الشخصي، إنها حالة مربكة من المعرفة، أن تتوسع قاعدة المعرفة دون أدنى حساب لتوسيع قاعدة الوعي مما نقل الفرد من حالة أزمة الوعي إلى أزمة (وعي الأزمة )، وليس هذا إقحاماً لجدل فلسفي ليس هذا وقته أو مجاله، فإنما المعنى أنّ ثمة حاجة إلى معرفة يقينية أنّ فتح قنوات المعلومات أمام الناس والمجتمع لضخّ الأفكار والقيم لا تلغي أزمة الوعي، بل تحيل الأزمة إلى أزمة أخرى، ربما تكون أخطر وأصعب في المعالجة والحلّ.

نحن لا نملك، إلى الآن، منهجاً واضحاً لإنتاج استجابة واعية لتحدي الجريمة بكل أشكالها وأبعادها

مشكلتها؛ هي في التعاطي الهشّ وغير المنهجي مع أزمة الوعي، التي أنتجت كثيراً من الخسارات المجتمعية في سياق أحداث العنف وممارسات الفعل اليومي الساخط، أقصد إنتاج العنف في البيئات المختلفة، من الشارع العام، في الجامعات والملاعب، إلى البيت والأسرة، إلى الثقافة القاتلة والهويات القاتلة إلى الفكر والمعتقد والدين، وأياً كان اسمها وصفتها اللفظية؛ فإنها جريمة، سواء أكانت شغب ملاعب أم عنف جامعات أم عنف أسري، أم تطرف فكري أو ديني، أم ما شئت من صور العنف ومجالاته التي تكون بالضرورة شكلاً من أشكال الجريمة، ضد الدولة والناس والمجتمع، وضدّ الحاضر والمستقبل، وضدّ الحياة التي تتطلب العمل على عمارتها لا على خرابها.

اقرأ أيضاً: كيف خرجت السلفية من رحم الإصلاح الديني؟
إلى الآن؛ نحن لا نملك منهجاً واضحاً لإنتاج استجابة واعية لتحدي الجريمة بكل أشكالها وأبعادها، فهي حالة تدعو لاستنفار عام للبدء بلحظة تاريخية تشبه تلك اللحظة التي خرج فيها الفرد الأوروبي من ظلمة جهله وعنفه وفوضاه، إلى حداثته ووعيه، بفعل حركتين تاريخيتين صنفهما الباحثون على أنهما الاستجابة الأرقى والأقوى لكل قوى الجهل والتخلف والجريمة، أولها حركة النهضة الفكرية، وثانيهما حركة الإصلاح الديني، ومنهما خرجت أوروبا حديثة وقوية وقادرة ومنجزة لمشروعها الحضاري.

اقرأ أيضاً: هل يمكن التأسيس لدور إصلاحي للدين في فضاء عام ليبرالي؟
بكل يقين وجرأة؛ نحتاج إلى أن نرقى بمستويات الوعي، انطلاقاً أولاً من إدراكنا لحقيقة أنّ اللغة الترفية التي تسند أفكارنا في مواجهاتنا للجريمة والعنف المجتمعي، عموماً، يجب أن نتخلى عنها عبر إحالتها إلى لغة عملية إجرائية متحركة على أرض الواقع بلا شعارات خادعة وبلا قوالب فكرية مستوردة من الماضي، أو من فضاء مختلف عنا، وعياً وثقافة وفكراً، وأن تتخلى المؤسسات المعنية بنشر الوعي والتربية والإصلاح والتثقيف وإدارة شؤون المعارف عن لافتاتها اليتوبياوية، التي لا تنسجم مع قدراتنا ونموذجنا المجتمعي بمعاييره المحددة، كما لو أننا نعمل أو نعيش أو نتفاعل داخل حلم بعيد عن منطقة الواقع.

الدين ليس الشريعة فقط، إنما المقصود به أيضاً؛ أنماط التدين واليقينيات التي تنشأ من التفسيرات والمرويات التي تحتمل الاجتهاد

علينا إذاً؛ أن نعيد قراءة أوراقنا ومشاريعنا وإنجازات مؤسساتنا وهيئاتنا التي تعنى بالثقافة والشباب ومكونات المجتمع، وتهتم بقضاياه وأنماط سلوكه ودوره ومساهماته وعطائه وتفاعله مع الحياة، ورغم أنّ عمر الجريمة أو العنف غير قصير، إلا أننا –عربياً- لم نرَ للآن حملة مبرمجة ودقيقة مشفوعة بعناية فائقة من قبل الإدارات السياسية، تكون موازية للحملات الأمنية وتساهم فيها كافة قطاعاتنا الحيوية التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية والمجتمعية، وأن تستمر هذه الحملة إلى آخر حدود طموحها، لخلق لحظة تاريخية فارقة، كتلك اللحظ الأوروبية المنتجة للوعي والثقافة بوصفهما الآليتين القادرتين على إنتاج نهضة فكرية وإصلاح ديني يخرج منهما وبسببهما المجتمع قوياً وحضارياً.

اقرأ أيضاً: لماذا خفتت روحانية المسجد وغُيّب دوره الإصلاحي؟
لا مجال لليأس ربما، أو الإحباط، أو الملل، أو حتى التراخي الذي يفضي إلى ضياع الوقت والجهد، وتضييع فرصة وجود لحظة تاريخية عنوانها الطريق نحو النهضة وطريقها الإصلاح، والإصلاح الديني أولاً، نظراً إلى مكانة الدين في التأثير وخلق الفاعلية وتحريك الناس وتعديل سلوك المجتمعات، دون الحاجة إلى أن يخرج علينا من يقول إنّ الدين واحد وثابت، وإنكم تريدون خلق أديان جديدة، وليس هذا صواب، بل عصا في دولاب وعجلة الإصلاح؛ فالدين ليس الشريعة فقط، إنما المقصود به أيضاً؛ أنماط التدين وأشكاله والقناعات واليقينيات التي تنشأ من التفسيرات والمرويات التي تحتمل الاجتهاد والنقد، وكما يقول الإمام الغزالي: إنّ فساد الأديان يجيء من تحولها إلى ألفاظ ومظاهر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية