السرعة والعالم: كيف غيرت القطارات مسار التاريخ؟

السرعة والعالم: كيف غيرت القطارات مسار التاريخ؟

السرعة والعالم: كيف غيرت القطارات مسار التاريخ؟


04/04/2024

لم تكن مقولة مثل مقولة؛ أقصر الطرق هو الطريق الواضح أو المستقيم، لتتحقق  فعلياً، إلى أن تم اختراع القطارات، أول وسيلة نقل برية سريعة، ويمكنها نقل كل شيء تقريباً، والأهم، أنّها جعلت المسافات أقرب، وجعلت العالم أصغر وقسّمته إلى مناطق زمنية.
ولم تكن تلك الوحوش الطويلة التي تنفث الدخان مجرد وسائل نقل، لقد غيرت العالم؛ لأنها غيرت طبيعة الاقتصاد، وتدخلت في حسم الحروب، وفي الاستعمار، وعلى الأقل، تمكنت من إنقاذ حياة أناسٍ كثرين، وتسببت في سلب حياة آخرين! ولها سيرة مثيرة، سيرة السرعة والوقت التي تسردها السكك الحديدية حول العالم.
نهاية البطء
في العام 1769، قام المهندس والعالم الاسكتلندي جيمس واط باختراع عربةٍ بخارية، يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يقوم بتشغيلها، وكانت بطيئة بطبيعة الحال، وتكاد تصل إلى سرعة الحصان، لا فرق بينها وبينه تقريباً، سوى أنّها تتغذى بالفحم بدلاً عن العشب والماء. وبحلول العام 1804 قام مهندس إنجليزي هو ريتشارد فيتش، بتطوير الآلة البخارية إلى وسيلة نقل، عانت كذلك من البطء، ومن الثقل بسبب حجمها الكبير، إلى أن جاء العام 1825 حيث قام مهندسٌ إنجليزي آخر، هو جورج ستيفنسون، بوضع مخططاتٍ لسككٍ حديدية معيارية، من أجل تنفيذ فكرته: القاطرة البخارية.

قسمت القطارات العالم إلى مناطق زمنية وأصبحت رمزاً للسرعة والدقة في المواعيد حول العالم

ولأن الفحم يشكل مادةً أساسية يستهلكها القطار المكون من مجموعةٍ متصلةٍ من العربات، من أجل أن يتحرك، فقد بدأ إنشاء سكك الحديد في بريطانيا، بحيث تصل المسافة بين مناجم الفحم، والمدن أو القرى المحيطة، إلى أن اتسعت السكك الحديدية لتشمل معظم مدن بريطانيا، كأول دولةٍ في العالم تستخدم القطارات.
أثرت القطارات على الحياة بصورةٍ مباشرة، أصبح التنقل أسرع وأسهل، وصار للمواعيد دقتها بحيث يمكن أن يتم تحديد المدة التي يقطعها قطارٌ ما من مدينةٍ إلى أخرى، ومن ثم يسهل تحديد مواعيد اللقاءات والسفر والاجتماعات العامة والخاصة والمناسبات، لكن الأهم، تمثل في القدرة على نقل البضائع والمنتجات والمواد الخام بسهولة وسرعة من مكانٍ لآخر، وذلك يعني تسريع عمليات الإنتاج والاستهلاك اقتصادياً.

قطارات قديمة وثقيلة كهذا القطار كانت بالكاد تنقل نفسها

وفي هذا السياق، يتتبع موقع "thought" للتأريخ، مسيرة القطارات في تغيير الطابع الاقتصادي والاجتماعي، آخذاً بريطانيا كمثال، حيث "أصبحت مسألة أن تكون البضائع والمواد الغذائية طازجةً من ناحية أمراً ممكناً، فتصل بسرعةٍ من مكان زراعتها أو تصنيعها إلى المستهلكين، بينما وفي الوقت ذاته، أصبح نقل الطرود والبريد أسرع بكثير، لذلك أصبحت المعاملات أسرع، والأخبار صارت أكثر، وتنتقل بسهولة وسرعة بين المدن، وقد تسبب هذا بكفاءة أكبر في عمل المؤسسات الرسمية والشركات والمصانع، وأتى بربحٍ كبير لأصحابها، وساعد على تطوير فكرة التحكم بالأخبار والسياسات من جهةٍ أخرى".

في الهند أنشأت بريطانيا شبكة سكك حديدية استعمارية لأجل مصالحها كانت تشكل وفقاً للهنود كنزاً وطنياً وكارثةً استعمارية أيضاً

ويشير الموقع، إلى أنّ تقسيم المناطق زمنياً، حدث لأول مرةٍ مع القطارات، وذلك للتخلص من التوقيتات المحلية للمدن، والإبقاء على مواعيد محددة لوصول القطارات ومغادرتها، ومن ثم أصبح الوقت مرتبطاً بالقطار وحركته، وتضبط مدينة كاملة توقيتها، بحسب حركته، والأهم، يتمثل في مبدأ السرعة والدقة اللذين أرستهما القطارات، والمكاسب المادية، التي أوحت في استخدام القطارات استعمارياً، من أجل تحقيق المزيد من المكاسب.
وبسبب القطارات، فقد أصبحت علاقة السرعة بالسياسة أكثر وضوحاً وفائدة. ومنذ ذلك الحين أصبح المبدأ الاقتصادي القائم على فكرة "دعه يعمل دعه يمر" ويعني ترك تنظيم العلاقات الاقتصادية والتجارية لأصحابها دون تدخّل حكومي، مبدءاً فعالاً؛ إذ أينما كان يتم شق سكك الحديد، كانت الحياة تزدهر بسرعةٍ من حولها، محطات سفر ونقل بضائع ومحال تجارية ومكاتب بريدٍ ومكاتب تسويق وخدمات. ومن ثم تطورٌ أسرع ينتقل من مكانٍ لآخر على متن قطار.

السرعة والسياسة

في كتابه "السرعة والسياسة"، والذي تمت ترجمته في العام 2017 عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" يرى المؤلف الفرنسي بول فيريليو، أنّ "السرعة جوهر الحرب، وأنّ الإنسان الغربي هيمن رغم قلة عدده قياساً بالقارات والعالم، لأنّه الأسرع". لكن كيف تم هذا؟

قطارات شهيرة، كقطار الشرق السريع، وصلت عوالم وثقافات مختلفة ببعضها ببعض وبنت علاقات وأفكاراً لم تكن موجودة من قبل

تعد القطارات أحد المفاتيح الأساسية في الإجابة عن السؤال، وبريطانيا من جديد، تشكل دولة استعمارية سريعة، طبقت فكرة السرعة من أجل التحكم والسيطرة، وذلك من خلال مشروعها الكبير، الذي تمثل في بناء شبكة سككٍ حديدية في واحدةٍ من أكبر (مستعمراتها) وهي الهند.

ويوصف تاريخ القطارات في الهند، وبداياته خلال الاستعمار البريطاني أنه "كنز وطني، لكنه كارثة استعمارية"، بحسب ما يذكره موقع "wire" في تقرير نشر بتاريخ 13 أيار (مايو)  العام 2017، ويضيف الموقع أنّ "كبار المسؤولين البريطانيين والممثلين للإمبريالية، كانوا يصرون على أن شبكة سكك حديدية في الهند، سوف تساعد في وحدة المستعمرات هناك، إضافةً إلى أنّها سوف تكون دليلاً على القوة والثراء والمهارة التي تتمتع بها جميعاً بريطانيا". وهذا ما حدث فعلاً في العام 1919، حين قامت حكومة بريطانيا بتوظيف موظفين نصف بريطانيين–نصف هنود، من أجل إدارة السكك الحديدية، وتسهيل نقل قواتها العكسرية، والبضائع والمؤن، وغيرها، عبر الهند.

اقرأ أيضاً: حروب الشمس: الصراع على الطاقة في العالم العربي

ليست القطارات إذن، مجرد رمزٍ للحداثة والسرعة في المجالات الاجتماعية فقط، لاحقاً، لعبت كذلك دوراً أساسياً في الحرب العالمية الثانية، فلولاها لما نجت بريطانيا من بطش هتلر، حيث كان يتم التنقل بسرعةٍ من خلالها بين الجبهات العسكرية، مما كان يساعد على حفظ حياة الجنود البريطانيين، من خلال سرعة تغيير أماكنهم، كما ساهمت القطارات في بداياتها بحسم الحرب الأهلية الأمريكية مثلاً، التي فاز فيها الاتحاديون ضد الانفصاليين، بسبب القطارات، التي نقلت جيوشهم في أقل من أسبوعين إلى جبهات القتال، بينما كان الخصوم يستخدمون الجياد.

في الهند تمت السخرية من خط سكك الحديد على أنه استعمار بريطاني

ساعدت كذلك بريطانيا في تطوير وبناء سكة حديد مصر عام 1882، وذلك لأجل الأهداف الاستعمارية ذاتها. فيما قامت الدولة العثمانية ببناء خط سكك حديد الحجاز، أو الخط الحجازي، الذي أمر السلطان عبدالحميد ببنائه عام 1900. حيث كان يرى أنّ له أهمية تكمن في "سلامة الأراضي العثمانية البعيدة، مثل اليمن، بالإضافة لسهولة نقل القوات، كما سيكون مفيداً لأراضي الدولة العثمانية الواقعة في أوروبا، فبناء خط سكك حديد الحجاز سيمكن الدولة من اتخاذ التدابير الأمنية الاحتياطية ضد بريطانيا التي سبق أن غزت مصر، كما أنّ أراضي الجوار التي سيمر بها خط السكك الحديدية ستتطور اقتصادياً، والأهم أنّ خط ييسر تنقلات الحجاج". وكان الخط الحديدي يربط  إسطنبول بمكة المكرمة والمدينة المنورة واليمن عبر دمشق والأردن وفقاً لتقريرٍ نشر في "ترك برس" العام 2016.

أثرت القطارات على الحياة بصورة مباشرة وأصبح التنقل أسرع وأسهل وصار للمواعيد دقتها كما أثرت على الإنتاج والنقل

ولم تظهر فوائد الخط الحديدي الحجازي خلال الحرب العالمية الأولى، ولا خلال الثورة العربية الكبرى، لكنه فقط، شكل إشارةً وذكرى مؤلمة، للجنود العرب وعائلاتهم، ممن كانوا يُرحلون في القطار بالقوة إلى تركيا، حتى يتم تجنيدهم للمحاربة في الجيش العثماني هناك، إذ كان الكثيرون يذهبون، ونادراً ما يعود أحدهم، فيما عرف آنذاك بـ "السفر برلك".

لكن خط سككٍ حديديةٍ آخر، نال شهرةً كبيرة، بسبب خط سككه الفاصل بين عالمين، ولم يكن يحمل أي هدفٍ يتعلق بالاستعمار أو الاقتصاد بصورةٍ أساسية، بقدر ما كان هدفه التواصل الحضاري والسياحة وغيرها من أمور.

اقرأ أيضاً: السعودية تكتسح عالم الطاقة الشمسية بقوة

إنّه قطار الشرق السريع الذي يصل عالماً واقعياً بآخر سحري، تارةً في الشرق، وأخرى في الغرب، حيث كان خطه الرئيسي يصل إسطنبول بباريس والعكس، وفيه تطورت عربات القطارات لتصبح فاخرةً ومميزة، كأنها بيوت متنقلة تبحر في الزمن، فيما كتبت الروائية البريطانية الشهيرة أجاثا كريستي أفضل رواياتها "جريمة في قطار الشرق السريع" عن قصةٍ تتمحور حول القطار، الذي كان يتيح مشاهدة كل فصول السنة في رحلةٍ واحدةٍ على متنه، ومراقبة مجتمعٍ متنوع الثقافات والأجناس والأفكار على متنه.

اقرأ أيضاً: مشروع إماراتي مغربي يُزود آلاف المنازل القروية بالطاقة الشمسية

إضافةً إلى القصص الشهيرة حول القطارات، كرحلة هتلر التي نجا فيها من الاغتيال على متن قطاره نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، أو قبلها، الرحلة الشهيرة للينين في القطار عبر أوروبا إلى روسيا، وقيادة الثورة البلشفية من هناك، أو رحلة تروتسكي الأخيرة في قطارٍ إلى منفاه بفرنسا، حيث لم يعد أبداً من هناك، وكذلك قطار رئيس كوريا الشمالية الحالية كيم جونغ أون، الذي يوصف أنّه أقوى قطارٍ مدرعٍ حديث.

توقف قطار الشرق السريع عن العمل في 2007 بعد عقود من الرحلات المثيرة

وبالعودة إلى قطار الشرق السريع، ربما مثلت القطارات أول فرصةٍ للقاء المجتمعات المختلفة مع بعضها، متنقلةً كانت على متن القطارات، أو في محطات الانتظار والهبوط والمغادرة؛ حيث تستمر قصص وعلاقات بشرية متنوعة، وأخرى تنتهي بمجرد انتهاء الرحلة، كما شكلت رغبةً في التوسع الاقتصادي والاستعماري، بسبب إضافتها للسرعة القابلة للتوظيف في ميدان السياسة، أما اليوم فقد أصبحت رمزاً للتقدم التكنولوجي والسرعة والدقة، كما في قطار "الطلقة" بالغ السرعة في اليابان، وأصبحت الطاقة الكهربائية أساسية لتشغيل القطارات، التي تربط الأشخاص والمدن والأعمال كلها ببعضها ببعض، بينما ما يزال بعض تلك القطارات بطيئاً أو قديماً، مثل ذكرى حول تطورٍ ما، تكنولوجي وحضاري، كان يجب أن يتم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية