آخر أيام داعش: ثمن الخروج الأمريكي

آخر أيام داعش: ثمن الخروج الأمريكي


10/03/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


في محافظة دير الزّور السّورية، في قرية سوسة، حملتُ نهاية إمبراطوريّة داعش في راحة يدي. ففي مدينة هجين، على الطّريق إلى باغوز؛ حيث تستعدّ آخر نُتَف الخلافة للاستسلام، أخيراً، أمام القصف المستمرّ ضدّها، حصلتُ على بضع عملات معدنيّة كان يصدرها التّنظيم.

إنّ أيديولوجيا "داعش" قابلة للتّكيف في أماكن أخرى، لكن تماسك التنظيم انتهى بانتهاء إقليمه

في كلّ مكان حولنا، ثمّة حُفَر واسعة من جرّاء الضّربات الجويّة للتّحالف، تترك أثرها على التّربة الّلينة والخصبة لضفّة نهر الفرات. رائحة البارود معلّقة في الهواء، والحُفَر العميقة على الطّريق أكبر وأكثر عدداً من تلك الّتي مزّقت الأرض في كلّ من الرّقة، العاصمة السّابقة  - بحكم الواقع - لتنظيم داعش في سوريا، والموصل، معقلة في العراق. لقد أصبحت المدن المُفرّغة والمآذن المحطّمة مشهداً مألوفاً في الحرب الطّويلة ضدّ مقاتلي داعش. لكن العملات المعدنيّة، ثقيلة الوزن، بنّية الّلون، كانت اكتشافاً جديداً.
لقد استولت القبائل العربيّة، الّتي تقاتل مع القوات السّوريّة الدّيموقراطيّة تحت قيادة الأكراد، على حفنة كبيرة ومتّسخة من هذه العملات، ومنحتها بحرّيّة للصّحافيّين الّذين كانوا على الجبهة. وفي دوريّة، في ليلة شديدة البرودة، عبر بعض بساتين إقليم داعش، حملَ الرّجال، وكانوا متّسخين ومرهقين، بطّانيّاتهم عبر عتمة الغبار الّذي أثارته سيّاراتهم. وبدوا مثل جيش آت من عصر آخر.


لم تكن قبيلة الشّعيطات هنا من أجل العملات المعدنيّة، ولكن للانتقام. لقد حارب أبناؤها على جوانب عديدة في صراع سوريا الوحشيّ، وأصابتهم الفجيعة بعد أن قتل داعش المئات من رجال القبيلة وأولادها عام 2014. (وقد تحوّل بعض أبناء القبيلة أنفسهم إلى داعش). ومقطع الفيديو الّذي يوثّق عمليّات إعدامهم أكثر فظاعة - ولكن أقلّ تذكّراً - من مقاطع الفيديو الخاصّة بالرّهائن الغربيّين الّذين قُتلوا على يد محمد إماوزي، المعروف باسم الجهاديّ جون من غرب لندن، في نهاية عام 2014.
وكانت مذابح داعش في العراق وسوريا وليبيا، وقتل التّنظيم للسّنّة والشّيعة والمسيحيّين والإيزيديّين قد أثارت قدراً هائلاً من الاستياء. وصار ذاك الغضب مُميتاً بمساعدةٍ عسكريّة غربيّة. لكن داعش، مع وجود انقسامات بين فروعه الأجنبيّة وسيطرة حالة من جنون الارتياب عليه، عانى أيضاً من انهيار داخليّ.

ما يزال التّنظيم يشكل تهديداً، بالرّغم من أنّه أصغر بكثير ممّا كان عليه الوضع قبل بضع سنوات

واليوم، جنوب قرية سوسة، انتقل رجال القبائل الشّيعيّة على مدار الّليل فيما كان سلاح جوّ القرن الـ 21 يُعبّد طريقهم إلى الأمام. وإلى جانب حفرة كبيرة، كأنّها بركة بطّ، قُتل داعشيّ مشتبه به بالقرب من شاحنة صغيرة، انفجرت من ناحيته. ويتّخذ رجال القوات السوريّة الدّيمقراطيّة مواقعهم بين الأنقاض؛ وهناك تمّ العثور على المزيد من العملات النّقديّة ومشاركتها.
كانت ليلة صافية بشكل مخيف، اكتمل فيها القمر تقريباً وعرّى تقدّم الرّجال، لكن مقاتلي داعش ظلّوا مختبئين. "إنّهم ينتظرون الصّباح لشنّ هجوم مضاد"، قال لي أحد مقاتلي القوات السّوريّة الدّيمقراطيّة.

اقرأ أيضاً: تركيا وسياسة التتريك.. ماذا يحدث في شمال سوريا؟
إنّ مئتي رجل من رجال الميليشيا قتلوا في هجوم من هذا القبيل قبل بضعة أيّام، كما أخبرني قائد عسكريّ. "إنّهم يهاجمون من كلا الجانبين، مع عدد قليل من الرّجال، لكن الأمر يبدو وكأنهم مائة رجل". وقد قُتل أكثر من 8,000 كرديّ في القتال ضدّ داعش، في سوريا، على مدى الأعوام الخمسة الماضية، وفي قلب مشهد التّهدّم لهذا الجزء من البلاد، تجد مقابر جديدة وساطعة للشّهداء.
لقد قُلّص داعش إلى مخيّم صغير في باغوز - مدينة من الخيام ينتظر فيها مئات المقاتلين وحوالي ألفي مدنيّ، محاطين من جميع الجوانب، النّهاية الحتميّة. وعن بُعد، يمكنك رؤيتهم يتجوّلون: يبدو المشهد وكأنّه مهرجان موسيقيّ قاتم، جُمِع للاحتفال بنهاية الخلافة.

اقرأ أيضاً: حرص إماراتي على دور عربيّ في سوريا.. والكويت ترحب بعودتها
هذا، وقام كلّ من الأكراد والقبائل العربيّة بعمل هائل تمثّل في القتال على الخطوط الأماميّة، وقدّموا أكبر تضحية في سوريا، لكن شريكتهم، الولايات المتّحدة، في عجلة من أمرها الآن لمغادرة البلاد. فقد قال الرّئيس ترامب إنّه سيسحب الـ 2,000 جنديّ أمريكيّ. وكان الجدول الزّمني للمغادرة، الّذي وضعه ترامب، والممتدّ لـ 30 يوماً، غير واقعيّ ووقف جنرالاته ضدّه، لكن الانسحاب يبدو حتميّاً. وهكذا، كانت القاذفات الأمريكيّة فوق الصّوتيّة من طراز B-1B إلى جانب طائرات أخرى تعمل بجدّ أكثر من أيّ وقت مضى؛ وأحياناً تضرب الهدف نفسه ثلاث مرّات في تتابع سريع. وكذلك، ارتفعت الضّربات الجويّة بنحو الرّبع في العام الماضي.


وكانت القوّة الجويّة الغربيّة قد دمّرت هذا الجزء من سوريا، وأتلفت البنية التّحتيّة الّتي ستحتاج إلى عقود لإعادة بنائها. ومع ذلك، وحتّى في أيّام الخلافة الأخيرة، لم يتمّ التّحقيق بعد في الآلاف من حالات الإصابات المدنيّة من جانب التّحالف الّذي يقوده الغرب. (وحتّى تلك الحالات الّتي تمّ فحصها تفتقر للمصداقيّة - فلم يقم المحّققون بزيارة منازل وعائلات الضّحايا). وقد تسبّبت الفوضى في خروج أحد قادة التّحالف من القتال. وفي مقالة نُشرت في ناشونال ديفينس ريفيو، قال العقيد فرانسوا-ريجيس ليجرير، الّذي كان مسؤولاً عن المدفعيّة الفرنسيّة في سوريا: "نعم، لقد ربحنا معركة هجين، على الأقلّ على الأرض، ولكن برفضنا الاشتباك الأرضيّ، طوّلنا الصّراع دون داع، وبالتّالي ساهمنا في زيادة عدد الضّحايا بين السّكان".

اقرأ أيضاً: 3 مسوغات تشكك في القضاء على داعش في العراق وسوريا
وفي دير الزّور، جلستُ على أرضيّة أحد المباني الكثيرة المدمّرة مع روني ويلات، وهو قائد كرديّ سوريّ على خطّ المواجهة. وكان المراقبون الفرنسيّون على سطح قريب. دعاني روني للدّخول، ولكن فقط بعد أن غادرَت القوات البريطانيّة الخاصّة. وفيما كان جهازا لاسلكي يطقطقان ويزأران، شربنا الشاي ودخّنّا السّجائر في ما كان بمثابة غرفة العمليّات الخاصّة به. "مع التّحالف، هزمنا داعش في أماكن كثيرة، لكن داعش تنظيم يقوم على أيديولوجيّا متطرّفة"، أخبرني. "وهذا هو السّبب في أنّ المؤمنين به ما يزالوا أقوياء. ربّما هُزِم بعضهم، ويحاولون الآن الهروب، لكن خلاياهم النّائمة تنمو، ليس فقط هنا، في سوريا، بل في العراق... وفي كافّة أنحاء العالم".

اقرأ أيضاً: تركيا تضرب العرب بالكرد في سوريا لخدمة أحلامها العثمانية
إنّ الأيديولوجيا قابلة للتّكيف في أماكن أخرى، لكن تماسك داعش انتهى، بانتهاء إقليمه. وما يزال التّنظيم يشكل تهديداً، بالرّغم من أنّه أصغر بكثير ممّا كان عليه الوضع قبل بضع سنوات.
تأكّدت نقطة روني ويلات بعد أن غادرت الجبهة وتوجّهت إلى الحسكة، شمال شرق سوريا؛ ففي اليوم التّالي، قُتِل ثمانية من رفاق روني في تفجير داعشيّ على جانب الطّريق. كان الهجوم بعيداً عن الجبهة، ومن المتوقّع وقوع المزيد من الهجمات عندما يغادر الأمريكيّون.


المصدر: كوينتن سومرفيل، النيوستيتسمان-أمريكا


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية