درس ثورة 1919: حقائق لينين وأحلام سعد زغلول

مصر

درس ثورة 1919: حقائق لينين وأحلام سعد زغلول


31/03/2019

منذ أن وطأت أقدام الإنجليز الأراضي المصرية، عام 1882، بات للحركة الوطنية المصرية هدف وحيد هو التخلص منها، ووقع عبء النضال في البداية على كاهل الحزب الوطني، الذي أسسه مصطفى كامل، وحزب الأمة، وكلاهما امتداد وتجاوز لمدرسة "الإحياء والتجديد"، التي أسسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، غير أنّ أولهما حافظ على البنية الأيديولوجية لمدرسة الإحياء كاملةً، ومدارها فكرة "الجامعة الإسلامية"، بينما احتفظ حزب الأمة بميراث التجديد الديني، ودمجه ضمن بنية أيديولوجية مغايرة قوامها "القومية المصرية".
ولم تكد تضع الحرب الكونية الأولى أوزارها حتى بدأت مرحلة جديدة تجاوزت الحزبين، وفيها أصبح الشعب سيد النضال الوطني، بعد أن هبّ بكل عناصره، من الفلاحين والعمال والموظفين والطلاب والعلماء، وبكل تقسيماته الدينية، في ثورة تولى حزب الوفد قيادتها، ليدشّن مرحلة جديدة كلياً في تاريخ مصر السياسي.

الاحتلال الإنجليزي لمصر

مكنسة القومية ومخلفات الترك
أسفرت الحرب العالمية الأولى عن ثلاثة انقلابات سياسية بالغة الأهمية؛ تمثل الأول في انهيار إمبراطوريات تركيا والنمسا والمجر، إضافة إلى قيام الثورة الاشتراكية في روسيا، التي أعلنت دعمها المطلق للشعوب المستعمَرة، وأخيراً المبادئ الشهيرة التي أعلنها الدكتور ولسن، حول حق الشعوب في تقرير مصيرها.

ما أفرزته ديناميكية ثورة 1919 أنّ الشعب صار طرفاً وازناً في المعادلة السياسية بما قدمه من دماء وتضحيات

كان انهيار الإمبراطورية العثمانية في خضم الحرب العالمية الأولى كفيلاً بتغليب سردية الوطنية المصرية على رواية "الجامعة الإسلامية"، وقد تسبب ذلك في اندثار الحزب الوطني، وصعود نجم حزب الأمة، الذي اندمج مع الوفد إبان ثورة 1919، وقد تبنت طبقة كبار الملاك هذه الهوية الجديدة، كما يشير بول سالم في كتابه "الميراث المر: الأيديولوجيا والسياسة في العالم العربي" (2002)، كإطار أيديولوجي حديث يحفظ لها مصالحها الطبقية ويمنحها شرعية المشاركة في السلطة وقيادة الأمة في مواجهة النفوذ الأجنبي، ويحمي سيادتها بغض النظر عن المشكلات الهيكلية للمجتمع.
ولأنّ الوطنية المصرية خُلقت على النقيض من السيطرة التركية السياسية والاجتماعية (احتلت الأرستقراطية التركية قمة الهرم الاجتماعي حتى أوائل القرن العشرين)؛ فقد حرص كبار الملاك المصريين على تبني نظرة علمانية متحررة من التأثير الديني الذي اختصت به فئة العلماء التقليديين، الذين حافظوا على تمسكهم بالأساس الديني للانتماء السياسي على شكل الخلافة ثم الملكية المحافظة كوريث للخلافة لاحقاً.

اقرأ أيضاً: ماذا يجري في الجزائر: صاعقة في سماء صافية أم "ثورة" لكسر الإذلال؟
قدمت القومية المصرية هوية علمانية تخلت بموجبها عن الاجتماع على أسس وروابط دينية، وأحلت محلها الاجتماع على أسس ثقافية وتاريخية وحضارية، بعد أن تخيلت أمةً موحدة وعريقة تمتد جذورها في التاريخ البعيد للبشرية، وتتميز عن غيرها من الأقطار الإسلامية، وتستحق من ثمّ الاستقلال، وعلى هذه الأرضية حاولت دمج الكتلة القبطية داخل الكيان القومي، وقد جرى اعتماد هذه الهوية المعلمنة كركيزة للفكر السياسي المصري حتى بزوغ القومية العربية في الأربعينيات.
كان للنمو السريع للبيئة الحضرية وانتشار التعليم الحديث يدٌ في خلق ظروف مواتية لانتشار الأيديولوجيا الليبرالية، بعد أن تبين للطبقة الوسطى الصاعدة عجز الأفكار والمنظورات الموروثة عن الوفاء بمتطلبات الحياة الحديثة ومستجداتها، التي تطلب نظاماً فكرياً أكثر صلابةً وتحديداً.
وقد خلقت ثورة 1919 هذا النظام خلقاً؛ بفرضها مفاهيم جديدة عن الإنسان والمجتمع والأخلاق والأمة تقطع مع الميراث السياسي للتقاليد الإسلامية، فكانت الطريق إلى النهضة توصل إلى الغرب (المستقبل النموذجي للشرق) ضدّ الماضي العثماني، وكان أثر الحداثة الغربية على الواقع المصري من الأهمية بحيث أدى إلى تغييرات لا رجعة فيها.
وكانت الحركة الوطنية البازغة بمثابة قاطرة للوعي الاجتماعي والفكري؛ ومن خلالها تشكل فهم الطبقات لمصالحها، واتخذ كلّ منها موقفاً ما في الصراع بين القديم والجديد، كما يقول ز.إ. ليفين، في كتابه "تطور الفكر الاجتماعي العربي: 1917 – 1945" (1988).
 شكلت أول ثورة شيوعية في التاريخ تهديداً وجودياً للقوى الاستعمارية

الخدعة الأمريكية
عرض لينين على سعد زغلول إمداده بالسلاح، على أمل إنجاز ثورة جذرية تطيح لمرة وإلى الأبد بالاستعمار، إلا أنّ سعد زغلول رفض عرض لينين بشكل قاطع، وإن لم يسلم من تأثيره المتنامي فيما بعد؛ فقد كان لثورة أكتوبر الروسية قدر كبير من الأهمية في الثقافة السياسية المصرية حينذاك؛ إذ قدمت دفعة لا تُمحى من الإيمان اللاهوتي بـ "الشعب"، وإمكانية انتصاره على مستعبديه، وأعطت الأمل للشعوب المُستعمَرة في التحرير (كان الشعب موضع رهان سعد زغلول الأساسي بعد فشله في المسارات القانونية، على عكس بقية زملائه).

اقرأ أيضاً: حكاية ثورة التبغ التي هزت عرش الشاه في إيران
مضى سعد زغلول ومعه الصفوة السياسية للبلاد، ممثلة في هيئة "الوفد المصري"، خلف وعود ولسن، وسافروا إلى مؤتمر الصلح في باريس بهدف عرض القضية المصرية على أعضائه (الذين خذلوها، وعلى رأسهم ولسن، الذي اعترف بالحماية البريطانية على مصر).
لم يدرك سعد زغلول أنّ النداء الذي قدمه لينين إليه كان عين السبب الذي دفع ولسن لإعلان مبادئه؛ إذ شكلت أول ثورة شيوعية في التاريخ تهديداً وجودياً للقوى الاستعمارية، ومن ثمّ جاء الردّ سريعاً من أمريكا، الطامحة لتزعم "العالم الحر"، بـ "حقّ تقرير المصير"، فيما ردت بريطانيا وفرنسا ببيان مشترك أعلنتا فيه "النية في منح الاستقلال لشعوب الشرق".
فبدهاء شديد؛ استطاع الدكتور ولسن تحديد الفاعلية الثورية للسوفييت، وكانت مبادئه بمثابة عملة رديئة طردت عملة لينين من سوق النضال؛ وقد أثرت الصبغة القانونية التي صاغ بها مبادئه بشكل حاسم على الصفوة القانونية في مصر، ولم تكد تنتهي الحرب حتى انتظمت في مصر حركة قوية للمطالبة بحقوق البلاد على أساسٍ من هذه المبادئ، وقاد هذه الحركة "الوفد المصري" الذي قام على أساس جديد في التمثيل السياسي؛ هو "التوكيل الشعبي"، وهو ما يتماشى مع كون قادة هذه الحركة هم الصفوة القانونية للبلاد.

خلق الله الإنجليز مجانين
كتب الشاعر والروائي البريطاني، الحاصل على جائزة نوبل، روديارد كبلينغ، ذات مرة: "إنّ الله خلق الإنجليز مجانين، أقصى ما يمكن أن يكون عليه المجانين"، وقد تجلى هذا الجنون السياسي في أبهى صوره حين رفضت السلطة العسكرية البريطانية في مصر سفر سعد زغلول ورفاقه في "الوفد المصري" إلى لندن، للتفاوض مع رجال السياسة الممثلين للشعب البريطاني حول التوفيق بين استقلال مصر وبين مصالح بريطانيا فيها؛ فغيّر سعد خطته للسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، كان الوفد معتدلاً في البداية، بشكل خجِل منه حين اتخذ موقفاً ثورياً لاحقاً.
حرصت بريطانيا على عدم تمكين الوفد من السفر إلى الخارج، كما يروي عبد العظيم رمضان في كتابه "الحركة الوطنية في مصر: 1918 – 1936" (1983)؛ فاتجه الوفد إلى تعبئة الرأي العام الداخلي مستخدماً حركة التوقيعات على التوكيلات الشعبية التي حاولت السلطة العسكرية إعاقتها، دون جدوى، وكذلك اتجه الوفد إلى تنظيم الاجتماعات للتحدث عن القضية المصرية، وتوزيع منشورات تطالب بالاستقلال.

اقرأ أيضاً: سياسيون ألمان: الثورة الإيرانية نشرت الفوضى وأسست نظاماً قمعياً
كان رفض سفر سعد زغلول إلى باريس ضرباً من الغباء السياسي؛ إذ كانت الحركة الوطنية المصرية بالغت في الآمال المعقودة على مؤتمر الصلح، فلو كانت سمحت للوفد بالسفر لكان مُني بالفشل في صمت، وعاد صفر اليدين، في ظل الإجماع الأوروبي والأمريكي على استمرارية السياسة الاستعمارية، وبالتالي كانت بريطانيا تقف على أرض صلبة هناك، لكنها أصرت على أن تخوض المعركة على أرض زلِقة في مصر؛ حيث الحركة الوطنية سيدة الموقف في بلدها.
ومع ذلك، كانت معالجة هذا الموقف ممكنة بكثير من الحكمة وقليل من الخسائر، لكنها فضلت الجنون؛ إذ ألقت القبض على سعد زغلول ونفته إلى مالطة، لتشعل بيدها النار في الأرض التي تقف عليها.
يبدلون الكتان بـ "الكَاكَي"
في أغنية الشيخ إمام "الفلاحين" يقول: "الفلاحين بيغيروا الكتان بالكاكي [الزي العسكري] ويبدلوا الكاكي بلون الدم"، دلالة على الروح النضالية لطبقة الفلاحين التي طالما اتُهمت بالجمود والسلبية والبلادة على عكس الحقيقة التاريخية.

فقد طبع الفلاحون ثورة 1919 بطابعهم، إلى درجة أنّ أليس غولدبيرغ تعدّها "واحدة من أكبر الثورات الفلاحية في العصر الحديث في دول الجنوب"، نقلاً عن دراسة صقر النور "الفلاحون والثورة في مصر: فاعلون منسيون".
كانت طبقة كبار الملاك التي تصدرت المشهد السياسي حريصة على تبني شكل معقول من أشكال الفاعلية السياسية المقصورة على الحجاج القانوني والنشاطات الدبلوماسية، مع رفض حذر للأشكال العنيفة للنضال السياسي، وهو ما ظهر في فكرة تأسيس حزب الوفد نفسه كوفد مرسل لإثبات بطلان مشروعية الاحتلال البريطاني لمصر، وأنّ الولاء السياسي الذي تدين به مصر لتركيا لا يصحّ قانونياً انتقاله إلى بريطانيا، التي كانت لها صفة دولية مع فرنسا في هندسة معاهدة 1840، التي تحدّد العلاقة بين مصر وتركيا.

قدمت القومية المصرية هوية علمانية تخلت بموجبها عن الاجتماع على أسس وروابط دينية، وأحلت محلها أسساً ثقافية وتاريخية وحضارية

لم يكن بإمكان كبار الملاك فرض هذا الشكل المتدني من النضال السياسي على  بقية الطبقات؛ فبريطانيا التي تعهدت في بداية الحرب بتحمل التكلفة المادية للصراع الكوكبي منفردة دونما حاجة لإشراك المصريين في تحمل الأعباء، حولت مصر إلى قاعدة لجيوشها الإمبراطورية، واستدعت وحدات من الجيش المصري للدفاع عن قناة السويس، وحشدت ما يقرب من مليون فلاح للمشاركة في أعمال الحرب؛ عبر التجنيد الإجباري للفلاحين، الذين كانوا يساقون من أرضهم تحت تهديد السلاح ويُرسلون إلى الجبهة، في وقتٍ صودرت فيه محاصيلهم وحيواناتهم، بالتالي أعيد الفلاح المصري إلى عهود الاستعباد التركي.
وساهم ذلك في تثوير الطبقة الفلاحية الناقمة على الاستعمار، حتى إذا خرج سعد زغلول للمطالبة بحقوق البلاد، وجد جيشاً من الفلاحين الساخطين الذين لم يتورعوا عن ذبح الإنجليز في الشوارع، وتخريب ممتلكاتهم.
وأسفر هذا عن توجهٍ فزعٍ لدى كبار الملاك من العنف الفلاحي ضدّ الاستعمار، فقد كانوا يميلون للتفاهم والتفاوض الأبدي مع الاستعمار، إلا أنّ السياسات الزراعية للاحتلال أثناء الحرب أضرت بمصالحهم بعد احتكار بريطانيا محصول القطن، وفرضت قيوداً صارمة على زراعته وتصديره؛ فأردوا تعديل الوضع كي يتلاءم معهم ويتلاءموا معه.
كان كبار الملاك والجناح المصري في الجهاز البيروقراطي أسرى الانبهار بالقوة العسكرية البريطانية، وبالنظام الرأسمالي الديمقراطي في بريطانيا، فسعوا لاستنساخه عبر بناء نظام دستوري يحمي حريتهم السياسية في مواجهة الأوتوقراطية الملكية، ويحمي مصالحهم المادية في مواجهة الراديكالية الفلاحية الآتية من أسفل.

اقرأ أيضاً: الأكراد والثورة الإيرانية.. مسلسل بلا نهاية من المآسي
فلأنّ الفضل في ثرائها المادي يعود بالأساس إلى الترتيبات السياسية، التي خلقها الاستعمار ووزع بموجبها أراضي العائلة المالكة على متوسطي وصغار الملاك حتى صاروا كباراً، كان عداء كبار الملاك للقوى الاستعمارية غير ثابت ولا متجذر، ويشتغل بالأساس كوسيلة للمساومة السياسية، وقد ساعدها اتساع نطاق العنف في إنجاز مساومة لائقة بوضعها الاجتماعي بغض النظر عن التضحيات التي قُدمت في طول الوادي واتساع الدلتا.
ما أفرزته ديناميكية الثورة؛ أنّ الشعب صار طرفاً وازناً في المعادلة السياسية، بما قدمه من دماء وتضحيات، وأخذت "الأمة المصرية" بالتشكُّل؛ فبعد أن كانت مجرد فكرة يرددها أحمد لطفي السيد في صفحات الجريدة التي تتداولها النخبة، صارت حقيقة واقعة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية