بيت الحكمة: منارة أضاءت التاريخ وحفظت إرث الشرق والغرب

بيت الحكمة: منارة أضاءت التاريخ وحفظت إرث الشرق والغرب

بيت الحكمة: منارة أضاءت التاريخ وحفظت إرث الشرق والغرب


09/04/2020

في ذروة تقدم العباسيين خلال حكمهم بلاد الإسلام، وبعد أربعةٍ وعشرين عاماً على تولّيهم إدارة شؤون المسلمين من العاصمة بغداد، حصل في العام 774م، أن تأسست مكتبة بيت الحكمة، لتكون أول حاضرةٍ ثقافيةٍ تاريخيةٍ وعلميةٍ للعرب، لعبت دوراً بالغ الأهمية في الترجمة وحفظ التراث الفكري للشرق والغرب، وكذلك في تلاقي الحضارات وتمازجها.

اقرأ أيضاً: إبراهيم المازني وحلّاق القرية
المكتبة التي انهارت بعد قرون بفعل همجية المغول، بقيت طوال عقودٍ من تاريخ الإسلام، عامرةً بالمعرفة والحياة، وعاشت آثارها وما قدمته إلى العالم حتى اليوم، متجاوزةً هدمها مكانياً، لتظل مشعةً عبر الزمن، وهي تستحق إلقاء الضوء على تاريخها وأهميتها.
انطلاقةٌ منيرة
كان الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، محباً للعلم أينما كان مصدره ومهما كان نوعه، وقد ورث عنه هذا الاهتمام حفيده هارون الرشيد، وفي كتابه "بيت الحكمة: كيف أسس الشرق لحضارة الغرب"، يرى المؤلف والباحث جوناثان ليونز أن "عصر العباسيين تميز بإنجازاتٍ عديدة، من أهمها تطور صناعة الورق، وانتشار أسواقٍ لبيع الورق الفاخر بغزارة، خصوصاً في بغداد". وهو ما أدى بطبيعة الحال، إلى ازدهار مهنة نسخ الكتب، في العلوم والفلسفة والطب وغيرها، ومن ثم ترجمة العديد منها كذلك، بدفعٍ من مسؤولي الدولة العباسية ووجهائها أو المتنفذين فيها، خصوصاً أبو جعفر المنصور، ومن بعده الخليفة المأمون.

اقرأ أيضاً: فرانز فانون للعرب: المستبد المحلي يترقب في آخر نفق الثورة
ويشرح ليونز في كتابه، كيف أصبح الخطاطون ذوي شأن في العالم العربي وفي عاصمة الخلافة بغداد، حيث أسهموا في تعميق ثقافة العرب من خلال النسخ. وتراكمت الكتب في المدينة التي صارت تسمى "وسط العالم" بحسب ليونز، كما تراكمت الترجمات عن اليونانية والسنسكريتية وغيرها من اللغات، فكان لا بد من مكانٍ مميزٍ وعظيم، حتى يتسع لكل هذا الكم من المعرفة في حينه، فأسس الرشيد مكتبة بيت الحكمة في العام 774م.

ظهرت مكتبة بيت الحكمة من بين أصابع الخطاطين وأوراقهم وترجماتهم

ومن الجدير بالذكر، أنّ المكتبة اتخذت اسمها، بناءً على أنّ زمن العباسيين شهد نهضةً لا تتكرر لعلماء المسلمين، فأسماء كالفراهيدي وجابر بن حيان والمسعودي واليعقوبي وغيرهم، لمعت وأبدعت في اللغة والعلوم في ذروة التألق العباسي، الذي انتهى بمكتبة يعني اسمها دار الفلسفة بصفةٍ خاصة. وكان مصطلح (الفلسفة) يشمل في ذلك العصر عدداً من العلوم كالرياضيات والفلك والمنطق والطب وغيرها. وتميزت بيت الحكمة، بأنها كانت "مفتوحةً لكل من الرجال والنساء ورحبت بالطلاب من جميع الأعراق والأديان دون تمييز، وشجع أولئك العلماء الذين تم اضطهادهم من قبل الإمبراطورية البيزنطية على الدراسة فيها" وفقاً لدراسةٍ نشرت في 2016 على موقع "ancient origins".

اقرأ أيضاً: مفهوم التراث عند مهدي عامل: المعرفة ضد الخصوصية
ونتيجة لذلك؛ جمعت بيت الحكمة العديد من اللغات المختلفة بما في ذلك العربية والفارسية والآرامية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية. وهكذا، صارت واحدةً من أكبر مكتبات العالم القديم، وأهمها، في مجاميع العلوم وتنوعها وترجماتها. لغاتٌ عديدة وثقافاتٌ مختلفة، حصلت على آمال البقاء والتطور في اتحادٍ معرفيٍ نادر، في ظل الدولة العباسية، وفي قلب الأمةِ العربية.

العنف ضد المعرفة

يقال إنّ كل مدينةٍ حضاريةٍ عظيمة، تحمل بذور قوتها وتاريخها في مكتباتها، وقد أدرك الخليفة العباسي المأمون قيمتها، حين رعى بيت الحكمة، فبلغت ذروة مجدها في عهده، وهو أول من طلب كتب الفلاسفة من الإمبراطورية الرومانية، حين كانت ممنوعة آنذاك، حيث إنّ ترجمتها إلى العربية، خصوصاً أعمال أفلاطون وأرسطو، حفظت لأوروبا حقبة تاريخيةً عظيمة كان يمكن أن تضيع، لولا أن العرب حفظوها، وشرحوها، كما فعل ابن رشد بعد قرون.

تطورت صناعة الورق وأصبح الخطاطون ذوي شأن في عاصمة الخلافة بغداد فتطورت أعمال النسخ والترجمة وتعمقت ثقافة العرب

ولعل عصر النهضة والتنوير الأوروبي، لم يكن ليبدأ لولا أن وجد الأوروبيون لاحقاً نقطة انطلاقتهم التي ضلوا عنها من قبل، بعد أن طالبوا بتخلي المسيحية عن تشددها تجاه العلم والفكر، ثم عادوا إلى التقدم من خلال إحياء تراث فلاسفتهم، الذي حُفظ أول مرةٍ في مكتبة بيت الحكمة. وكان الخليفة المأمون آنذاك، عين الفيلسوف أبا يوسف يعقوب الكندي ليترجم أعمال أرسطو. وليشرف على نسخ وترجمة معظم الكتب الفلسفية التي أحضرها المأمون من مكتبة صقلية في إيطاليا، وفقاً للمصادر ذاتها.
وفي دراسة للكاتبة رفيدة إسماعيل، نُشرت في جامعة الخرطوم العام 2009، يظهر أثر مكتبة بيت الحكمة على العالم العربي بأسره، فمن بغداد أخذت المدارس تنتشر، وأخذ "الأساتذة وعلماء الدين والفلسفة والطب والرياضيات والفلك المسلمين، يكتبون مراجعهم العلمية وكتبهم التي يمكن أن يعثر عليها أي طالبٍ في بيت الحكمة، بدأ التوثيق في القرن الثامن، وكان هذا بمثابة نواةٍ احتفظت بالنهضة لقرونٍ لاحقة من أجل العالم، ودون تمييز بين اللغات وأصول العلوم، ولا مبتكريها أو مطوريها".

الترجمة والتوثيق كانا ميزةً عظيمةً شكلتها مكتبة بيت الحكمة

وبهذا كله، صارت بغداد عاصمةً للمثقفين، وللأساتذة، وارتفع مستوى الأدب والفكر والنقاش، وشمخت مدارس كالمدرسة النظامية والمدرسة المستنصرية. وبدا أن التاريخ القادم عظيم، لأنه يكتب أولاً بأول، ويوضع في أوراقه على رفوف بيت الحكمة، إلى أن توقف كل شيءٍ فجأةً.

كانت مكتبة بيت الحكمة مفتوحةً لكل من الرجال والنساء ورحبت بالطلاب من جميع الأعراق والأديان دون تمييز

بعد مرور 484 عاماً من عمر بيت الحكمة، سقطت بغداد بيدِ هولاكو في العام 1258م، الذي أراد أن يثبت قوته من خلال الخراب، ومن بين ضحابا الدمار الذي خلّفه كان تدمير مكتبة بيت الحكمة، حيث تجمع معظم المصادر التاريخية على أن معظم مخطوطاتها وكتبها تم إتلافها وتدميرها، ورميها في نهر دجلة الذي تغير لونه لشدةٍ ما سال فيه من تاريخ وفكر وحبر ضاع بسبب جهل السطوة والعنف والتدمير.
وكانت حوالي 400 ألف مخطوطة مكتوبة، نجت من براثن هولاكو، حيث قام خير الدين الطوسي بنقلها قبل حصار بغداد بفترةٍ قصيرة. وهو ما جعل سيرة المكتبة حاضرةً إلى اليوم، لتشهد هذه المخطوطات على اهتمام الحضارة الإسلامية بالفكر والعلم أولاً، وبالحضارةِ أيضاً، كما تظل مثالاً لذاكرة مكتبات العالم العظيمة، التي تعرضت بدورها للدمار كمكتبة باريس في 1942، ومكتبة البصرة في 2003. وغيرها مما اندثر ولم يبق له أثر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية