3 إسبانيات يروين قصصهن من داخل تنظيم داعش

3 إسبانيات يروين قصصهن من داخل تنظيم داعش


15/04/2019

ترجمة: علي نوار


بمخيم الهول السوري الذي يُحتجز فيه آلاف من ذوي الجهاديين، عثرت صحيفة "الباييس" على ثلاث نساء يحملن الجنسية الإسبانية كنّ قد سافرن برفقة أزواجهنّ إلى سوريا عام 2014 ونجون من سقوط آخر معاقل "الخلافة".

يرتفع عدد الأجنبيات إلى 10 آلاف امرأة محتجزات برفقة أبنائهن بأحد المخيمات والذي تبلغ نسبة القصّر فيه 65%

تقول يولاندا مارتينيث ولونا فرنانديث ولبنى ميلودي "كل ما نرغب فيه هو الخروج من هنا. لا يمكنهم إدانتنا برعاية منازلنا وأطفالنا في الدولة الإسلامية". هن مواطنات إسبانيات سافرن برفقة أزواجهنّ إلى سوريا عام 2014 ونجون من سقوط آخر معاقل تنظيم "داعش" في الباغوز، الواحة الواقعة على الحدود الشرقية لسوريا مع العراق. يتحدّثن من أحد أكواخ مخيم الهول السوري الذي يُحتجزن بداخله في ظروف خطيرة وغير صحّية مع 73 ألف شخص آخرين، 92% منهم نساء وقصّر. يعتنين بـ15 طفلًا. يتواجد زوج إحداهنّ، وهو إسباني الجنسية أيضاً، معتقل بأحد السجون الكردية؛ توفّي الاثنان الآخران. هناك 19 إسبانياً انضموا أو ولدوا في كنف "الخلافة" وشهدوا سقوطها بأمّ أعينهم.

لدى كل من يولاندا مارتينيث (34 عاماً) ولونا فرنانديث (32 عاماً)، وهما من مدريد، أربعة أبناء. لا تزال فرنانديث حاملًا في طفل خامس وتعتني بأربعة أطفال آخرين تؤكّد أنهم أبناء "زوجين مغربيين كانا يقيمان في إسبانيا قبل أن يلقيا حتفهما في جحيم الباغوز". لا تتوقف الاثنتان على ترديد أنّهما تتطلّعان للعودة إلى إسبانيا. تقول فرنانديث "إذا كان بوسع إسبانيا إخراجي من هنا، فأنا أودّ ذلك. لكنهم لا يستطيعون إبعادي عن أبنائي!"، تتشارك مارتينيث نفس مخاوفها. أما لبنى ميلودي مغربية الأصل فهي الإسبانية الثالثة التي وصلت المخيم ومعها ثلاثة أطفال. في أحد السجون التي تشرف عليها الميليشيات الكردية والقوات المتحالفة مع التحالف الدولي يقبع سجين إسباني. إنّه عمر الهارشي، مغربي الأصل وزوج مارتينيث، التي تؤكّد أنّه استسلم منذ شهر. أما أختاها في الدين، مثلما تشير إلى مواطنتيها، فقد أصبحتا أرملتين لزوجين جهاديين من أصول مغربية أحدهما حصل على الجنسية الإسبانية، وقُتلا أثناء المعارك.

اقرأ أيضاً: النساء الجهاديات: المرأة صانعة للإرهاب أم ضحية له؟

وتؤكّد هؤلاء النساء أنّ أزواجهنّ خدعوهنّ كي يسافرن إلى سوريا، حيث وعدوهنّ في البداية برحلة ترفيهية أو حياة جديدة في تركيا قبل خمسة أعوام، ثم أجبروهنّ على عبور الحدود ليلًا بصورة غير شرعية إلى أراض سورية خاضعة لسيطرة تنظيم "داعش". يتعلّق الأمر بمسلمات ملتزمات تزوّجن قبل 10 أعوام. المدريديتان متحوّلتان للإسلام وحافظتا على صلاة الجمعة كل أسبوع بمسجد (إم-30) في العاصمة الإسبانية، الذي كانت لبنى ترتاده "من وقت لآخر". لم تحصل أي منهنّ على درجة علمية أعلى من البكالوريا.

اقرأ أيضاً: الجهاديات في تونس

تضيف الإسبانيات الثلاث أنّ أزواجهنّ كانوا "مجرّد موظفين في الدولة الإسلامية ولم يسبق لهم القتال قط" ولم يستوعبوا مطلقاً "إرهاب داعش". مرتديات أحذية جبلية وسراويل مغبرة أسفل عباءات سوداء تغطّي أجسادهنّ، يبرزن "ارتدينا ذلك لأنّنا أردناه" بينما يتحسسن نقابهن، غطاء الوجه. أُبلغن بأنّهن بوسعهنّ الرحيل عن الخلافة، لكن بدون أبنائهنّ. لم تحاول أي منهنّ تجربة ذلك.

مخيم مضيف لأقارب داعش الحول ، في شمال شرق سوريا.

يقبعن أسيرات منذ ما يزيد عن شهر بهذا المخيم الذي تحوّل إلى خلافة نسائية مُصغّرة لهن حيث، وعلى غرار ما يحدث في صفوف مجاهدي "داعش" من الرجال، تحاول الجهاديات الأكثر تطرّفاً بسط سيطرتهنّ. يعشن على أطراف المخيم. يمكن بالكاد وسط عشرات الآلاف من الملابس الداكنة رؤية امرأة ترتدي ملابس ملوّنة أو لا تضع النقاب. تقول جيلان وهي من جزر ترينيداد "أصبحت الآن من الكفار لأنّني ارتدي الحجاب فقط"، بينما تكشف لنا عن آثار كدمات وسحجات ناتجة عن ضربات وعقاب الجهاديات الأجنبيات الأكثر تشدّداً. تحتجز بعض عناصر الميليشيات الكردية اللاتي يرتدين الحجاب الملوّن الجهاديات الأجنبيات اللواتي يوجّهن لهنّ السباب أو يرشقونهنّ بالحجارة من الجانب الآخر من السور مع كلمة "عسكري". تقول إحدى المقاتلات الكرديات "حين كانت شقيقاتنا في الجانب الآخر بمخيماتهم وسجونهم، قطع أزواجهنّ رقابهنّ واغتصبوهنّ. ثم يتعيّن علينا الآن تحمّلهنّ"، وهي واحدة من 17 ألف امرأة مقاتلة في الميليشيات المتحالفة خلال المعركة الأخيرة مع تنظيم "داعش" في شمال سوريا.

جيلان: أصبحت من الكفار لأنّني ارتدي الحجاب فقط، بينما تكشف عن آثار كدمات ناتجة عن ضربات الجهاديات الأكثر تشدّداً

يرتفع عدد الأجنبيات إلى 10 آلاف امرأة محتجزات برفقة أبنائهن في أحد المخيمات المحاطة بالأسوار والذي تبلغ نسبة القصّر فيه 65%. تحمل باقي المعتقلات الجنسيتين السورية والعراقية. ومثلما فعل أزواجهنّ أثناء وجود الخلافة، يتحرّكن في جماعات طبقاً لجنسياتهنّ، لكن أعنفهنّ هن التونسيات. تحذّرنا واحدة من الحارسات على إحدى بوابات المخيّم "تخاطرون إذا دخلتم بتعرّضكم لضربة أو طعنة بسلاح أبيض". أرسلت الميليشيات تعزيزات جديدة إلى المخيّم لاحتواء ما يُعتقد أنّه موجة ضغط على وشك الانفجار. تقول جهادية بلجيكية رفضت الكشف عن هويتها "بدأوا في نقل الأوروبيات إلى مخيم روج (أحد ثلاثة مخيمات) لوجود قدر أقل من العنف هناك وكي تتركنا المغربيات والكازاخيات وشأننا".

يقول أحد عناصر الميليشيات "سلّم الجهاديون أنفسهم أو لقوا حتفهم في الباغوز، لكن هؤلاء النسوة لم يستسلمن"، بينما يغطّي وجهه بقناع دون أن يبعد أصابعه عن زناد بندقيته، مضيفاً "غادرن فحسب الباغوز لأنّ أميرهم (أبو بكر البغدادي) طلب إليهم ذلك". قبلها بـ10 أيام اضطرت قوات الأمن الكردية لاستخدام الأعيرة النارية لردع تمرّد للمتطرفات، ما أسفر عن مصرع جهادية وإصابة ثمانٍ أخريات. وإضافة إلى العنف، تبرز الظروف غير الصحية التي يعيشها المكان، وفقاً لما حذّرت منه منظمة الأمم المتحدة.

اقرأ أيضاً: التقليد الديني.. الجهاديات والتطرف

يعيش بالمخيم كذلك مرضى ومصابون جراء المعارك يعانون سوء التغذية على خلفية عدم توافر المواد الغذائية، توفّي 126 طفلًا في الأشهر الثلاثة الأخيرة. من إجمالي 40 ألف طفل في المخيّم، وُلد أكثر من نصفهم بلا جنسية خلال الأعوام الخمسة من عمر الخلافة. يصطف عدد كبير من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ستة و12 عاماً بين البوابات ليزاولوا تهريب المواد الغذائية بين أرجاء المخيمات. وصل 350 على الأقل منهم بلا مرافقين، بحسب الأمم المتحدة. يجرّون عربات يد تابعة للمنظمة الدولية تحمل مواد منهوبة من مكان غير معلوم. على متن إحدى هذه العربات يعثر فرد من الميليشيات على جعة خالية من الكحول يستعرضها بطريقة هازئة تحت بصر النسوة المتكدّسات خلف الأسلاك الشائكة.

اقرأ أيضاً: التنظيمات الجهادية في المغرب العربي.. صراع محتدم

تؤكّد الشابات الإسبانيات أنّه لا وجود لأخريات من بلادهنّ في المخيم وأنّ أياً من ممثلي الحكومة الإسبانية لم يتواصل معهم. بل أنّ إدارة مخيم الهول لا تعلم من الأساس بوجود ثلاث إسبانيات، حسبما كشف المسؤول عن المخيم لصحيفة "الباييس". طالبت الميليشيات الكردية المتحالفة مع التحالف الدولي البلدان التي وفد منها الجهاديون بأن تتولّى مسؤولية مواطنيها. الجدل الذي تخوضه حالياً إسبانيا التي تهتمّ باستعادة مواطنيها.

اقرأ أيضاً: الحركات الجهادية في إفريقيا... تحالف وتقاتل وعنف

ومن بين ألف و200 امرأة وطفل أوروبي تقريباً "استعادت فرنسا أربعة قصّر فحسب"، حسبما أوضح المسؤول عن مخيّم الهول. ومن أجل العثور على الإسبانيات الثلاث ينبغي الولوج إلى الركن الأخير من المخيّم، حيث تقبع الأجنبيات والأكثر تشدّداً من السوريات والعراقيات. يستقبلن الزوار بوابل من الحجارة والسباب والدفع. "لا قبل لنا بهنّ، لكنّنا أتينا في نهاية المطاف إلى الدولة الإسلامية لأنّنا أردنا ذلك"، حسبما تعترف رشيدة، وهي فرنسية عمرها 34 عاماً والتي تكفّلت بلعب دور المرشدة لنا حتى نصل إلى الإسبانيات.

لبنى ميلودي
1. الوصول إلى الخلافة
"لم أكن لأذهب مطلقًا إلى سوريا بمحض إرادتي"

لبنى ميلودي

"ما الغرض وراء بحثكم عن الإسبانيات؟ هل ستخرجوننا؟"، تتساءل بنبرة متشككة خائفة وبلغة عربية بينما نسير وسط كتل من السواد. تكرّر بعينين جاحظتين وأنفاس متقطّعة السؤال لبنى ميلودي، الإسبانية البالغة من العمر 40 عاماً والمولودة في الرباط وهي أمّ لثلاثة أبناء. لا تزال علامات الصدمة ظاهرة عليها بعد أن نجت من أسابيع من القصف والمعارك في الباغوز، آخر معاقل الخلافة في شرق سوريا، تختنق الكلمات في حلقها لدى محاولتها الحديث وتتأرجح بين سرد الماضي والحاضر.

اقرأ أيضاً: النسائية الجهادية.. هل هي حقاً ظاهرة عابرة؟

كانت أول من ترمّلت بين الإسبانيات الثلاث العالقات بمخيم الهول، الذي تُحتجز فيه زوجات وأبناء جهاديي تنظيم داعش. ومثل "أخواتها في الدين"، تقول إنّها وصلت إلى سوريا بخدعة من زوجها، الجهادي وهو إسباني من أصول مغربية أيضاً، وفقاً لروايتها. تضيف بعصبية "أبلغوني قبل عامين ونصف أنّ زوجي شهيد لكنّني لم أر صوراً ولا جثمانه". عرض عليها زوجها في 2014 القيام برحلة إلى تركيا، وهو الاقتراح الذي استقبلته بقدر كبير من الحماس، فهذه البلاد تروق لها كثيراً.

تردّد ميلودي عند هذا الحد نفس الرواية التي تقصّها زميلاتها: أنّه وبغتة وبلا سابق إخطار، كشف لها زوجها أنّه في أراضي الخلافة. تؤكّد "لم أكن لأذهب قط بمحض إرادتي لأنّني كنت على علم بعد مشاهدتي للتلفاز بوجود حرب هناك". عاشت في مدريد وكانت ترتاد "بين الحين والآخر" مسجد 30-إم (المركز الثقافي الإسلامي) لأداء صلاة الجمعة، وقالت إنّها قبل زواجها كان لديها عمل بإحدى الصيدليات. وعلى عكس زميلاتها في الخيمة، تؤكّد أنّها رغم ولادتها في كنف أسرة مسلمة، إلّا أنّها لم يسبق لها ارتداء النقاب حتى لحاقها بالخلافة. أمّا مسألة نزع النقاب داخل المخيم فلن تعني سوى شيء واحد: الضرب من قبل الجهاديات الأكثر تطرّفاً. انخرطت أغلب هاته المتشدّدات في صفوف ما يعرف باسم (كتيبة الخنساء).. شرطة "داعش" النسائية التي تجول بالطرقات لردع النساء اللاتي لا يلتزمن بالقيود الصارمة على الملابس ومعاقبة من تخالفنها.

اقرأ أيضاً: كيف وظفت السلفية الجهادية مفهوم الطاغوت في القرآن الكريم؟

قبل أن يقترح عليها السفر إلى تركيا، كان زوج ميلودي قد أسرّ إليها برغبته في الانتقال إلى موريتانيا "لدراسة القرآن"، تعاني موريتانيا من الإرهاب. وتروي المرأة بمزيج من اللغتين الإسبانية والعربية "فوجئت أسرتي والشرطة في إسبانيا للغاية بانضمام زوجي إلى تنظيم الدولة الإسلامية، فقد كان يمتلك كل شيء: المال والأسرة والعمل. كان مهندساً"، كاشفة "من يذهب للقتال يختفي قرابة أسبوعين كي يحصل على التدريب ثم لا يمكن رؤيته مجدّداً لأنّه يموت شهيداً". بنظر ميلودي، كان زوجها "موظّفاً عادياً" كان يشغل "منصباً إدارياً" في "داعش".

وصلت ميلودي إلى الخلافة عبر الرقة، حيث انضمّت جميع عائلات الأجانب الذين توجّهوا إلى الخلافة المزعومة ليكونوا تحت إمرة أبو بكر البغدادي، امتدّت هذه الخلافة على مساحة 100 ألف متر مربع بين الأراضي السورية والعراقية. فور دخولهم إلى سوريا، كانت النساء وأبناؤهن يتعرّضون للفصل عن الجهاديين. تقول الإسبانية "وصلنا وجاؤوا لاصطحاب زوجي دون أن ينبسوا ببنت شفة، ثم أنّهم أودعوني وأبنائي بمضيفة".

اقرأ أيضاً: الجماعات الجهادية...هل هي شكل جديد للاستعمار؟

واتّباعاً لنظام الخلافة، ظلّت النساء بهذه المضيفة لمدة شهر، فيما كان أزواجهنّ يحصلون في أماكن أخرى على التلقين منتظرين مصيراً، منصب ومنزل في الخلافة. تشدّد ميلودي أنّها لم تسمع أي شيء يتردّد أو ترى النساء الأيزيديات، اللواتي تعرضن للاختطاف والاستعباد على يد الجهاديين، وما تزال ثلاثة آلاف منهنّ في عداد المفقودين بعد سقوط الخلافة. وتضيف "بعد شهر بلا أي أنباء عنه، عاد زوجي وأخبرني أنّنا ذاهبون إلى ريف حلب (حيث كان التنظيم الجهادي نشطاً هناك)".
وفي نفس اليوم الذي أبلغوها فيه بوفاة زوجها، أكّدت ميلودي أنّها تواصلت مع حماتها في محاولة للخروج من هناك. حيث تقول "طلبت إليها أن تبعث إلي بـ20 ألف دولار كي يخرجنا أحد المهرّبين، لكنّها لم تفعل". وطوال الأعوام الأخيرة أصبحت "أرملة أحد شهداء داعش" وظلّت ترتحل وراء فلول الخلافة حتى آخر معاقلها في الباغوز بسوريا. عاشت في حالة دائمة من الخوف خشية تعرّضها لانتهاكات من قبل الرجال "خاصة في الباغوز"، رغم تأكيدها أنّهم لم يزوّجوها لمجاهد آخر كما جرت العادة مع أرملات "داعش".

اقرأ أيضاً: الجهادية.. حين يلتقي الدين بالسياسة

تختتم "كل شيء مرعب، سوريا وهذا المخيم... ليس مكاناً للأطفال". تتعلّق على حد قولها بأمل أن ينير الله لها طريقاً للخروج من المخيم "مثلما حدث وأخرجونا على قيد الحياة من الباغوز".. تكرّر "أريد العودة"، دون أن تحدد ما إذا كان إلى إسبانيا أم المغرب. تبدو عليها الحيرة، تتواصل مع حماتها من جديد كي ترسل لها المال وبالتالي تتمكّن من الخروج من سوريا عبر الاستعانة بخدمات مهرّب، دون أن تدرك ربما أن عناصر الميليشيات الكردية المسلحة هم الذين يتولّون مسؤولية مخيم الهول. لكنّها تتمسّك بقولها "عائلتي لم تكن على علم بأي شيء. أقسم بالله. لا تعرف شيئاً حتى أنّ زوجي قد مات. أنا بحاجة للخروج من هنا!".

يولاندا مارتينيث
2. الحياة اليومية في الخلافة

يولاندا مارتينيث
أن تنشأ "كمسلمة وأرعى أسرتي" كانت هذه هي جرائم يولاندا مارتينيث، الإسبانية المتحولة للإسلام والمواطنة في "داعش" خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. بأحد الأركان من مخيم الهول والمجهّزة لهذه المقابلة، تكشف الفتاة الشابة البالغة من العمر 34 عاماً كيف أنّها عاشت حياة مسالمة في كنف الخلافة. بصوت هادئ تقول "حين كان يصل زوجي المنزل، بحمد الله، كانت مائدة الطعام جاهزة والأطفال مهندمين". أمام الفتحة الموجودة في نقابها تقف عدسات نظارة مستطيلة الشكل تخفي وراءها عينين صافيتين. وتختبئ أسفل عباءتها يدان شاحبتان تستخدمهما أثناء حديثها. تستطرد "وصلت دون أعرف ذلك. لكنّني كنت مسرورة للغاية لأنّ زوجي وعدني برحلة إلى تركيا، ابتعنا تذاكر الذهاب والعودة من المغرب". إلّا أنّ الزوج وهو إسباني من أصول مغربية أيضاً كان يحتفظ بخطط أخرى بالنسبة للعائلة. فبعد قليل من الوصول إلى اسطنبول، توجّهوا لمدينة في جنوب تركيا على الحدود مع سوريا. وبعد هبوط الظلام عبروا على متن سيارة إلى أراضي الخلافة.

اقرأ أيضاً: كيف تجنّد الجماعات الجهادية الإرهابية الشباب؟

وُلدت مارتينيث بحي سالامانكا في العاصمة الإسبانية مدريد، حصلت على درجة البكالوريا في الفنون. كانت ترغب في أن تصبح رسامة. عثرت في البداية على عمل بمجال الدعاية والإعلان ثم موظفة بسلسلة متاجر (الكورتي إنجليس) واسعة الانتشار حتى زواجها عندما أتمّت الـ22 من العمر بالشخص الذي سيصبح لاحقاً والد أبنائها الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين أربعة أشهر و10 أعوام. تتذكّر "لطالما كنت أنا البطة السوداء بين أسرتي وحين عرّفني زوجي على الإسلام انتبهت إلى أنّني كنت أحمل الدين بداخلي"، حينها قرّرت بملء إرادتها ارتداء النقاب. تسبّب ذلك اللباس في جذب الأنظار لها في إسبانيا بالشارع والأماكن العامة، لذا فقد شعرت بسعادة غامرة حين انتقلت الأسرة للمغرب "دولة إسلامية حيث لا يلفت ارتداء النقاب الكثير من النظرات".

اقرأ أيضاً: السلفية الجهادية في الأردن.. منظّرون وتنظيمات

كان زوج يولاندا، عمر الحارشي، يعمل كعامل جصّ، لكن وبسبب الأزمة الاقتصادية اضطر الاثنان لقضاء فترات طويلة بمنزل والدي يولاندا. تقصّ المرأة "والدي ذكوري جداً ولم يكن موافقاً على مسألة اعتناقي للإسلام ولا أي شيء، لذا كان الوضع متوتّراً للغاية". وبعد فترة إقامة بالمغرب، والتي ذهبا منها عدة مرات إلى سبتة، مسقط رأس الحارشي، سافرا إلى تركيا في أيار (مايو) 2014. ولدى دخولهما الأراضي السورية، نزحت الأسرة إلى الشدادي، وهي مدينة صغيرة تقع على نهر الفرات وإحدى المناطق المحافظة في الشمال الشرقي السوري. تضيف "منحونا منزلاً ولزوجي عملاً بمحكمة تنظيم داعش، في قسم المراسلات. في النهاية أصبح وضعنا المادي مستقراً".

اقرأ أيضاً: الحواضن "الجهادية" في الدولة الفاشلة.. والجيل الرابع من الحروب

نقول مارتينيث إنّها طوال خمسة أعوام من الحياة بين أرجاء التنظيم  لم تشهد ولو عملية بتر رأس أحدهم أو إعدام علني "كنت اهتمّ فقط برعاية منزلي وأبنائي، لم أخرج قط كما أنّني لا أتحدّث العربية، لكنّني تمكّنت من العيش وفقاً لمبادئ الإسلام". لم يكن لديها جهاز تلفاز كذلك لأنّها محرّمة في الأراضي التي يسيطر عليها الجهاديون. وتدافع عن زوجها وأنّه لم يقاتل مطلقاً "كيف إذًا كان يذهب للقتال إذا كان يخرج كل يوم في الصباح الباكر إلى العمل ثم يعود في المساء إلى المنزل؟" إلّا أنّه ووفقاً للحكم الصادر من المحكمة الوطنية الإسبانية في 2014، فإنّ زوجها يعدّ "قيادي عملياتي" لخلية تجنيد جهاديين من مسجد (إم-30) في مدريد "كان يلعب دوراً تنفيذياً في التنظيم، باعتباره الشخص المسؤول عن كيفية وتوقيت سفر أعضاء الخلية". كانت مارتينيث تتوجّه كل جمعة برفقة إسبانيات متحولات أخريات لحضور الصلاة بنفس المسجد.
في المعارك الأخيرة بين الميليشيات الكردية العربية الحليفة للتحالف الدولي وبقايا عناصر تنظيم داعش بمنطقة الباغوز السورية، سلّم الحارشي نفسه في الأول من آذار (مارس) الماضي مع أسرته. وعلى حد تعبير زوجته، فقد كان محبطاً بشدة من أفراد التنظيم الذين خانوا بـ"أخطائهم وسوء تصرّفهم" الخلافة والمؤمنين الأوفياء مثلهم. أودع الحارشي السجن ونُقلت مارتينيث إلى مخيم إيواء برفقة أبنائها. تختتم حديثها بـ"لم أفعل شيئاً. لو كان القضاء عادلاً في إسبانيا لماذا إذًا سيزجّون في السجن بامرأة عانت لهذا الحد وظلّت بالمنزل مع أطفالها؟".

لونا فرنانديث
3. السقوط
"الباغوز كانت جحيماً"

لونا فرنانديث

من وراء ثقبين صغيرين في نقابها، تروي لونا فرنانديث كيف أنّ رحلتها من أجل الوصول إلى الخلافة كانت حافلة بالمشاق، عينان لامرأة في الـ32 من عمرها لكنّها تبدو كما لو كانت قد تجاوزت الـ50. تتجوّل بين أرجاء الركن الأخير من مخيم الهول حيث تُحتجز، من أسفل عبائتها يُلحظ بروز بطنها. "أنا حامل في الشهر الخامس... حسناً اعتقد أنّه الخامس أو السادس، لا أعلم لم أر طبيباً بعد". وصلت الخلافة عن طريق زوجها وبرفقة طفلين قبل أن تغادر الباغوز أرملة، لكن معها ثمانية أطفال منهم أربعة هم أبناؤها وتنتظر مولوداً خامساً.

اقرأ أيضاً: الحركات الجهادية في شرق أفريقيا.. شريعة مقديشيو الدمويّة

تعرّفت إلى زوجها، محمد الأمين، المغربي المقيم في إسبانيا، حين كان عمرها 16 عاماً. "علّمني أنّ الإسلام هو الحق وتحوّلت له". بعد أن وصلت السنّ القانوني تزوّجا وبعد 14 عاماً من الزواج تركها أرملة قبل ثلاثة أشهر في الباغوز. "ذهب ورجال آخرون إلى أحد المنازل وهناك طالتهم قذيفة هاون". بعدها بأسبوعين، لقى زوجان مغربيان مقيمان في إسبانيا- هنا ومحمد سلمان- مصرعهما أثناء المواجهات تاركين أربعة أطفال أيتام. قرّرت فرنانديث أن تتكفّل بهم كي "تجلبهم إلى جدتهم التي تعيش في إسبانيا". ومع تقدّم الميليشيات الكردية العربية، تواصل الشابة والأطفال بحوزتها المسيرة بمساعدة إسبانية متحوّلة أخرى هي يولاندا مارتينيث وزوجها. وبحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة فقد وصل 350 قاصراً بلا مرافقين إلى مخيم الهول.

اقرأ أيضاً: أساليب التجنيد عند الجماعات الجهادية الإرهابية

وبعصبية تنعكس في رجفة يديها تقول "كانت الباغوز هي تجسيد للجحيم. شعرت بقدر لا يوصف من الرعب". حفر الجهاديون خنادق وأخفوها بأغطية لحماية أنفسهم، بينما تركت فرنانديث والأطفال الثمانية وحدهم تتطاير حول رؤوسهم القذائف وتمر بجوارهم الأعيرة النارية ذات الصفير المخيف. حصلوا بالكاد على علبة من الصفيح تحوي السردين للأسرة الواحدة كل ثلاثة أيام. تعود لتصب جام غضبها على طائرات التحالف "هذه حرب بين الرجال، ليس لنا دخل نحن النساء والأطفال بهذا الشأن". إلّا أن الصوت المرتفع يختفي تماماً حين تصمت لدى سؤالها عن شريعة الخلافة. تتكلّم أخيرًا قائلة ... مدافعة عن زوجها وأنّه لم يرفع سلاحاً قط حيث تبرز "كان فقط موظفاً ببيت المال. كان زوجي رجلاً صالحاً وموضع ثقة، لذا منحوه هذا المنصب" ولم يكن مقاتلاً.

تعترف فرنانديث بارتكاب التنظيم كذلك لـ"أشياء سيئة" مثل هؤلاء المقاتلين الذين "يدّعون كونهم مسلمين وتسول لهم أنفسهم السرقة وتعذيب الأبرياء". أو هؤلاء النساء الوافدات من كازاخستان و"كل تلك الدول التي تنتهي بـ"تان"، كنّ عدوانيات للغاية معها خلال فترة الخلافة وحتى اليوم يواصلن الاتصاف بنفس السلوك أثناء احتجازهن بالمخيم. تضيف "شهدت بنفسي كيف وجّهت إحداهن لكمة مباشرة إلى أنف أخرى ذلك اليوم، حين كنّا واقفات في الصف للذهاب إلى السوق". لم يسبق لفرنانديث العمل أبداً، ولأنّها تزوّجت في سن مبكّرة للغاية فلم تلتحق بالتعليم الثانوي الإلزامي، حسبما تؤكّد.

تعلو وجهها الدهشة حين تسمع كلمات مثل "محاكمة"، تردّ: لم آت إلى هنا بمحض إرادتي، بل جلبوني

تشير إلى أنّه لم تعد لها عائلة في إسبانيا باستثناء أسرة زوجها. "والدي مغربي، لكنّه هجرنا حين كنت في الرابعة من عمري وترعرعت بمركز إيواء في إقليم مدريد". أما والدتها وهي من العاصمة الإسبانية، فتقول فرنانديث أنّها لم ترها منذ العام 2013 حين سافرت مع زوجها وابنيهما إلى مصر حيث قضوا عاماً بها. وهناك أنجبت طفلة ثالثة، مريم، التي توفّيت بعد وقت قليل من ولادتها لأنّهم عجزوا عن "سداد تكلفة عملية جراحية في القلب".

وفي العام 2014، اقترح عليها زوجها الارتحال إلى "مدينة في جنوب تركيا حيث يمكن للمسلمين العيش بصورة كريمة وغير مكلّفة ماديًا كذلك". ومن هنا تروي الشابة كيف أنّها كانت تعدو بين الأشجار حتى توقّفوا فجأة وهنا "قال لي زوجي أنتِ في سوريا". لم يكن أبو بكر البغدادي قد أعلن في ذلك التوقيت قيام خلافته، لكن حين فعل ذلك، انتقلت فرنانديث وأسرتها إلى منطقة آبار بترول بالقرب من الضفة الشرقية جهة الجنوب من نهر الفرات.

وفي حالة من الصدمة لا تزال تكسو ملامحها تجدد طلبها "أريد الرحيل عن هنا برفقة أبنائي في سلام وكمسلمة صالحة"، تعلو وجهها أمارات الدهشة حين تسمع كلمات مثل "منظمة إرهابية" أو محاكمة"، تردّ على نحو قاطع "لم آت إلى هنا بمحض إرادتي، بل جلبوني". مؤكّدة أنّ زوجها جلبها بحسن نية، لكن بعد الدخول، كان ترك الخلافة يتضمّن دائماً التخلّي عن أطفالها. كانت أول إسبانية تنجح في مغادرة آخر معاقل الجهاديين لتصبح تحت تصرف الميليشيات الجهادية. فعلت ذلك منذ خمسة أسابيع في الباغوز بصفتها "أرملة شهيد ومسؤولة عن أيتام آخرين". انتقلت من آخر جيوب المقاومة الجهادية للعيش بخيمة في مخيّم آخر، لكن كمحتجزة هذه المرة برفقة آخر الناجين من شعب الخلافة.

المصدر: تقرير للصحفية ناتاليا سانشا نشر بصحيفة "الباييس" الإسبانية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية