مسلمو الصين: رموز على الشاشة أرقام في المعسكرات

مسلمو الصين: رموز على الشاشة أرقام في المعسكرات


18/04/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


في منتصف عام 2017، عاد عالِم، وهو رجل إيغوريّ في العشرينيّات من عمره، إلى الصّين من الدّراسة في الخارج. وبمجرد هبوطه أرض البلاد، قام رجال الشّرطة بسحبه من الطّائرة. قيل له إنّ رحلته إلى الخارج تعني أنّه الآن موضع شكّ بأنّه "غير آمن". وهكذا أجرت الشّرطة ما يسمّونه "الفحص الصّحيّ"، والّذي تضمّن جمع عدّة أنواع من البيانات البيومتريّة (القياسات الحيويّة)، بما في ذلك الحمض النّوويّ وفصيلة الدّم وبصمات الأصابع وتسجيلات الصّوت ومسح الوجه - وهي عمليّة من المتوقّع أن يخضع لها جميع البالغين في منطقة شينغيانغ الإيغوريّة ذاتيّة الحكم، في شمال غرب الصّين.

اقرأ أيضاً: تقرير: الصين تسعى لطمس هوية الإيغور
وبعد خضوعه "للفحص الصّحيّ"، نُقل عالِم إلى واحدٍ من مئات مراكز الاحتجاز الّتي تنتشر في شمال غرب الصّين. وقد أصبحت هذه المراكز جزءاً مهمًّا ممّا تسمّيه حكومة شي جين بينغ "حرب الشّعب على الإرهاب"، وهي حملة أُطلِقَت عام 2014، وتركّز على شينغيانغ، وهي منطقة يبلغ عدد سكّانها حوالي 25 مليون شخص، أقلّ بقليل من نصفهم من الإيغور المسلمين. وكجزءٍ من هذه الحملة، تعاطت الحكومة الصّينيّة مع كلّ تعبيرات الإيمان الإيغوريّ بالإسلام - تقريباً - على أنّها علامات على تطرّف دينيّ محتمل وانفصاليّة عرقيّة. ومنذ عام 2017 وحده، تنقّل أكثر من مليون مسلم تركيّ، من بينهم إيغوريّون وكازاخستانيّون وقرغيزيّون وغيرهم، عبر مراكز الاحتجاز.

الشرطة في دورية في كاشغار، في منطقة شينجيانغ
وفي مركز الاحتجاز، حُرِم عالِم من النّوم والطّعام، وتعرّض لساعاتٍ من الاستجواب والاعتداء الّلفظيّ. وقد ذكر في حديثه إليّ: "لقد أُضعِفت بشدّة خلال هذه العمليّة لدرجة أنّني بدأت أضحك بطريقة هستيريّة في مرحلة ما أثناء استجوابي". وذكر معتقلون آخرون أنّهم ثُبّتوا في أوضاع مُجهِدة وتعرّضوا للتّعذيب بالصّدمات الكهربائيّة واحتُجِزوا في عزلة لفترات طويلة. وفي الأوقات الّتي لم يخضع فيها للاستجواب، احتُجِز عالِم في زنزانة صغيرة مع 20 رجلاً آخر من الإيغور.

تحاول هذه المعسكرات، الّتي تعمل بمثابة سجون متوسّطة الأمن، تدريب الإيغور على نبذ هويّتهم الإسلاميّة واحتضان المبادئ العلمانيّة للصين

هذا، وقد أُلقي القبض على العديد من المحتجزين لارتكابهم ما يُعتَقد أنّها مخالفات دينيّة وسياسيّة عبر تطبيقات وسائل التّواصل الاجتماعيّ الموجودة على هواتفهم الذّكيّة، والّتي يُطلب من الإيغور إخراجها عند نقاط التّفتيش حول شينغيانغ. وبالرّغم من عدم وجود دليل حقيقيّ على ارتكاب أيّ جريمة وفقاً لأيّ معيار قانونيّ، فإنّ البصمة الرّقميّة لممارسات إسلاميّة غير مصرّح بها، أو حتّى الاتّصال بشخصٍ ارتكب أحد هذه الانتهاكات الغامضة، كانت كافية لوضع الإيغوريّين في مراكز الاحتجاز. ومجرّد وجود فرد من العائلة في الخارج، أو السّفر خارج الصّين، كما فعل عالِم، غالباً ما يؤدّي إلى الاحتجاز.
ومعظم الإيغور الموجودين في مراكز الاحتجاز في طريقهم إلى قضاء عقوبات بالسّجن لفترات طويلة، أو إلى أجل غير مسمّى في شبكة متنامية من معسكرات الاعتقال وصفتها الدّولة الصّينيّة بأنّها مرافِق "للتّحول من خلال التّعليم". وتحاول هذه المعسكرات، الّتي تعمل بمثابة سجون متوسّطة الأمن، وفي بعض الحالات، مصانع تقوم على السّخرة، تدريب الإيغور على نبذ هويّتهم الإسلاميّة واحتضان المبادئ العلمانيّة للدّولة الصّينيّة. وفيها يُحظَر استخدام لغة الإيغور وتقدّم بدلاً منها تدريبات على الماندرين، وهي لغة الهان، المجموعة الإثنيّة الّتي تحظى بالأغلبيّة في الصّين. وقد أُطلِق فقط سراح عدد قليل من المحتجزين من غير المواطنين الصّينيّين من نظام "إعادة التّعليم" هذا.

اقرأ أيضاً: ما هي أقلية الإيغور المسلمة التي تحتجز السلطات الصينية مليون شخص منها؟
على أنّ عالِم كان محظوظاً نسبيّاً: فقد أُطلِق سراحه بعد أسبوعين فقط. (وعَلِم فيما بعد أنّ أحد أقاربه قد تدخّل في قضيّته). لكن بعد بضعة أسابيع، عندما ذهب للقاء صديقٍ لتناول الغداء في مركز تجاريّ في مدينته الأصليّة، تعرّض لصدمة أخرى. فعند نقطة تفتيش أمنيّة عند مدخل المركز التّجاريّ، قام عالِم بمسح الصّورة الموجودة على بطاقة هويّته الصّادرة عن الحكومة، وقدّم نفسه أمام كاميرا أمنيّة مزوّدة ببرنامج للتّعرف على الوجوه. وبدا ناقوس الخطر. فقد سمح له حرّاس الأمن بالمرور، لكن في غضون بضع دقائق اقترب منه ضبّاط الشّرطة، ثمّ أخذوه إلى الحجز.
عرف عالِم بأنّه قد وُضِع على قائمة سوداء تحتفظ بها "منصّة العمليّات المشتركة المتكاملة"، وهي عبارة عن نظام بيانات إقليميّ يستخدم الذّكاء الصّناعيّ لرصد نقاط التّفتيش الّتي لا تُعدّ ولا تحصى في مدن شينغيانغ وحولها. وأيّ محاولة لدخول مؤسّسات عامّة مثل المستشفيات أو البنوك أو الحدائق العامّة أو مراكز التّسوّق، أو عبور حدود منطقة قسم الشّرطة المحليّ، من شأنها أن تدفع منصّة العمليّات المشتركة المتكاملة لتنبيه الشّرطة. وكان النّظام التّقنيّ هذا قد وصفه وتنبّأ بأنّه إرهابيّ محتمل.
لم يكن أمام عالِم الكثير ليفعله. أخبره الضّبّاط بأنّه يجب عليه "البقاء في البيت" إذا أراد تجنّب الاحتجاز مرّة أخرى. وبالرّغم من أنّه كان حرّاً بصفة رسميّة، فإنّ القياسات الحيويّة الخاصّة بعالِم وتاريخه الرّقميّ قد استخدموا لتثبيته في مكانه. يقول لي: "إنّني غاضب جدّاً وخائف في الوقت نفسه". لقد أصبح مُطارداً من بياناته.

يُحظَر استخدام لغة الإيغور وتقدّم بدلاً منها تدريبات على الماندرين

الأمن التّكنولوجيّ في صورته القصوى
تعتمد نسخة الصّين من "الحرب على الإرهاب" على برامج التّعرف على الوجه وخوارزميات التّعلم الآليّ بشكل أكبر من اعتمادها على الطّائرات بدون طيّار والغارات الجويّة الّتي تقوم بها القوّات العسكريّة النّخبويّة. وهي لا تستهدف الأجانب بل مجموعاتٍ من الأقلّيّات المحلّيّة يُعتقد أنّها تهدّد الحكم السّلطويّ للحزب الشّيوعيّ الصّينيّ. وفي شينغيانغ، تمتدّ شبكة المراقبة من الكاميرات الموجودة على المباني، إلى الرّقائق الموجودة داخل الأجهزة المحمولة، إلى المظهر الخارجيّ للإيغور. فماسحات الوجه ونقاط التّفتيش البيومتريّة تتبّع تحرّكاتهم في كلّ مكان تقريباً.

يُحظَر استخدام لغة الإيغور وتقدّم بدلاً منها تدريبات على الماندرين، وهي لغة الهان، المجموعة الإثنيّة الّتي تحظى بالأغلبيّة بالصّين

وتقوم برامج أخرى بفحص الاتّصالات الرّقميّة للإيغور، والبحث عن الأنماط المشبوهة، والإشارة إلى الكلام الدّينيّ أو حتّى عدم وجود حماسةٍ في استخدام لغة الماندرين. وتبحث أنظمة "التّعلّم العميق" في الوقت الحاليّ في خلاصات الفيديو الّتي تلتقط صوراً لملايين الوجوه، وذلك من أجل بناء أرشيف يمكن أن يُساعد على تحديد السّلوك المشبوه، من أجل التّنبؤ بمن سيصبح فاعلاً "غير آمن". وتشمل الأفعال الّتي يمكن أن تُثير تقنيات "رؤية الكمبيوتر" هذه ارتداء الأزياء الإسلاميّة وعدم حضور المراسم الوطنيّة لرفع العلم. ويتمّ تجميع كلّ هذه الأنظمة التّكنولوجيّة في منصّة العمليّات المشتركة المتكاملة، الّتي تُحاط باستمرار بسلوكيّات الإيغور الّذين تراقبهم.
وفي دراستها الأخيرة حول صعود "رأسماليّة المراقبة"، تشير  شوشانا زوبوف، وهي باحثة من جامعة هارفارد، إلى أنّ المستهلكين يولّدون باستمرار بيانات قيّمة يمكن تحويلها إلى تنبّؤات مُربِحة حول تفضيلاتنا وسلوكيّاتنا المستقبليّة. وفي منطقة الإيغور، أُخذ هذا المنطق إلى أقصاه. إنّ القوّة - والرّبحيّة المحتملة - للتّكنولوجيّات التّنبؤيّة الّتي تدّعي الحفاظ على شينغيانغ آمنةً تنبع من وصولها غير المقيّد لحياة الإيغور الرّقميّة وحركاتهم الجسدّية. ومن وجهة نظر المؤسّسة الأمنيّة الصّناعيّة في الصّين، فإنّ الغرض الرّئيس من حياة الإيغور هو توليد البيانات الّتي يمكن استخدامها بعد ذلك لتحسين أنظمة المراقبة والتّحكّم هذه.

اقرأ أيضاً: كيف توظف تركيا قومية الإيغور في حساباتها السياسية؟
أيضاً، أصبحت السّيطرة على الإيغور بمثابة اختبار لتسويق البراعة التّكنولوجيّة الصّينيّة في جميع أنحاء العالم. وتشارك الآن مئة وكالة وشركة حكوميّة من أكثر من عشرين دولة، بما في ذلك الولايات المتّحدة وفرنسا وإسرائيل والفلبّين، في معرض الأمن الصّينيّ-الأوروبيّ-الآسيويّ السّنويّ في أورومتشي، عاصمة منطقة الإيغور. وتتمثّل الرّوح الموجودة في المعرض، وفي صناعة الأمن التّكنولوجيّ الصّينيّة ككلّ، في أنّ السّكان المسلمين يحتاجون إلى الإدارة وإلى أن يكونوا مُنتِجين. وخلال الأعوام الخمسة الماضية، سمحت حرب الشّعب على الإرهاب لعدد من الشّركات النّاشئة في مجال التّكنولوجيا في الصّين بتحقيق مستويات نموّ غير مسبوقة. ففي العامين الماضيين فقط، استثمرت الدّولة ما يقدّر بنحو 7.2 مليار دولار في مجال الأمن التّقنيّ في شينغيانغ. وعلى حدّ تعبير متحدّث باسم إحدى هذه الشّركات النّاشئة في مجال التّكنولوجيا، فإنّ 60 في المئة من الدّول ذات الأغلبيّة المسلمة في العالم تُعدّ جزءاً من مشروع التّنمية الدّوليّة الأوّل في الصّين، "مبادرة الحزام والطّريق"، ولذلك هناك "إمكانات سوقيّة غير محدودة" لتكنولوجيا التّحكم بالسّكان الّتي يطورونها في شينغيانغ.

اقرأ أيضاً: العيون الإلكترونية تلاحق المواطنين في الصين
وقد وجدت بعض التّقنيات الرّائدة في شينغيانغ بالفعل عملاء في دول سلطويّة بعيدة مثل إفريقيا جنوب الصّحراء. وفي عام 2018، أنهت كلاودووك، وهي شركة ناشئة للتّكنولوجيا مقرّها قوانغتشو وكانت قد تلقّت أكثر من 301 مليون دولار في شكل تمويل حكوميّ، اتّفاقاً مع حكومة زيمبابوي لبناء "برنامج التّعرف على الوجه بشكل جماعيّ" على المستوى الوطنيّ من أجل معالجة "قضايا الضّمان الاجتماعيّ". (ولم تكشف كلاودووك عن مدى أهميّة الاتّفاق). وستتمّ الآن إدارة حرّيّة التّنقل عبر المطارات والسّكك الحديديّة ومحطات الحافلات في جميع أنحاء زيمبابوي من خلال قاعدة بيانات للوجه متكاملة مع أنواع أخرى من البيانات الحيويّة. وفي الواقع، أصبح وطن الإيغور حاضنة لـ"رأسماليّة الإرهاب" في الصّين.

الصّراع على وسائل التّواصل الاجتماعيّ

كان هناك وقت بدا فيه أنّ الإنترنت يَعد بمستقبلٍ أكثر إشراقاً لإيغور الصّين. فعندما وصلتُ إلى أورومتشي، في عام 2011، مستهلّاً سنتي الأولى من العمل الميدانيّ الإثنوغرافيّ، كانت المنطقة موصولة لتوّها بشبكات الجيل الثّالث المتنقّلة. وعندما عدتُّ، في عام 2014، بدا الأمر كما لو أنّ جميع البالغين في المدينة لديهم هاتف ذكيّ تقريباً. وفجأةً، حظيت الشّخصيّات الثّقافيّة الإيغوريّة الّتي وصفتها الحكومة لاحقاً بأنّها "غير آمنة"، مثل نجم البوب أبلاجان، بأتباع بلغ عددهم الملايين.

طُلِب من جميع الإيغور تثبيت تطبيقات "ناني" لمراقبة كلّ ما يقومون بقوله وكلّ شخص يتّصل بهم على هواتفهم الذّكيّة

والأكثر إثارة للقلق، من وجهة نظر الدّولة، أنّ المعلّمين الدّينيّين الإيغور غير المصرّح لهم المقيمين في الصّين وتركيا قد طوّروا أيضاً تأثيراً عميقاً. ومنذ حركة الإصلاح الدّينيّ الماويّة عام 1958، فرضت الدّولة قيوداً على وصول الإيغور إلى المساجد والممارسات الجنائزيّة الإسلاميّة والمعرفة الدّينيّة وغيرهم من المجتمعات الإسلاميّة. ولم تكن هناك تقريباً أيّ مدارس إسلاميّة خارج سيطرة الحكومة، ولم يكن هناك أيّ أئمة يمارسون عملهم دون موافقة الدّولة. كذلك، يُحظر على الأطفال دون سن 18 عاماً دخول المساجد. ولكن مع انتشارها عبر موطن الإيغور خلال العقد الماضي، فتحَت وسائل التّواصل الاجتماعيّ مساحةً افتراضيّةً لاستكشاف ما يعنيه أن يكون المرء مسلماً. وقد عزّزت وسائل التّواصل هذا الشّعور بخطاب يفيد أنّ المصادر الأولى لهويّة الإيغور تتمثّل في إيمانهم ولغتهم، ومطالبتهم بأسلوب حياة أصليّ، وانتسابهم إلى مجتمع مسلم تركيّ يمتدّ من أورومتشي إلى إسطنبول. وبدلاً من النّظر إليهم على أنّهم يفتقرون دائماً إلى مظهر وثقافة الأغلبيّة الهانيّة، يمكنهم أن يجدوا في قيمهم التّركيّة والإسلاميّة المتجدّدة هويّة عالميّة معاصرة. وهكذا أصبح الطّعام والأفلام والموسيقى والملابس المستوردة من تركيا ودبي علامات تميّز. وشرعت النّساء في ارتداء الحجاب. وبدأ الرّجال بالصّلاة خمس مرّات في اليوم. وتوقّفوا عن الشّرب والتّدخين. وأخذ البعض يرى في الموسيقى والرّقص والتّلفزيون الحكوميّ تأثيرات يجب تجنبها.

اقرأ أيضاً: اللغة الصينية في السعودية
وقد أشار المسؤولون الهان الّذين قابلتهم خلال عملي الميدانيّ إلى هذا الارتفاع في التّقوى الدّينيّة المنتشرة تقنيّاً باعتباره "طَلْبنَة" [نسبة إلى حركة طالبان] لسكّان الإيغور. وإلى جانب المستوطنين الهان، شعروا على نحو متزايد بعدم الأمان في السّفر إلى المناطق ذات الأغلبيّة الإيغوريّة، وعدم الارتياح في وجود المسلمين الأتراك المتديّنين. وقد أشار المسؤولون إلى حوادث تحمل بصمات عنف يقوم على دوافع دينيّة - هجوم بالسّكاكين نفّذته مجموعة من الإيغور في محطة قطار في كونمينغ؛ شاحنات يقودها إيغور وتصطدم بحشود في بكين وأورومتشي - كإشارةٍ إلى أنّ جميع السّكّان الإيغور يسقطون تحت تأثير الأيديولوجيّات الإرهابيّة.
ولكن، بقدر الخطورة الّتي بدا عليها ظهور وسائل التّواصل الاجتماعيّ بين الإيغور بالنّسبة إلى مسؤولي الهان، فإنّها قدّمت لهم أيضاً وسيلة جديدة للتّحكّم. في 5 تموز (يوليو) 2009، استخدم طلّاب المدارس الثّانوية والجامعات من الإيغور فيسبوك ولغة الإيغور لتنظيم مظاهرة تطالب بالعدالة لعمّالهم الّذين قُتلوا على أيدي زملائهم الهان في مصنع للألعاب في شرق الصّين. خرج آلاف الإيغور إلى شوارع أورومتشي، ولوّحوا بالأعلام الصّينيّة وطالبوا الحكومة بالرّدّ على مقتل رفاقهم. وعندما واجهتهم الشّرطة المسلّحة بعنف، ردّ العديد منهم بقلب الحافلات وضرب المارّة الهان. وفي النّهاية، تمّ الإبلاغ عن مقتل أكثر من 190 شخصاً، معظمهم من الهان. وعلى مدار الأسابيع الّتي تلت ذلك، أخفت الشّرطة مئات وربّما آلاف الشباب الإيغور. كذلك، جرى قطع الإنترنت عن المنطقة لمدة 10 أشهر تقريباً، وحُظِر فيسبوك وتويتر في جميع أنحاء البلاد.

اقرأ أيضاً: مطالبات حقوقية بحماية مسلمي الصين
وبعد فترة وجيزة من عودة الإنترنت في عام 2010 - مع الغياب الملحوظ لفيسبوك وتويتر وغيرهما من تطبيقات وسائل التّواصل الاجتماعيّ غير الصّينيّة - بدأ أمن الدّولة والتّعليم العالي والقطاع الخاصّ الصّناعيّ في التّعاون على قطع استقلال الإنترنت عند الإيغور. وحوِّل الكثير من محتوى الإنترنت النّاطق بلغة الإيغور من مجتمع افتراضيّ حرّ إلى منطقة يمكن أن تتعلّم فيها التّكنولوجيا الحكوميّة التّنبؤ بالسّلوك الإجراميّ. وحوَّلت قوانين مكافحة الإرهاب الجديدة والمطّاطية، والّتي صيغت لأوّل مرّة عام 2014، جميع الجرائم الّتي ارتكبها الإيغور تقريباً، من سرقة خراف جيرانهم الهان إلى الاحتجاج على الاستيلاء على الأراضي، إلى أشكال من الإرهاب. والتّقوى الدّينيّة، الّتي أشارت إليها القوانين الجديدة باسم "التّطرّف"، رُبطت بالعنف الدّينيّ.
هذا، وقد انتشرت صناعة الأمن في شينغيانغ من عدد قليل من الشّركات الخاصّة إلى ما يقرب من 1,400 شركة توظّف عشرات الآلاف من العمّال، بدءاً من حراس الأمن من الإيغور ذوي المستوى المنخفض إلى فنيي الكاميرات والاتّصالات السّلكيّة والّلاسلكيّة من الهان وحتّى المبرمجين والمصمّمين. وأعلنت إدارة شي حالة الطّوارئ في المنطقة، وبدأت حرب الشّعب على الإرهاب، وأُضفي الطّابع المؤسّسيّ على كراهية الإسلام.

عمال يسيرون بجوار السياج المحيط بـ "مركز تعليمي" في شينجيانغ

"التّحوّل من خلال التّعليم"
في عام 2017، بعد ثلاثة أعوام من العمل بسياسة "الضّربة القاسية" الّتي حولت شينغيانغ إلى ما اعتبره كثيرون سجناً في الهواء الطّلق - وهو ما تضمّن إنشاء نظام دفتر سجلّات يُقيد السّفر الدّاخليّ للإيغور، ونشر مئات الآلاف من قوّات الأمن لمراقبة أُسَر أولئك الّذين اختفوا أو قُتلوا على يد الدّولة -، تحوّلت الحكومة نحو استراتيجيّة جديدة. فقد تقدّم سكرتير إقليميّ جديد للحزب يُدعى تشن قانغو بسياسة "تحويل" الإيغور.

لا يبدو أنّ المسؤولين وموظّفي الخدمة المدنيّة والعاملين في مجال التّكنولوجيا الّذين أتوا لبناء هذا النّظام آبهين بإنسانيّة الإيغور

وهكذا، بدأت السّلطات المحلّيّة في وصف "قوى الشّرّ الثّلاث" المتمثّلة في "التّطرّف الدّينيّ والانفصاليّة العرقيّة والإرهاب العنيف" على أنّها ثلاث "سرطانات أيديولوجيّة" مترابطة. ونظراً لأنّ المجال الرّقميّ قد سمح لأشكال الإسلام غير المصرّح بها بالازدهار، فقد دعا المسؤولون إلى استخدام التّكنولوجيا القائمة على الذّكاء الصّناعيّ للقضاء على هذه الشّرور. وبدأت قيادة الحزب في تحفيز شركات التّكنولوجيا الصّينيّة لتطوير التّقنيات الّتي يمكن أن تُساعد الحكومة على السّيطرة على مجتمع الإيغور. ومُنحت مليارات الدّولارات من العقود الحكوميّة لبناء أنظمة أمنيّة "ذكيّة" في جميع أنحاء منطقة الإيغور.
وقد تزامن الاتّجاه نحو سياسة "التّحويل" مع اختراقات في أنظمة الكمبيوتر الّتي يدعمها الذّكاء الصّناعيّ والّتي نشرها مكتب الأمن العام في عام 2017 وجمعها في منصّة العمليّات المشتركة المتكاملة. وبدأت الشّركة الصّينيّة ميا بيكو في تسويق البرمجيّات إلى الحكومات المحلّيّة والإقليميّة، وهي البرمجيّات الّتي تمّ تطويرها باستخدام الأبحاث المدعومة من الدّولة والّتي بإمكانها اكتشاف نصّ لغة الإيغور والرّموز الإسلاميّة المضمّنة في الصّور. كما طوّرت الشّركة برامج لأتمتة [التّشغيل أوتوماتيكيّاً] نُسَخ وترجمات الرّسائل الصّوتيّة الّتي يتبادلها الإيغور. وقامت شركة هيكفيجن بالإعلان عن أدواتٍ يمكنها أتمتة عمليّات تحديد الوجوه الإيغوريّة بناءً على الأنماط الفسيولوجيّة. واستنبطت شركات أخرى برامج من شأنها إجراء عمليّات بحث تلقائيّة لنشاط الإيغور على الإنترنت، ثمّ مقارنة البيانات الّتي تمّ جمعها بالسّجلات المدرسيّة والوظيفيّة والمصرفيّة والطّبّيّة والبيومتريّة، والتّنبّؤ بالسّلوكيّات الشّاذّة.

اقرأ أيضاً: تقرير يحذّر من خطر الصين عسكرياً.. هذه الأسلحة التي طورتها
ويتطلّب تطبيق هذه التّقنية الجديدة قدراً كبيراً من القوى العاملة والتّدريب التّقني. ومن ثمّ، جرى توظيف أكثر من 100,000 ضابط شرطة جديد. وكان من بين وظائفهم إجراء نوع "الفحص الصّحيّ" الّذي خضع له عالِم، وهو ما أدّى إلى إنشاء سجلات بيومتريّة لكلّ إنسان في المنطقة تقريباً. وخُلِقت بصمات الوجه عن طريق المسح الضّوئيّ للأفراد من مجموعة متنوّعة من الزّوايا المختلفة فيما يقومون بتعبيرات وجهٍ مختلفة؛ وكانت النّتيجة ملفّاً عالي الوضوح من العواطف الشّخصيّة. كما طُلِب من جميع الإيغور تثبيت تطبيقات "ناني"، وهي تطبيقات تراقب كلّ ما يقومون بقوله وقراءته وكتابته وكلّ شخص يتّصل بهم على هواتفهم الذّكيّة.
وتمّ تكليف ضبّاط الشّرطة من حاملي الرّتب العُليا، ومعظمهم من الهان، بإجراء تقييمات نوعيّة للسّكان المسلمين ككلّ - لتوفير بيانات مسحيّة أكثر تعقيداً وقائمة على المقابلة لنظام التّعلّم العميق المعروف بمنصّة العمليّات المشتركة المتكاملة. وفي المقابلات الشّخصيّة، قام ضبّاط شرطة الأحياء بتقييم أكثر من 14 مليون شخص من الأقلّيّة المسلمة في شينغيانغ وقرّروا ما إذا كان ينبغي منحهم تصنيف "آمن" أو "متوسّط" أو "غير آمن". وقد قرّروا ذلك بتصنيف الشّخص مستخدمين 10 فئات أو أكثر، بما في ذلك ما إذا كان الشّخص من الإيغور أم لا، وما إذا كان يصلّي بانتظام، أو له قريب مباشر يعيش في الخارج، أو علّم أطفاله الإسلام داخل المنزل. وأُرسِل من تمّ تحديد أنّهم "غير آمنين" إلى مراكز الاحتجاز، حيث تمّ استجوابهم وطُلب منهم الاعتراف بجرائمهم والإبلاغ عن غيرهم من "غير الآمنين". وبهذه الطّريقة، حدّد الضّبّاطُ الأفرادَ الّذين ينبغي إدخالهم معسكرات الاعتقال للخضوع لعمليّة "التّحوّل من خلال التّعليم".

اقرأ أيضاً: الصين: 7 عادات غريبة يجب أن تتعرف إليها
واعتُقل العديد من المسلمين الّذين اجتازوا تقييمهم الأوّل في وقت لاحق لأنّ شخصًا آخر وصفهم بأنّهم "غير آمنين". وفي آلاف الحالات، جرى استخدام بيانات من تطبيق "وي شات" تعود لسنوات كدليلٍ على الحاجة إلى "تحويل" المشتبه بهم من الإيغور. كما خصّصت الدّولة 1.1 مليون آخرين من "الإخوة والأخوات الكبار" من الهان والإيغور لإجراء تقييمات لمدّة أسبوع على أُسَر الإيغور كضيوف غير مدعوين في منازل الإيغور. وعلى مدار هذه الإقامات، اختبر الأقارب الصّفات "الآمنة" لهؤلاء الإيغوريّين الّذين ظلّوا خارج نظام معسكرات الاعتقال من خلال إجبارهم على المشاركة في أنشطة تحظرها أشكال معيّنة من التّقوى الإسلاميّة، مثل شرب الكحول والتّدخين والرّقص. كذلك، بحثوا عن أيّ علامة على الاستياء أو أيّ نقص في الحماس في قيامهم بالأنشطة الوطنيّة الصّينيّة. ومنحوا الأطفال حلوى حتّى يخبرونهم بحقيقة ما يعتقد فيه آباؤهم.
وقد أُدخِلت كلّ هذه المعلومات في قواعد البيانات ثمّ أُدخِلت مرّة أخرى في منصّة العمليّات المشتركة المتكاملة. وتأمل الحكومة أن تعمل المنصّة مع مرور الوقت بتوجيهات بشريّة أقلّ فأقلّ. وحتّى الآن، تعمل دائماً في خلفيّة حياة الإيغور، وتحظى بمعلومات جديدة دائماً.

ضابط شرطة يتفقد بطاقة هوية رجل بينما تراقب قوات الأمن في أحد شوارع كاشغار

حين يتعلق الأمر بالمراقبة فإنّ التّكنولوجيا الصّينيّة تقود العالم
في الأوساط التّكنولوجيّة في الولايات المتّحدة، هناك بعض الشّكوك فيما يتعلّق بمدى قابليّة تطبيق تقنيّة رؤية الكمبيوتر الّتي يدعمها الذّكاء الصّناعيّ في الصّين. يشير العديد من الخبراء الّذين تحدّثت إليهم من عالَم سياسات الذّكاء الصّناعيّ إلى مقالة للباحث جاثان سادوفسكي بعنوان "الذّكاء الصّناعيّ الخدّاع"، والّتي تسلّط الضّوء على إخفاقات تكنولوجيا الأمن الصّينيّة في تحقيق ما تَعِد به. وكثيراً ما يثيرون موضوع الطّريقة الّتي قُصِد بها أن يقوم نظام في مدينة شنزهين الصّينيّة بالتّعرّف على وجوه عابري الطّرق بطريقة مخالفة وتصويرهم وإظهارهم على شاشات عملاقة بجوار التّقاطعات المزدحمة وكيف لا يمكن مواكبة وجوه جميع العابرين المُخالفين؛ نتيجة لذلك، يتعيّن على العاملين في بعض الأحيان القيام يدويّاً بجمع البيانات المستخدمة في الفضح العلنيّ. ويشيرون إلى أنّ شركات التّكنولوجيا الصّينيّة والوكالات الحكوميّة قد عيّنت مئات الآلاف من ضبّاط الشّرطة ذوي الأجور المنخفضة لمراقبة حركة المرور على الإنترنت ومشاهدة محتويات شاشات الفيديو. وكما هو الحال مع مسرح الطّقوس الأمنيّة في المطارات في الولايات المتّحدة، فإنّ العديد من هؤلاء الخبراء يجادلون بأنّ التّهديد بالمراقبة، بدلاً من المراقبة نفسها، هو الّذي يدفع النّاس إلى تعديل سلوكهم.

النّوع الوحيد من حياة الإيغور الّذي يمكن إدراكه من جانب الدّولة هو ذلك الّذي يراه الكمبيوتر

ومع ذلك، وفيما هناك الكثير من الأدلّة الّتي تدعم هذا التّشكيك، فإنّ ارتفاعاً ملحوظاً في الكشف الآليّ للنّشاط الإسلاميّ القائم على الإنترنت، والّذي أدّى إلى احتجاز مئات الآلاف من الإيغور، يشير أيضاً إلى الآثار الحقيقيّة لتطبيق المراقبة والتّحكّم القائمين على الذّكّاء الصّناعيّ في شينغيانغ. ويعترف الخبراء الغربيّون في غوغل وأماكن أخرى بأنّ شركات التّكنولوجيا الصّينيّة تقود العالم الآن في تقنيّات رؤية الكمبيوتر هذه، وذلك بسبب الطّريقة الّتي تموّل بها الدّولةُ الشّركاتَ الصّينيّة لجمع البيانات الشّخصيّة لمئات الملايين من المستخدمين عبر الصّين واستخدامها والإبلاغ عنها.
غالباً ما رفض مسؤولو الهان الّذين تحدّثت إليهم أثناء عملي الميدانيّ في شينغيانغ الاعترافَ بالطّريقة الّتي أدّت بها عمليّات الاختفاء، وإطلاق النّار المتكرّر من جانب الشّرطة على شباب الإيغور، والاستيلاء الحكوميّ على أراضي الإيغور إلى تحفيز فترات سابقة من مقاومة الإيغور. كذلك، لم يروا أيّ ارتباط بين الحدود المفروضة على التّعليم الدّينيّ الإيغوريّ والقيود المفروضة على سفر الإيغور والتّمييز الواسع في الوظائف من جهة، وارتفاع رغبة الإيغور في الحرّيّة والعدالة والتّدين من ناحية أخرى. وبسبب حملة القمع، شهد مسؤولو الهان تراجعاً عميقاً في العقيدة الإسلاميّة والمقاومة السّياسيّة في الحياة الاجتماعيّة للإيغور. وهم فخورون بالحماس الّذي يتعلّم به الإيغور "الّلغة السّائدة" في البلاد، وتخلّيهم عن الأيّام المقدّسة الإسلاميّة واعتناقهم لقِيَم الهان الثّقافيّة. ومن وجهة نظرهم، حظي تنفيذ أنظمة الأمن الجديدة بنجاح هائل.

اقرأ أيضاً: هذه الأمور تكشف عنصرية الصينيين ضد الأفارقة
وقد أخبرني رجل أعمال إيغوريّ في منتصف العمر من مدينة هوتان، سأطلق عليه اسم داوود، أنّه خلف نقاط التّفتيش، قام النّظام الأمنيّ الجديد بتجويف مجتمعات الإيغور. ولا يبدو أنّ المسؤولين الحكوميّين وموظّفي الخدمة المدنيّة والعاملين في مجال التّكنولوجيا الّذين أتوا لبناء وتنفيذ ومراقبة هذا النّظام آبهين بإنسانيّة الإيغور. فالنّوع الوحيد من حياة الإيغور الّذي يمكن إدراكه من جانب الدّولة هو ذلك الّذي يراه الكمبيوتر. وهذا يجعل الإيغور من أمثال داوود يشعرون بأنّ حياتهم مهمّة فقط بما هي بيانات - رموز على الشّاشة، أرقام في المعسكرات. وقد كيّفوا سلوكهم، وحتّى أفكارهم، وإن ببطء، مع النّظام.
يقول داوود بهدوء: "الإيغور على قيد الحياة، لكن حياتهم كلّها وراء الجدران. يبدو الأمر وكأنّهم أشباح يعيشون في عالم آخر".

*تمّ تغيير بعض الأسماء. وقد ظهرت نسخة أطول من هذه المقالة لأوّل مرّة في "لوجيك"، وهي مجلة جديدة تُعنى بالتّكنولوجيا.


المصدر: دارين بايلر، الغارديان



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية