لماذا ننجب؟

لماذا ننجب؟

لماذا ننجب؟


13/09/2022

يظهر فعل الإنجاب في مجتمعاتنا كفعل طبيعي بديهي، لكنّ بداهتَهُ هي الجانب الذي يطفو، والقسم الذي لم يطفُ منه يحمل جذر مشكلتنا؛ فللإنجاب تاريخه البيولوجي الذي يتقاسمه الإنسان مع كلّ الثدييات، وهو مثل كلّ الثدييات بدأ هذا الفعل بدوافع غريزيةٍ بحتةٍ، لكن ما إن وضع الإنسان قدميه في مربع الحضارة، حتى بدأ التفكير بالإنجاب، ضمن ضرورةٍ يمليها الواقع الحضاري الجديد.
منذ المجتمعات الرعوية والزراعية، وصولاً إلى المجتمعات الحديثة، لم ينفصل الإنجاب عن الضرورة التي شكّلته تاريخياً وأعطته قيمته، ولا شكّ في أنّ غريزة الحياة ما زالت ثاوية في هذا الفعل، وأقصد الوظيفة الطبيعية (حفظ النوع واستمرار البقاء)، لكنّ هذه الغريزة لا بدّ لها من أنْ ترتقي مع ارتقاء الوعي الإنساني. ومن المسيء أنْ يتنافى هذا الفعل مع معناه الذي يحمل الولادة والحياة، لما يترتب عليه من انتهاك صارخ للحياة، حين لا يحظى الإنسان بكرامته وإنسانيته. ومن انتهاك للطبيعة، حين تصبح أعداد البشر الهائلة مشكلة تستنزف الطبيعة، التي تفقد القدرة، يوماً بعد يوم، على تجديد مواردها.

هذه الغريزة لا بدّ لها من أنْ ترتقي مع ارتقاء الوعي الإنساني ومن المسيء أنْ يتنافى هذا الفعل مع معناه

تجربتا الزواج والإنجاب؛ هما من التجارب المهمة التي يقدم عليها الإنسان أينما كان، لكنّ هاتين التجربتين، في عالمنا العربي، تغلّفهما ضرورات اجتماعية ودينية، هذه الضرورات التي تساند بعضها في إطلاق أحكامها، والنتيجة هي إفراغ الزواج من معناه الإنساني، والنظر إلى الإنجاب على أنّه تحصيل حاصل. هذه النتيجة انطلقت من مقدمة واحدة، هي التكريس الوظيفي للإنجاب؛ حيث يقتصر على إعادة إنتاج المفاهيم التقليدية التي تنظر إلى الطفل كأداة ووسيلة، وهنا يتحتم علينا أن نقف أمام معضلة وجودية تتلخص بالآتي: كي يحظى الإنسان بإنسانيته، يجب أن تتعدّى لديه رغبة الإنجاب "اللاواعية" في حفظ النوع، إلى رغبة واعية في حفظ الحياة، ولا يمكن للإنسان أن يحفظ الحياة من دون وعيه لإنسانيته، التي تقوم أصلاً على الاعتراف بالذات والآخر.

التربية هي الضرورة الوحيدة للإنجاب تربية الثدي الذي يعتقد أنّه تربّع على هرم الرئيسات العليا

لكنّ ما نراه حقاً في مجتمعاتنا العربية، أنّ الاعتبارات العملية (اعتبارات الضرورة)، تُلغي الاعتبارات الأخلاقية في قرار الإنجاب، ليكون الإنجاب عملية تكاثر وتكثير، وهنا يطغى التفكير الكمي على التفكير النوعي، الكم الذي يختزل الإنسان في عدد، سيكرِّس في النهاية تماثل الأفراد، وغياب فرديّتهم، وفي عصور سابقة كانت الضرورة تدفع لهذا النمط، أما الآن؛ فهذه الضرورة لا مبرّر لها. 
ما لم يُنظر إلى الإنجاب على أنه قرار وجودي، لن تأخذ التربية دورها في بناء الإنسان؛ إذ يجب أن تنتفي أسباب الإنجاب التقليدية التي تنظر إليه كوسيلة للكثرة والغلبة، فالأولاد "العزوة"، قُرّر منذ البداية إنجابهم لهذه الوظيفة، لذلك سينتظرهم إرثٌ شاقٌّ من الخضوع والإخضاع، ولا يمكن هنا أن نغفل وضع المرأة التي تنجب، والتي تُختصر في وعاء بيولوجي. فمن وجهة نظر "حسن البنا": "المرأة للمنزل، مهمتها الإنجاب، والتربية، والرعاية"، حسناً! لكن كيف يمكن لهذه المرأة أن تربّي؟!، وما هي إمكانيات التربية المتاحة أمامها، وقد تم تأطيرها، منذ البداية، في هذه الصورة النّمطية، وما الذي ينتظر هؤلاء الأطفال؟ أهي عملية تربية، أم عملية استنساخ؟ أطفال ما زال يُنظر إليهم من خارج كينونتهم الإنسانية، على أنّهم أدوات تكمن أهميتها في الفائدة المؤجلة.

إذا كان الإنجاب يخضع لجدل الخيار والضرورة فإنّ التربية لا تخضع لهذا الجدل مطلقاً

التربية هي الضرورة الوحيدة للإنجاب، تربية الثدي الذي يعتقد أنّه تربّع على هرم الرئيسات العليا، ضمن مسلَّمة بيولوجية، هي نتاج لمنظومة الوعي الذي شكّله الاعتقاد السابق، التربية التي تستقي منهجها من المعايير التربوية الحديثة، وتستند إلى المبادئ الإنسانية الكونية البعيدة عن كلّ أدلجة، تودي إلى إفراغ الطفل من ماهيّته الإنسانية، ومن دون وعي ذلك، لن يحظى الإنسان بتربية نفسه، وترميم النقص التربوي الذي تعرّض له، ولن يتمايز الإنجاب لدى الإنسان عن باقي الثدييات، ولن يتجاوز وظيفته الأوليّة.
إنّ أيّ خللٍ يطرأ على هذا الوعي، سيشكل تجربة رديئة، تتبدّى أهم نتائجها في (الاعتداء)، سواء كان هذا الاعتداء على أبناء النوع الواحد، أو على الحياة نفسها، من حيث أنّها تختصر الفرصة الوحيدة للوجود، خاصةً وجودنا ككائنات أخيرة، امتلكت القدرة على وعي الوجود، فإذا كان الإنجاب يخضع لجدل الخيار والضرورة، فإنّ التربية لا تخضع لهذا الجدل مطلقاً، لأنّها حكماً ضرورة، ولا يمكن للوعي أنْ يتشكّل خارجها.
يقول الكاتب والأديب فرناندو فاييخو: "أعزائي الشباب والصغار، لقد كنتم سيّئي الحظ بما فيه الكفاية، كي تتم ولادتكم، وفي أكثر البلاد جنوناً على الكوكب. النعيم والسعادة لا وجود لهما في هذا العالم، إنّما تلك الحجة التي اخترعها آباؤكم لتبرير مجيئهم بكم إلى هذا العالم". المفارقة العدميّة التي يطرحها فاييخو تستند إلى حجة قوية: العالم مكان لا يصلح للسكن، والإنسان هو من جعله كذلك، ونحن نرى بوضوح أنّ هذا الاحتجاج يتردّد في أماكن متعددة من العالم، ليدلّل على ارتفاع الحس الاغترابي لإنسان يفقد، يوماً بعد يوم، قدرته على التعيّن والوجود.
الفائض البشري العاطل عن إنسانيته، سيكون، بحسب فاييخو، رأس مال الانحطاط الأخلاقي، المتمثّل بصياغة ثقافات عُنفيّة، تُعيد إنتاج الحرب وما يترتب عليها من نفي ودمار. فواقع مجتمعاتنا الذي لا يبتعد عن هذه الرؤية، يجب أن يدفعنا لنفكّر كثيراً قبل أن نقذف بطفلٍ جديدٍ إلى هذا العالم، وبأهليتنا للقيام بهذا الفعل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية