جان باخ: لهذه الأسباب يحتفظ السودان بربيعه

جان باخ: لهذه الأسباب يحتفظ السودان بربيعه


كاتب ومترجم جزائري
30/04/2019

ترجمة: مدني قصري


المظاهرات في السودان لا تتعثر؛ بعد 30 عاماً من الحكم، تمّ عزل الرئيس السوداني عمر البشير من قبل الجيش يوم الخميس، 11 نيسان (أبريل) 2019، منذ ذلك الحين، تمّ إنشاء مجلس عسكري برئاسة وزير الدفاع، عوض بن عوف، وقد وعد بأنه لن "يحكم، وأنه سيكتفي بأن يكون الضامن لحكومة مدنية"، ومع ذلك، ما يزال المحتجون يواصلون الضغط، ويطالبون برحيل الجنرالات، المتّهمين بمصادرة هذا "الانتقال"، ويشترطون "مجلساً مدنياً".

اقرأ أيضاً: "الحركة الإسلامية" السودانية أمام خيارين: الانسحاب أو الانشقاقات
في يوم الجمعة، عند المساء، أعلن بن عوف على شاشة التلفزيون العام، أنه تخلى عن مهمته، وأنّ الفريق عبد الفتاح البرهان قد حلّ محله؛ إثر ذلك انتشرت مشاهد جديدة من الابتهاج في الخرطوم، العاصمة السودانية، قبل أن يعلن في اليوم التالي، صالح غوش، رئيس جهاز الاستخبارات القوي، استقالته بدوره، ورغم القمع الوحشي وحظر التجول، واصل المتظاهرون تجمعاتهم أمام مقراته، متسائلين حول نظام "ما بعد البشير".
من الخرطوم؛ حيث يقوم بتنسيق مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (CEDEJ)، ومرصد شرق إفريقيا، يقدّم الباحث جان نيكولاس باخ، تحليله حول هذه الحركة الشعبية والتحولات السياسية العسكرية القائمة داخل جهاز الدولة.
متظاهرون في الخرطوم بالقرب من وزارة الدفاع

كيف تفسّر طول عمر هذه الحركة الاحتجاجية و"فعاليتها"؟
إنّ حجم وترسّخ هذه التعبئة يعبّران عن خصائص قوية، يمكننا أن نستعرض بعض المسارات لشرح مثابرة وشجاعة السودانيين، منذ كانون الأول (ديسمبر) 2018، في ظروف قاسية في الشوارع، وفي الأيام الأخيرة في الساحات العامة.
عنصر التحليل الأوّل مرتبط بالتحديد بتاريخ الأحداث والثورات في السودان، والذي يمكن تحديد موقعه على المدى القصير في سياق ما يسمى بـ "الربيع العربي".

تاريخ الاحتجاج ما انفك يبني نفسه بحجم تضحياته من الشهداء، واللحظات العصيبة، ومنحه مكانة ذات أهمية خاصة للنساء

منذ ذلك "الربيع"؛ تمّ تنظيم العديد من المظاهرات الأخرى في أشكال مختلفة، كما حلّل ذلك الباحث كليمان ديشاي (Clément Deshayes): حركات الطلاب، والأحداث المشؤومة التي تم قمعُها في الدم عام 2013، أسفرت عن 200 حالة وفاة، لغاية حركات العصيان في عام 2016 التي انزلقت إلى إضراب عام.
هذه الحلقات أضحت مهمّة؛ إذ تكشف عن طرائق مظاهرات مبتكرة من قبل المتظاهرين، الذين يتصرّفون الآن عبر الشبكات الاجتماعية، مثل عملية مدينة ميّتة في عام 2016، المصمَّمة لتجنّب تكرار العنف الذي حدث قبل ثلاثة أعوام، إنها أنماط وأساليب عمل كالتي نجدها أيضاً في التعبئات الحالية.
الإجراءات متفرّقة إلى حد ما، حتى الأسبوع الماضي على الأقل، تم تنظيمها في عدّة مواكب صغيرة في أماكن مختلفة من العاصمة، فإذا كان هذا يُعقّد عمل الشرطة، فإنّ غياب التعبئة الجماهيرية يجعل المحتجّين أكثر عرضة للغاز المسيل للدموع والبنادق.
باختصار؛ تاريخ الاحتجاج مستمرّ في بناء نفسه ويتسارع منذ شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بحصته من الشهداء، والأوقات العصيبة، والمكانة ذات الأهمية الخاصة المعطاة للنساء.
ما هو تحليلك لردود فعل النظام الذي أظهر نفسه غير قادر على مراعاة مطالب الشارع؟
عدم قدرة الحكومة على اقتراح أقلّ استجابة موثوقة ودائمة للأزمة العميقة التي سقطت فيها البلاد، هي الخصوصية الثانية لهذه الحركة. لفهم الأمر؛ يجب علينا تحليل هذه الأزمة من خلال معيار زمن أطول، لقد طوّر النظام سياسات أدّت إلى التدهور العام للوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد في التسعينيات، وفشل في الاستفادة من عائدات النفط في أعوام الـ 2000، وفي جعله أداة لإعادة هيكلة الاقتصاد، الاقتصاد الذي كان من شأنه أن يجعل من الممكن الخروج من اقتصاد معظمه زراعي.

اقرأ أيضاً: منع تظاهرة لإسلاميي السودان.. تفاصيل
العقوبات التجارية التي فرضتها الولايات المتحدة، بين عامي 1997 و2017، بالتأكيد كانت بلا طائل، ولكن الأمر كله يتعلق بسوء الإدارة الوطنية، وصدمة فقدان ثلثي عائدات النفط بعد استقلال جنوب السودان، هذا المزيج من العوامل الداخلية والخارجية يفسر الأزمة الحالية التي لم يعد النظام يملك إجابة عنها، كما أنه ليس لديه أصدقاء مستعدّون لدعمه دولياً، فضلاً عن أنّ البضاعة المحلية تكاد تنضب في الداخل.
عام 2018؛ راكم تضخّماً فاق 70٪، وأزمة سيولة خطيرة، ونقصاً متكرراً في البنزين والديزل، وزيادة قوية للغاية في أسعار السلع، كثيراً ما نسمع، ربما عن حقّ، أن الزيادة في سعر الخبز، التي تضاعفت ثلاث مرّات في كانون الأول (ديسمبر) 2018، بعد أن تضاعفت بالفعل في بداية العام، ربما هي السبب وراء هذه الأحداث، هذا ليس خطأ، لكنّ هذه المجموعة من الصعوبات اليومية هي التي تفسر انفجار الغضب، على خلفية الأزمة الهيكلية.
جنود الحيش السوداني ينضمون إلى المتظاهرين

ألا يحجب اختزال حركة "ثورات الخبز" هذه، مطالب أخرى متعدّدة، خاصة ذات طابع سياسي؟
بالفعل، يجب ألا يُخفِي العاملُ الاقتصادي الطابعَ السياسي العميق للحركة؛ عمر البشير لم يسقط بسبب ثمن الخبز، فالحركة قبل أن تكون حركة ضدّ غلاء المعيشة انقلبت إلى منعطف سياسي، كانت أزمة سياسية عميقة أدّت إلى 11 نيسان (أبريل) 2019.

اقرأ أيضاً: الموقف الأمريكي حيال ليبيا والسودان.. ما المختلف؟
الدوافع السياسية العميقة للثورة ملحوظة بشكل خاص في أكثر الشعارات المتكررة: "الحرية والسلام والعدالة... الثورة خيار الشعب!"، أو" فليسقط (النظام)، نقطة انتهى الكلام"، "نسحق الكوز KOZ)) .." (قدح حديدي يشير إلى الحزب الحاكم، اسمٌ متداول منذ الزمن الذي لعب فيه حسن الترابي، الأيديولوجي الإسلاموي، دوراً رئيساً، في صباح يوم الخميس، 11 نيسان (أبريل)، عندما كان المتظاهرون يحتفلون بما اعتقدوا أنه سقوط النظام، سمعنا: "لقد سقطوا! رمضان بدون كيزان"(صيغة الجمع لـكوز)، منذ بداية التمرّد أصبحت الأغاني سياسية بعمق.
كيف تعاملت الحكومة مع الوضع في البداية، في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي؟
أولاً؛ حاول ردّ فعل عنيف إخفاء عدم وجود ردّ فعل اقتصادي أو سياسي.
تميّزت الأسابيع الأولى من المظاهرات، في الفترة من كانون الأول (ديسمبر) 2018 إلى كانون الثاني (يناير) 2019، بعشرات الوفيات، في معظم الأحيان بإطلاق النار. بعد أن توقّعت أنّ الثورة قد بدأت في إنتاج شهدائها، وأن نفَسَها طويلٌ، ويشتدّ أكثر فأكثر، غيّرت الحكومة في وقت لاحق خطابَها، وكبتت قمعَها السافر.

اقرأ أيضاً: مجلس سيادة مشترك.. هل ينهي احتجاجات السودان؟
حاولت الحكومة، إذاً، أن تجعل الاحتجاج غير مرئي، عن طريق الاستمرار في وقف المتعاطفين بشكل مكثف، وإساءة معاملتهم، أو تعذيبهم على نطاق واسع، من خلال قوائم الهواتف المحمولة ومجموعات الواتساب، من ناحية أخرى؛ دعت الحكومة إلى الهدوء، مُعلِنة أنّها تتفهّم الشباب السوداني الخاضع لقوانين جائرة فرضها الإسلاميون في التسعينيات، على حدّ قولها.
تمّ إسقاط الرئيس السوداني عمر البشير من قبل الجيش يوم الخميس 11 أبريل

ما هو الدور الذي لعبه تجمع المهنيّين السودانيين (SPA) في تنظيم وتعبئة الحركة؟
لعب هذا التجمّع دوراً حيوياً. لقد فرض نفسه تدريجياً عن طريق الدعوة للاحتجاج عبر الشبكات الاجتماعية، في الوقت نفسه؛ حافظ على أنشطته السرية؛ حيث، حتى الآن، لم يتم تحييده من قبل النظام، وهو يفلت تماماً مما يُسمّى الأحزاب الكلاسيكية.
إنّ هذا التجمع بالتحديد؛ هو الذي دعا إلى الذهاب إلى المقر العام للقوات المسلحة السودانية، في السادس من نيسان (أبريل)، وهي ذكرى سقوط النظام العسكري لجعفر محمد نميري، عام 1985؛ لأنها لحظة حاسمة لاستمرار الثورة، منذ أن طالب المحتجون الجيش منذ شهور بإسقاط النظام، واستعادة السلطة للشعب، كما فعل في عامي 1964 و1985.

اقرأ أيضاً: السودان.. ماذا حدث؟
إنّ الجيش المتردّد، الذي منعته الانقسامات الداخلية، بلا شكّ، لم يتّخذ موقفاً، معلناً في مناسبات عديدة أنه لن يشارك في قمع السودانيين، وفي طريقه إلى المقر العام للقوات المسلحة السودانية (SAF)، كان التجمع يريد أن يدفع الجيش لأن يضع نفسه بوضوح لصالح الشعب.
القوات المسلحة السودانية هي الوحيدة التي تمتلك صورة حمائية، على عكس الفروع الأمنية المسلحة الأخرى، التي تخيف بانتهاكاتها وأساليب عملها العنيفة، يُنظر إلى جهاز الأمن وقوات الدعم السريع، المؤلفة من الجنجويد السابقين المعروفين بارتكاب انتهاكات في دارفور، على أنها وحدات اضطهاد ضدّ الشعب.
ما هو تاريخ تجمّع المهنيّين السودانيين (SPA)؟ وكيف يتموقع هذا التجمع في اللعبة السياسية؟
لم يولد تجمّع المهنيين السودانيين مع هذه الثورة، ولكن يعود تاريخه إلى أحداث 2012-2013، عندما أنشأ تحالفاً بين جمعيات المهن الحرة، الأطباء والصيادلة والصحفيين، هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث حول هذا التجمع، ولكنّ ما نعرفه اليوم هو أنه تم إعادة تنشيطه في ديسمبر، حتى يتخذ تدريجياً مركز الصدارة؛ حيث تَحرّك كحافز، ونَظّم المطالب وحدّد المسارات.

اقرأ أيضاً: ارتياح شعبي فـي السودان للدعم الإماراتي السعودي
لقد عرف كيف يواكب ويتفاعل مع المبادرات المتخذة في الأحياء، ويبدو أنّ علاقاته بالمغتربين قوية، حتى لو بقي رُسوّه سودانياً، على وجه الخصوص، يستمد تجمُّع المهنيّين السودانيين إلهامَه وتأثيره من تراث اليسار السوداني، انضم التجمّع مؤخراً إلى قوات الإجماع الوطني (تحالف أحزاب المعارضة)، وإلى التجمع الوحدوي، وإلى نداء السودان (تحالف أحزاب المعارضة والحركات المسلحة]، في ائتلاف يُدعَى قوى الحرية والتغيير.
كيف تَوطّد التحالف بين "قاع الجيش" والشعب؟
منذ 6 نيسان (أبريل)؛ أصبح لدى السودانيين، الذين عملوا حتى ذلك الحين بطريقة متقطّعة نسبياً، ما كانوا يفتقرون إليه: مكان التجمع، وحماية جزء من الجيش الذي اختار التمرّد لحماية الشعب.
أصبح الجنود والمتظاهرون يتشاركون مجتمعاً مصيرياً؛ لأنّ الشعب يحتاج إلى جنود لصدّ الهجمات التي تشنها الشرطة أو الميليشيات السياسية، كالتي حدثت في الليالي الأولى، لكنّ جنود المتمردين يحتاجون إلى الشعب لحمايتهم من نظام يقاوم، والذي، بلا شكّ، لم يرحم المتمردين.

آلاء صلاح، أيقونة الاحتجاج في السودان

هل عُرف كيف تتمّ إدارة هذه الحلقة داخل الجيش، في وقت ما يزال "المجلس المدني" الذي طالب به المتظاهرون ينتظر؟

هذا سؤال مركزي للغاية؛ سوف يعتمد تسلسل الأحداث إلى حدّ كبير على نتيجة الأزمة في الجيش، والتي يمكن أن تفصله عن قوات أمن أخرى.
إذا عدنا إلى الحقائق؛ إنّه في يوم السبت، 6 نيسان (أبريل)، توجّه المتظاهرون إلى مقر الجيش ليطلبوا منه القيام بانقلاب، وضمان الانتقال الفوري إلى عملية انتقال يقودها المدنيون؛ فالجنود على الأرض، الذين لم تتضح أعدادهم ورُتبهم بعد، لم يشاركوا في مثل هذا السيناريو، لكنهم اتخذوا مبادرة هائلة تمثلت في أن اقترحوا على الشعب البقاء في أماكنه، مع توفير الحماية له، وتوزيع الطعام والشراب عليه.

اقرأ أيضاً: السعودية والإمارات تدعمان السودان بـ 3 مليارات دولار
اشتهرت قوات الجيش السوداني، في البداية، بسمعة دعم الشعب لضمانه المرور إلى انتقال ديمقراطي، في عامي 1964 و1985، ولكن يجب علينا مع ذلك التأكيد على الطبيعة غير المسبوقة لما يحدث هناك؛ فالشعب هو الذي جاء يبحث عن الجيش في الثكنات، وطلب الحماية؛ لذلك الأمر ليس حركة عسكرية تطوّق القصر الرئاسي، كما في عام 1964، لكن على العكس من ذلك؛ إنّ القوات المتمردة نفسها هي المحاصَرة والحشد الجماهيري هو الذي يحميها.
هناك اختلاف مهم آخر: الرئيسان إبراهيم عبود وجعفر محمد نميري، اللذان أطيح بهما في عامي 1964 و1985، على التوالي، سقطا بسرعة في مواجهة هيئة عسكرية كانت بالتأكيد متعددة، لكنّها واحدة، اليوم، تمثل القوات المسلحة السودانية قوة من بين قوات أخرى، إلى جانب جهاز الأمن  وقوات الدعم السريع.

اقرأ أيضاً: كيف ساهمت السعودية والإمارات في مساعدة السودان؟
في تراجع منذ بداية المظاهرات؛ أكد محمد حمدان دوجلو، المعروف باسم حميدتي (Hemeti)، قائد قوات الدعم السريع، الذي رفض في البداية إشراك قواته ضدّ الشعب، أكد أخيراً انضمامه للجيش، بعد أن أعرب عن اعتذار علني لدعمه المبدئي للمجلس العسكري لابن عوف.
في مساء يوم 12 نيسان (أبريل)؛ بعد إعلانه مغادرة المجلس العسكري، انضمت قواته إلى مقر قيادة الجيش والمتظاهرين، محاولاً أن يعيد بناء صورته لديهم، صالح غوش، رئيس جهاز الأمن، استقال في 13 نيسان (أبريل)، هذا يشير إلى إعادة تشكيل ميزان القوى.
ما هو الدور الذي لعبته "الطبقات الوسطى" التي كانت تتمتع بمزايا نظام عمر البشير في التسعينيات؟
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في هذه الحركة؛ هو أنّها لا تفلت فقط من السلطة الحاكمة، ولكن أيضاً من الأحزاب الكلاسيكية القائمة على العائلات أو الأخويات التي تواجه صعوبات في تحديد موقعها؛ إننا ندرك الدور المركزي الذي تلعبه الطبقات الوسطى في تحدّي النظام، وقدرات الابتكار التكنولوجي والتواصلي والتنظيمي التي تعد ضرورية لنجاح الحركة. ويبدو أن هذا هو الحال في الأحداث التي نشهدها اليوم.

اقرأ أيضاً: السودان وتاريخ من الانقلابات
من ناحية أخرى؛ نحن نعلم أيضاً هشاشة فئة "الطبقات الوسطى"، والحقائق الاجتماعية المعقدة التي تغطيها، وهو ما يدعو لاستخدامها بحذر فيما وراء ما تسمح به لنا الأحداث من رؤيته.
 فشل المشروع الإسلامي السوداني

وماذا عن حركة الجمعيات والأحزاب التي تدعو إلى الإسلام السياسي؟
من بين الأفكار المهمة التي يجب استكشافها ظهورُ أو إعادة ظهور جماعة سياسية علمانية من جهة، وضعف أو حتى فشل المشروع الإسلامي السوداني من ناحية أخرى، يمكن أن يكون موقع تجمع المهنيين السودانيين بالفعل في الخط التاريخي لليسار السوداني، هذا لا يعني أنّ العمل مع مجموعات إسلامية معينة أمر مستبعد في سياق محدد، ولكن هذا قد يُبشّر بأنفاس إسلاموية جديدة، وبدولة استبدادية، موروثة من ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
إن التوقيف المحتمل، الذي يجب اتخاذه بحذر؛ حيث ما تزال المعلومات غير مؤكدة، للقادة الإسلاميين رفيعي المستوى، الذين تحالفوا مع عمر البشير في أواخر التسعينيات، قد يؤكد حقيقة أنّ هناك لحظة تاريخية أيضاً لإعادة تشكيل المجال السياسي، وربما موت هذا التفسير السوداني للإسلام السياسي.
خارج الخرطوم، كيف حدث هذا الاحتجاج؟
لقد هزّت هذه الحركات الاجتماعية العديدَ من المدن، وفي مقدمتها عطبرة (الشمال الشرقي)، ربما لأنها كانت أول من عانى من ارتفاع سعر الخبز في كانون الأول (ديسمبر)، ومدن أخرى في الشمال (دنقلا، على سبيل المثال)، وفي الشرق (القضارف وكسلا)، وفي كردفان (العبيد والأبيض)، أو في دارفور (نيالا)، قد "تحركت" أيضاً، بدرجات مختلفة، لكنّ البعد الكلي للحركة ما يزال من الصعب تقييمه.

اقرأ أيضاً: السودان... تفكيك دولة "الإخوان" العميقة
وخارج الخرطوم؛ دعا تجمع المهنيين السودانيين الوطني المتظاهرين المحتجّين إلى طلب الحماية من الثكنات، ويبدو أن هذا قد تم اتباعه في بعض المدن، حتى إن بدا الوضع أكثر توتراً في دارفور؛ حيث فتحت وحدات جهاز الأمن  النار في محاولة للاستيلاء على مقرّه.
هذه الأنواع من العنف أقل وضوحاً مما هي عليه في الخرطوم، ولكنها تدل على الرهانات المحتملة للحركات اللاحقة، في الأيام الأخيرة، ازداد العنف في دارفور؛ حيث ما يزال دور جهاز الأمن، رغم انضمامهم للثورة، غير واضح.
فمثلما يجب علينا تقييم التوسع الاجتماعي للحركة، يجب علينا أيضاً أن نراعي توسعه الإقليمي، ثم ماذا عن وضع حركات التمرد التي ما تزال قائمة في دارفور ولا نسمع عنها الكثير؟

اقرأ أيضاً: السودان يدفع ثمن أسلمته على يد الترابي-البشير
ليس من النادر أن نسمع في الخرطوم صوت الفُور (مجتمع دارفور غير عربي)، وهم يُعبّرون عن ابتعادهم إزاء هذه التعبئة؛ فهم يُذكرون بأن عاصمة السودان و"شعب وادي النيل"، المقصود النخب التاريخية في تشكيلة الدولة، "لم يحركوا ساكناً"، عندما وقعت المذابح في دارفور في أعوام الـ 2000، بالتوازي مع ذلك؛ رأينا أيضاً المحتجّين يصرخون "نحن جميعاً دارفوريون!"، كل هذا يترك السؤال مفتوحاً حول مسألة التقاطع بين الحركات المعارضة للنظام، رغم خلافاتها العميقة.
ما الذي جسدته صورة عمر البشير في النهاية؟
منذ بداية هذه الحركة؛ برزت مسألة إقالة البشير كأولوية وغير قابلة للتفاوض، سواء تمّت محاكمته من قبل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، ..، أو وُضع في السجن في السودان، فالأمر في النهاية ثانوي: "فليسقط، هذا هو المهم!"، أصبح بسرعة الشعار الرئيس للمعركة.
سمعنا تعليقات مفادها: "الجيش أنهى النظام"، أو أنّ "عملية انتقال" قد بدأت، في الواقع؛ لقد سقط عمر البشير، لكنّ النظام ما يزال قائماً، مشاكله وعوائقه أيضاً، إذاً؛ ليس هناك انتقال، ولكن هناك محاولة فاشلة سلفاً لإنقاذ ما بقي إنقاذه من النظام، هذا ما يجب أن يبدّده اليوم، وبأسرع وقت ممكن، الرئيس الجديد للمجلس العسكري، اللواء عبد الفتاح البرهان.

لم يسقط البشير بسبب ثمن الخبز، فحركة الخبز قبل أن تكون ضدّ غلاء المعيشة انقلبت إلى منعطف سياسي

مسألة "رحيل" عمر البشير تظل هي نفسها محل تساؤل، ما دام المجلس العسكري أعلن أنّ الرئيس المخلوع قد وُضع في مكان "آمن"؛ بل وأكد، يوم الجمعة 12 نيسان (أبريل)، أنه سيمكث في السودان؛ حيث يجب عليه أوّلاً أن يردّ على التهم التي تقع عليه.
ومع ذلك؛ هناك بعض الصعوبات في فهم معنى كل هذا؛ لأنّ وزير الدفاع الذي اختير في البداية كي يخلفه، الجنرال عوض بن عوف، متورط في الانتهاكات المرتكبة في دارفور، وفق ما ذكرته وزارة الخارجية الأمريكية. وينطبق الشيء نفسه على قائد قوات الدعم السريع، اللواء محمد حمدان، المشهور باسم حميدتي، العضو أصلاً في هذا المجلس العسكري، إلى أن يعلن خروجه منه، الجنرال بن عوف استقال في النهاية.
يبقى هناك تفسيران محتملان لمغادرة عمر البشير: إمّا أن الأمر مسرحية معدّة جيداً يستمر في داخلها لعب دور في الظل، مع الحفاظ على إقامته في السودان، وبالتالي لحماية نفسه من المحكمة الجنائية الدولية مع القادة "الجدد"، وإما، وهو الأرجح، أن هؤلاء انتهزوا الفرصة لتهميش الرئيس المزعج، لتولي المهمة بدلاً عنه، لكن هذا بالتأكيد لا يكفي لتلبية توقعات المحتجين.
في كلتا الحالتين، يبدو أنّ هذه الإستراتيجية لا يمكن الدفاع عنها على المدى القصير جداً، ومن المرجح أن يتفكك هذا المجلس العسكري سريعاً، بفعل الضغوط الداخلية والخارجية...


المصدر: lemonde.fr



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية