ربيع دمشق: ليبرالية داخل سياج السلطة

سوريا

ربيع دمشق: ليبرالية داخل سياج السلطة


05/05/2019

بعد إخفاقات النظام القومي وانحسار اليسار، ظهرت تجربة ليبرالية في سوريا، تحت مسمّى "ربيع دمشق"، في الفترة الواقعة بين عامَي 2000 و2001 مع بداية تولي الرئيس الحالي بشار الأسد للسلطة خلفاً لوالده.

اقرأ أيضاً: إخوان سوريا: من تأييد "ربيع دمشق" إلى تجميد الخلافات مع النظام
لكن، ثبت أنّ  تلك التجربة كانت عبارة عن خطاب سياسي بلا قوى اجتماعية داعمة، فقد اقتصر مشروعها على دعوة الدولة إلى مجرد إفساح مكانٍ لرجال الأعمال والنخبة المثقفة في إطار القومية التسلطية.

أفق التحولات المسدود

أجهزت التحولات الاقتصادية التي مرت بها سوريا، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، على الدعائم الاجتماعية للأيديولوجيا الليبرالية، ويلخص الكاتب السوري، أكرم البني، في مقالة نشرها على موقع "الجزيرة"، العام 2006، هذا بقوله: "مرّت الليبرالية السورية، خلال العقود الأربعة الأخيرة، بمرحلة قاحلة، وعانى أنصارها من المحاربة والاضطهاد؛ فقد أفضت التأميمات الواسعة، عام1965 ، وقرارات الإصلاح الزراعي، خلال عامي 1963-1964، واقتحام الدولة الكاسح للحياة الاقتصادية إلى تجفيف تربتها الاجتماعية"، وعلى الصعيد السياسي؛ شكلت العقود الطويلة من التفرد الحزبي والقمع السياسي عائقاً صلباً أمام أي حراكٍ سياسيٍ غير مصنوع على أعين السلطة.

ثبت أنّ  تلك التجربة كانت عبارة عن خطاب سياسي بلا قوى اجتماعية داعمة

ورغم أنّ السلطة تبنّت مبادئ نيو ليبرالية في الاقتصاد استفادت منها شريحة من رجال الأعمال، إلا أنّ "نموذج الليبرالية الاقتصادية التسلطية، التي تحققت جزئياً في سوريا، اصطدمت اقتصادياً واجتماعياً مع تراكماتٍ من المعضلات أخذت تتكشف منذ مطلع الألفية الثانية؛ أي منذ استلام الرئيس بشار الأسد للسلطة، العام2000 "، بحسب الكاتب محمد جمال باروت، في كتابه "العقد الأخير في تاريخ سوريا: جدلية الجمود والإصلاح".
ويشير باروت إلى أنّ "خطاب القسم الذي تمت قراءته عند تولي الأسد سلطته، العام 2000 ، "حاول تبني سياسة إصلاحية تجاه هذه الأزمات والمعضلات، من خلال المؤسسات، ممهّداً لطرح التخلص من الاقتصاد الشمولي واللجوء لاقتصاد السوق، وكذلك (التخلص( من البنية التسلطية في إدارة الدولة، و(التحول( إلى بنية أكثر ديمقراطية"، وهو ما أفضى إلى ظهور نشاطات المنتديات السياسية والاقتصادية والثقافية إلى العلن، "التي أشرف عليها في ذلك الحين نخبةٌ من مثقفي سوريا اليساريين والقوميين، ممن راهنوا على الرئيس الشاب في التغيير".
وكانت تلك، في رأي العديد من المراقبين، بدايةً لما سُمّي لاحقاً "ربيع دمشق"؛ الذي قاده معارضون سوريون، مثل: برهان غليون، ورياض سيف، ورضوان زيادة، وكمال اللبواني، وميشيل كيلو، لكن هذا الحراك لم يدُم لأكثر من عام، حتى قمعته السلطات السورية؛ إذ كان يهدف إلى تأسيس نواةٍ لتشكيل أحزابٍ متنوعة سياسية وتقديم برامج اقتصاديةٍ مختلفة.

السلطة تبنّت مبادئ نيو ليبرالية في الاقتصاد استفادت منها شريحة من رجال الأعمال
وقد تزامن ذلك مع "موجة المدّ الليبرالي"؛ التي أخذت زخمها من المناخ السياسي العالمي الراهن، الذي انفتح على أهمية الديمقراطية والاقتصاد الحرّ، مع النجاح الذي حققته النظم الليبرالية الغربية في النمو والتطور، مقابل تأزم ما كان يسمى بالدول الاشتراكية وانهيارها، كما يقول البني، الذي عاد ليؤكد أنّ "الفكر الليبرالي عموماً سيظل فكراً نخبوياً ضعيف الاستناد إلى أساس موضوعي في البنية التحتية للمجتمع، طالما لم يحظَ بقوى اجتماعية لها مصلحة حقيقية في اعتناقه، ولها طموحات اقتصادية في تحرير سوقها، وبناء دولة الديمقراطية، وإنجاز مشروعها الاقتصادي والسياسي الخاص".

اقرأ أيضاً: لماذا أعادت الإمارات علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق؟
في هذا السياق؛ تظهر مشكلة "الليبرالية السياسية والاقتصادية"، وكذلك مشكلة عقلنة العلاقة بين الدولة والمجتمع، كما يسميها باروت؛ إذ إنّ أيّة عمليةٍ إصلاحية تستهدف خلق تعددية سياسية، وبنى اقتصادية، أكثر مرونة، تتطلب إصلاحاً في نهج مؤسسات الدولة، وهو ما لم يكن ممكناً في سوريا البعث، مما أنهى تلك التجربة مبكراً.
ويتفق باروت مع كمال اللبواني، أحد رموز "الربيع"، في أنّ طبيعة النظام التسلطية أدّت إلى اختزل الإصلاحاتِ في تحريرٍ اقتصادي ضمن أطرٍ ضيقة، أسهمت نسبياً في تحسين الاقتصاد، لكنها، وفق باروت؛ "أفضت في النهاية إلى معدلات بطالة مرتفعة، وأخفقت في أيّ توزيعٍ عادلٍ للدخل"؛ وذلك نظراً إلى عدم ترافق الإصلاحات مع دمقرطة شاملة، مما جعل اللبرلة تتعلق بمصالح طبقة" المحاسيب"، ورجال الأعمال، دون أن تفضي إلى نهضةٍ اقتصادية وسياسية شاملة.

اقرأ أيضاً: تفاصيل تعرّض مطار دمشق الدولي لهجوم صاروخي
في النهاية؛ اصطدمت تجربة ربيع دمشق، التي استهدفت خلق قيم ليبرالية وديمقراطية سياسية بلبرلةٍ اقتصادية تمارسها السلطة، وتحميها سياسة الحزب الواحد وحكم الفرد، وتغطيها قيم قومية ذات نكهة اشتراكية بعثية لم يكن من المتصور أن تتحالف مع إعلانٍ سياسيٍ متنوع، مثل "ربيع دمشق"، خصوصاً في ظرف عالمي انحازت فيه المراكز الرأسمالية إلى صيغة من "النيو ليبرالية النفعية" على حساب الليبرالية السياسية.

البرجوازيون والباحثون عن الاستقرار ورجال الأعمال شكلوا جبهة داعمة لحكم الأسد الابن

تجميل السلطة
في الكتاب الذي حرّره الباحث والأكاديمي السوري، رضوان زيادة، بعنوان "ربيع دمشق: قضايا، اتجاهات، نهايات"، خلص الباحث إلى أنّ هذا الربيع تمّ استغلاله من أجل تجميل وجه النظام، داخلياً وخارجياً،  بعد  أعوام طويلةٍ من القمع؛ إذ كان المجتمع السوري بمكوناته المتنوعة ينتظر تغييراً سياسياً واقتصادياً، مما دفع السلطة إلى أن تسمح بانفراج سياسي، مؤقت ومحدود، يُمكنها من التملص من استحقاقات تغييرات اقتصادية كبيرة من ناحية، ومن أيّ تغييرات تمس نهج الحكم من ناحية أخرى، وهو ما جعل ربيع دمشق ينمو مؤقتاً في حديقةٍ مسيجة بتراكمات الاستبداد الممتدة منذ عقود، وسرّع بتجريف آثار هذا الربيع وإرسالِ كلّ مثقفٍ أو سياسي، أو معارضٍ سوري، كان فاعلاً فيه إلى السجن.

أجهزت التحولات الاقتصادية التي مرت بها سوريا منذ منتصف الستينيات على الدعائم الاجتماعية للأيديولوجيا الليبرالية

انتهى "ربيع دمشق" للمفارقة لصالح توريث الرئيس السابق،  حافظ الأسد، مؤسسة الحكم لابنه، وهو التوريث الذي "تمت شرعنته سريعاً"، بحسب رضوان زيادة، من خلال قنوات حزب البعث وقيادته القُطرية ومجلس الشعب السوري والجيش؛ فكان أشبه بتغيير سريع لرُبّان السفينة التي أُلقي منها أولئك الذين تمت إزاحتهم، حتى لا يشكلوا عائقاً في وجه صعود الابن إلى السلطة، بتحويلهم المنتديات السياسية لأحزابٍ مستقبلية تحمل برامج سياسية واقتصادية متنوعة، يمكن أن تُحدث تغييراً حقيقياً في طبيعة تداول السلطة داخل سوريا.
في مقابلة أجراها رضوان زيادة مع رئيس قسم الشرق الأوسط في معهد الدراسات الألمانية، فولكر كيرتس،  أكّد الأخير أنّ بشار الأسد حين استلامه الحكم، تمتع بدعم جبهة اجتماعيةٍ واسعة، مثّلها البرجوازيون، ومن بعدهم رجال الدين من أجل الحفاظ على الاستقرار في سوريا، أما الليبراليون والمثقفون فقد أملوا في إصلاحاتٍ سلسة في جوّ من الاستقرار تضمن انفتاح السلطة اقتصادياً وسياسياً، إضافة إلى إمكانية استصدار قوانين أكثر ليبرالية في مسائل الاستثمار والتبادل والتجاري وغيرها.

اقرأ أيضاً: لماذا زار وزير الدفاع الإيراني دمشق؟
ويقرر كيرتس؛ أنّ "ربيع دمشق" لم يكن ذا قيمة سياسيةٍ في سوريا، ليس لأنه ليبرالي ونخبوي في الأساس، ولا لأنّ مطالباته كانت غير مهمة على الصعيد الاجتماعي، ولكن لأن السلطة في سوريا أرادت في النهاية لبرلةٍ اقتصادية تزيح بعض الضغط السياسي الخارجي، في ظلّ استلام بشار الأسد الحكم عن طريق التوريث في دولة جمهورية.
أرادت السلطة حماية المصالح الاقتصادية الكبرى عبر مركزية القرار السياسي، وهي المصالح التي يستفيد منها البرجوازيون والباحثون عن الاستقرار ورجال الأعمال الكبار، والذين شكلوا جميعاً جبهة داعمة لحكم الأسد الابن، بينما لم يكن لمجموعة من الحالمين ممن انضووا تحت مظلة "ربيع دمشق" أن يتوافقوا مع شيء من هذا، فقد كانوا يؤسسون لإمكانيات تغيير، ليس بالضرورة أن تحافظ مستقبلاً على صيغة البعث والسلطة والأسد كما هي عليه.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية