أردوغان.. هل حانت لحظة السقوط؟

أردوغان.. هل حانت لحظة السقوط؟


12/05/2019

اللجنة العليا للانتخابات في تركيا قررت، تحت ضغوط واضحة من الرئيس رجب طيب أردوغان، إعادة الانتخابات في بلدية إسطنبول، التي خسر فيها "العدالة والتنمية"، الحزب الحاكم، بعد أن عبّر أردوغان عن رغبته في إعادة تلك الانتخابات، وتقدّم بطعن أمام اللجنة، التي كشفت فوز مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، الذي كان قد تسلّم منصبه بالفعل قبل أن تعلن اللجنة قرارها بإعادة الانتخابات.

اقرأ أيضاً: إطاحة البشير تعرقل "مسلسل أردوغان" في السودان؟
القرار يأتي ضمن سياق عام لحكم أردوغان، بدا فيه يجنح بحماس نحو مزيد من الاستبداد الملتحف بدعاوى دينية وقومية، وتطليق الديمقراطية التي قال عنها، في بداية مشواره السياسي، كلمات دالة جداً، تشرّح فلسفة الرجل واتجاهاته: "الديمقراطية ليست بالنسبة إلينا هدفاً نهائياً؛ بل وسيلة لبلوغ الهدف، وسنسافر بقطار الديمقراطية كلّما تمكّنا من ذلك، وسنغادر القطار في إحدى اللحظات".

اقرأ أيضاً: الانتخابات التركية: لماذا يقاتل أردوغان لإبقاء اسطنبول في قبضة حزبه؟
لم يكشف الإسلاميون في مجموعهم أبداً عن إيمان أصيل بالديمقراطية، والتجارب في السودان ومصر، وغيرها، دالة على حقيقة نظرتهم إلى الحرية والديمقراطية، التي تبقى شعارات، وسلّماً يصعدون من خلاله إذا دعت الحاجة، لكنّهم لن يسمحوا لغيرهم، إذا استطاعوا أن يصعدوا على السلم نفسه، على حساب وجودهم في السلطة.

قرار إعادة انتخابات إسطنبول يأتي ضمن سياق عام لحكم أردوغان الجانح بحماس نحو مزيد من الاستبداد

ما أشبه الليل بالبارحة، مقولة تنطبق على الإسلاميين أيضاً، في كلّ تجربة سياسية أو اجتماعية خاضوها، فهم يمرون عبر دائرة مفرغة دائماً، كانت الأسباب التي دعت أردوغان للتمرد على أستاذه، أربكان، في السابق قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، بحسب أنصار أردوغان؛ أنّ الثاني كان ديكتاتوراً منفرداً بالسلطة، لا يؤمن بالديمقراطية، لكنّ التأمل في محطات الخلاف بينهما يكشف لنا نفسية أردوغان ومهاراته؛ ففي العام 1991 اتخذت قيادة حزب أربكان قراراً بالتحالف مع الجبهة القومية وحزب الإصلاحيين الديمقراطيين، دون تشاور مع شعبة الحزب؛ بل وتم اختيار مرشحين لتلك الانتخابات في إسطنبول، دون تشاور أيضاً مع شعبة الحزب هناك، وحاولت الشعبة التوسط ومراجعة القرار إلا أنّ مساعيها فشلت، وانتصرت سلطة أربكان، الذي وصفت بطانته الأمر بأنّه محاولة انقلابية داخل الحزب على سلطة أربكان، وعندما اختارت قيادة الحزب دعم مصطفى باش، على حساب أردوغان، الذي كان الثاني والأحق بالترشيح؛ لأنّه الأعلى أصواتاً، راجت وقتها أحاديث داخل أروقة الحزب عن أنّ أردوغان يسعى للسيطرة عليه، وكان ذلك دقيقاً، لكنّ أردوغان نفى ذلك، لشعوره بالضعف، وتقديره أنّه لم يحسم الصراع بعد، ولم يبنِ كتلته الحرجة.

اقرأ أيضاً: أردوغان بلا أصدقاء
وفي انتخابات 1994، في بلدية إسطنبول، التي كان أردوغان يتشوق لأن يبدأ منها رحلته للسلطة؛ رشّح الحزب علي جوشقون، لكنّ استطلاعات الرأي، التي كانت لصالح أردوغان، أجبرت القيادة مرغمة على ترشيح أردوغان.
ومع تصاعد الخلاف مع أربكان، الذي كان يدرك طموح أردوغان الجارف وعشقه للسلطة، قاد أنصار أردوغان حملة سوّقته داخل الحزب؛ بأنّه أكثر ديمقراطية وإيماناً بالتنوع، وأكثر انفتاحاً على المجتمع.
وعندما تأكد أردوغان من أنصاره داخل الحزب، قام بأكبر عملية انشقاق عن الحزب مع رفاقه المؤمنين بضرورة الديمقراطية والقيادة الجماعية، وتوديع سلطة "البطريرك" أربكان.

اقرأ أيضاً: أردوغان قلق بشأن ليبيا والسودان!! هذا ما قاله
لكن ماذا جرى بعد أعوام من وصول أردوغان إلى السلطة؟ جرت تحت الجسر مياه، وتعلّم الرجل كيف يأكل من ساندوه واحداً تلو الآخر، ويبني حزبه عبر استبعاد أيّ رأس يختلف مع توجهاته، أو يشكّل منافسة حقيقية لسلطته، وبعد أن تدرب طويلاً، متى يكمن، ومتى يهاجم، ظلّ يمضي في تعقيدات داخلية وخارجية حتى أصبح الحاكم بأمره، وانفضّ عنه من ثاروا على البطريركية السياسية لأربكان، بعد أن أصبح أردوغان الكاهن الأكبر الجديد، حتى يكاد تصدق عليه الآية الكريمة: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
لقد استغربت قبل أربعة أعوام، عندما واجه أردوغان أزمة في شعبية الحزب، وأكدتها استطلاعات الرأي، عندما قال لي صديق: إنّ لقاءً جمعه مع أحد الوزراء في حكومة "العدالة والتنمية"، وأنّ الأول عبّر عن مخاوفه من ألا يفوز الحزب في الانتخابات، بحسب ما تشير استطلاعات الرأي، ففوجئ بالوزير يقول له قد نضطر لفعل ما يفعله الآخرون، فقال له: تقصد تزوير الانتخابات!! وعندما استوقفه الأول بأنّ المنظومة إلكترونية لا يمكن التلاعب بها في حال قرر الحزب حتى تزوير الانتخابات، فأجابه بثقة: "لكلّ شيء حلّ".

الإسلاميون لن يسمحوا لغيرهم أن يصعدوا على السلم نفسه على حساب وجودهم في السلطة

ولأنّ لكلّ شيء حلّاً لدى أردوغان، فليس غريباً أن يطعن في نتائج الانتخابات في إسطنبول، التي قال عنها قبل أعوام: "من يسيطر على مدينة إسطنبول سيحكم تركيا"، وهو يتحسس رأسه من هذا الشاب الصاعد، أكرم إمام أوغلو.
لجأ أردوغان إلى كلّ شيء للبقاء في الحكم حتى وفاته؛ عدّل الدستور واستبدل النظام البرلماني بنظام رئاسي واسع الصلاحيات، أبعد كلّ من دعموه وساعدوه؛ كعبد الله غول، وأحمد داود أوغلو، هؤلاء الذين يفكرون في إطلاق حزب بديل عن "العدالة والتنمية"، وما يزالون محشورين بين تدابير بوليسية صنعها أردوغان، وحرج أخلاقي لم يمنع أردوغان في السابق من التمرد على أستاذه.
تركيا تمضي بدأب نحو استبداد بقناع ديني وقومي، يبطش بكل الفرقاء، سواء المعارضة التي يزوّر الانتخابات في مواجهتها إذا لم تمضِ لصالحه، أو فتح الله غولن، وحركته التي تصرّ على ضرورة إبعاد الدين عن السياسة، وبالتالي تعطل كلّ أسلحة أردوغان، وتكشف مشروعه، وهو ما يفسر حملات البطش المتصاعدة ضدّ أبنائها.

اقرأ أيضاً: إسطنبول... تحدٍّ جديد لتركيا أردوغان
صعد أردوغان إلى الحكم في تركيا على خلفية الادعاء بالدفاع عن الديمقراطية والتنوع والعمل والقيادة الجماعية، ولن يصنع سقوطه سوى المزيد من الغرق في وحل الاستبداد، والعصف بحقوق الآخرين، وتزوير إرادة الشارع، الذي تختمر تحت غضبه تحالفات تجمع الاشتراكيين الديمقراطيين، والقوميين، ومجموعات دينية محافظة، تدرك خطر مشروعه على بقاء تركيا ومستقبلها، وهؤلاء إذا أحسنوا بناء تحالفهم قد يكونون البديل الآمن لتركيا، واللحظة الكاشفة قد تكون نتائج تلك الانتخابات التي ستعاد في الثالث والعشرين من شهر حزيران (يونيو) المقبل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية