هل انقلب أردوغان على الديمقراطية؟

هل انقلب أردوغان على الديمقراطية؟


21/05/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


في 6 أيّار (مايو) الماضي، قرّر المجلس الانتخابيّ الأعلى في تركيا بأغلبيّة سبعة أصوات مقابل أربعة إبطال الانتخابات البلديّة في إسطنبول وإعادتها. وشهدت الانتخابات الأصليّة، الّتي جرت في 31 آذار (مارس) الماضي، فوز أكرم إمام أوغلو الّذي ينتمي إلى حزب المعارضة الرّئيس، حزب الشّعب الجمهوريّ، برئاسة البلديّة بهامش أصوات وصل إلى 13,729.

أدى فقدان حزب العدالة والتّنمية لسيطرته على إحدى أكبر مدن تركيا إلى تغيير واضح في الحالة الذهنيّة الشعبيّة

هذا، وسوف تعاد الانتخابات في 23 حزيران (يونيو) المقبل. وقد جرى تبرير قرار المجلس الانتخابيّ الأعلى عبر الادّعاء بأنّ بعض موظّفي صناديق الاقتراع لم يكونوا موظّفين مدنيّين. وبالنّظر إلى كافّة المخالفات الّتي تحدث في كلّ انتخابات في تركيا (والّتي لم يتمّ إبطال أيّ منها)، يُعدّ هذا تبريراً مثيراً للضّحك. وعلاوة على ذلك، كان ناخبو إسطنبول قد قاموا بالإدلاء بأصواتهم، في آن واحد، في ثلاثة انتخابات أخرى: الانتخابات المحلّيّة، ومجلس المدينة، و"المختار". وجُمِعت هذه الأصوات في الأظرف نفسها، وأُدلِي بها في صناديق الاقتراع ذاتها، صُحبة الأصوات الخاصّة بانتخابات البلديّة. ومع ذلك، لم تُبطل تلك الانتخابات الثّلاثة الأخرى. وأخيراً، كان في الانتخابات السّابقة أيضاً مسؤولو صناديق اقتراع غير حاملين لصفة الموظّفين المدنيّين.
لماذا، إذاً، أُبطلت الانتخابات البلديّة فقط وليس الانتخابات الأخرى؟ باختصار، ليس لقرار المجلس الانتخابيّ الأعلى أيّ مبرّر "تقنيّ" أو "قانونيّ". ويجب أن يسمّى الوضع بما هو عليه: انقلاب مدنيّ سعى إليه الرّئيس رجب طيّب أردوغان وحلفاؤه.

اقرأ أيضاً: هل يتخلى أردوغان عن صهره؟
في تحليلنا السّابق للانتخابات المحلّيّة، لفتنا الانتباه إلى حقيقة أنّ النّتائج - خاصّة في إسطنبول - ما تزال موضع خِلاف. وقد شهدت الانتخابات فقدان حزب العدالة والتّنمية الحاكم و"تحالف الشّعب" [الّذي يجمع بينه وبين حزب الحركة القوميّة اليمينيّ] السّيطرة على معظم المدن الكبرى، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة وأضنة ومرسين وأنطاليا. ولكن في إسطنبول على وجه الخصوص، رفض النّظام التّنازل ويسعى إلى عكس النّتائج. والأمر الّذي على المحكّ ليس فقط من سيصبح عمدة إسطنبول. بل إنّ مستقبل النّظام الحاليّ، الّذي يتألّف من التّحالف الرّسميّ بين حزب العدالة والتّنمية وحزب الحركة القوميّة وغيرهما، على المحكّ. وكذلك مستقبل تركيا نفسها.

سوف تعاد الانتخابات في 23 حزيران (يونيو) المقبل
ومن المحتمل أن يؤدّي القرار الّذي اتّخذه المجلس الانتخابيّ الأعلى إلى أن يذهب النّظام عميقاً في أزمته. وقد اتُّخِذَ القرار في جوّ مليء بالفعل بأزمات متعدّدة، أكثرها حدّة الأزمة الاقتصاديّة. وتشير البيانات الرّسميّة، وإن كانت غير جديرة بالثّقة، إلى حجم اليأس: فقد وصل معدّل البطالة إلى 14.7 في المائة في كانون الثّاني (يناير)، مع معدّل بطالة بين الشّباب وصل إلى أكثر من 26 في المائة. وتهاوت قيمة الّليرة مرّة أخرى، وفشلت علامات الانتعاش في الظّهور عندما تعلّق الأمر بالصّناعات التّحويليّة وغيرها من الصّناعات الحاسمة.
وهناك أيضاً صراع مستمرّ حول وضع تركيا داخل النّظام العالميّ. فقد أدّى قرار تركيا بشراء مخزون من أنظمة الصّواريخ الرّوسية "إس-400"، مرّة أخرى، إلى توتّر علاقاتها مع كلّ من الولايات المتّحدة وحلف النّاتو. وهو ما قاد إلى تهديد مايك بينس بأنّه يتعيّن على تركيا الاختيار بين النّاتو وروسيا. وعلاوة على ذلك، فإنّ عقوبات على النّمط الّذي تخضع له إيران، والّتي أعفيت تركيا منها حتّى الآن، تبدو وشيكة.

اقرأ أيضاً: مجلة أمريكية تصف أردوغان بــ "المرعوب".. لماذا؟!
وتلوح الأزمة الكرديّة خلف الأزمات الأخرى. ففي 2 أيّار (مايو)، مُنح المحامون إذناً لزيارة زعيم حزب العمّال الكردستانيّ المسجون، عبد الله أوغلان. وكانت هذه هي المرّة الأولى منذ ثمانية أعوام الّتي يحظى فيها بزيارة من هذا النّوع.
وقد أصدر أوغلان وثلاثة سجناء آخرين بياناً مكتوباً قصيراً، تلاه محاموه في مؤتمر صحافيّ يوم 6 أيّار (مايو) - بالصّدفة، قبل ساعات فقط من إعلان بطلان انتخابات إسطنبول. وفسّر البعض بيان أوغلان بأنّه دعوة للحركة الكرديّة للعودة إلى المفاوضات مع الحكومة. وكانت المصادفة بالتّزامن الوثيق بين إعلان أوغلان من جهة، وإلغاء الانتخابات من جهة أخرى، مصدر شائعات واسعة النّطاق. فقد افترض الكثيرون أنّ حزب العمّال الكردستانيّ أبرم صفقة مع أردوغان لسحب الدّعم الكرديّ للمعارضة بشكل جزئيّ، ممّا يسمح لمرشّح النّظام باستعادة إسطنبول.

اقرأ أيضاً: أردوغان لا يفكر في التخلي عن السلطة قبل 2023
ومع ذلك، لم تتمّ الإشارة إلى أيّ شيء من هذا القبيل في رسالة أوغلان. وعلى كلّ حال، يبدو السّلام بين القوات الكرديّة وحزب العدالة والتّنمية الحاكم مستحيلاً. وبالرّغم من طلب أوغلان بأن يُنهي محتجزو حزب العمّال الكردستانيّ إضرابهم عن الطّعام من أجل إطلاق سراحه، فقد أعلن السّجناء مواصلتهم للإضراب. ومن جانبه، صرّح حزب الشّعب الدّيمقراطيّ اليساريّ أنّ موقفه لم يتغيّر منذ 31 آذار (مارس)، ودعا إلى "نضال مشترك ضدّ الفاشيّة".

تباينات الكتلة الحاكمة
ماذا يمكن أن تكون الأسباب الحقيقيّة الّتي تقف وراء إبطال الانتخابات؟
منذ إغلاق صناديق الاقتراع، شرع فصيل داخل حزب العدالة والتّنمية في النّزاع بشأن النّتائج. وفي العديد من مناطق إسطنبول، استغرقت عمليّة إعادة فرز الأصوات ثلاثة أسابيع تقريباً بعد مزاعم الحزب الحاكم بوجود أصوات غير صالحة وغير محسوبة كما ينبغي. ومع ذلك، لم تغيّر عمليّة إعادة الفرز النّتائجَ بشكل كبير. وهكذا، شرع حزب العدالة والتّنمية في اختراع أعذار جديدة.

مزاعم للحزب الحاكم بوجود أصوات غير صالحة وغير محسوبة كما ينبغي
ومع ذلك، فإنّ استجابة حزب العدالة والتّنمية والكتلة الحاكمة لم تكن موحّدة. فقد دعا البعض داخل حزب العدالة والتّنميّة أو على مقربة منه إلى قبول النّتائج والانخراط في النّقد الذّاتيّ، حتّى عندما استهلّ آخرون حملة لنزع الشّرعيّة عن الانتخابات.
وفي خضمّ ذعره بعد ظهور النّتائج، تشظّى حزب العدالة والتّنمية داخليّاً بشأن كيفيّة الرّدّ. حتّى أردوغان، في ليلة الانتخابات وبعدها، تأرجح بين القبول الواعي ذاتيّاً بالنّتائج والضّغط العدوانيّ ضدّ النّتائج ذاتها. ولم يوجّه دعوته الواضحة بطلب إعادة الانتخابات بسبب وجود "مخالفات" هائلة إلّا يوم 4 أيّار (مايو) الماضي.

اقرأ أيضاً: أردوغان.. هل حانت لحظة السقوط؟
وكانت "رابطة الصّناعة والأعمال التّركيّة" لاعباً نشطاً بشكل خاصّ بعد الانتخابات، وهي الّتي تمثّل رأس المال الكبير. ففي ليلة الانتخابات، دعت إلى حملة إصلاح اقتصاديّ واسعة النّطاق (وكرّر أردوغان هذا القول في تصريحاته العامّة في الّليلة نفسها). وفي الأسابيع التّالية، أكّدت الرّابطة أنّ الدّورة الانتخابيّة قد انتهت وأنّ الوقت قد حان لإيلاء كلّ الاهتمام للمسائل الاقتصاديّة. ووصفت الرّابطة قرار المجلس الانتخابيّ الأعلى بالـ"مقلق". وهو ما تماشى مع القرار الدّال لمجموعة "كودج" البرجوازيّة بزيارة إمام أوغلو يوم اتّخاذ قرار الإبطال.
إنّ رأس المال الكبير، إذاً، يشعر بالقلق من أن تقود مناورات حزب العدالة والتّنمية وحزب الحركة القوميّة للحفاظ على هيمنتهما الهشّة إلى تفاقم الأزمة الاقتصاديّة. لكن إسطنبول مهمّة للغاية بالنّسبة إلى الكتلة الحاكمة بحيث لا يمكنها أن تضحّي بها. والسّبب أنّها قلب الاقتصاد، بما تحتوي عليه من 20 في المائة من سكّان البلاد.

اقرأ أيضاً: الانتخابات التركية: لماذا يقاتل أردوغان لإبقاء اسطنبول في قبضة حزبه؟
ثانياً، حكومة حزب العدالة والتّنمية في إسطنبول فاسدة للغاية. وإذا وصلت المعارضة إلى السّلطة، فبإمكانها الحصول على وثائق وبيانات البلديّة، ومن ثمّ فضح عطاءات مناقصات وعمليّات نقل موارد غير لائقة. وهذا من شأنه أن يضرّ بسمعة حزب العدالة والتّنمية بشكل كبير. وقد اغتنم إمام أوغلو، على سبيل المثال، فرصة انتخابه لطلب كافّة بيانات البلديّة من إدارة حزب العدالة والتّنمية بشأن إسطنبول؛ وعلى الفور تقريباً، قامت إحدى المحاكم بتعطيل قراره.
وأخيراً وليس آخراً، أدّى فقدان حزب العدالة والتّنمية لسيطرته على إحدى أكبر مدن تركيا إلى تغيير واضح في الحالة الذّهنيّة الشّعبيّة. وفي الأعوام الأخيرة، تعزّزت ميول النّظام السّلطويّة على حساب قدرته على احتضان القوى المعارضة. وخاصّة في سياق الأزمة الاقتصاديّة، سيكون لديه القليل من القدرة على استيعاب موجة جديدة من الأمل.

 

 

تكرار للكوابيس القديمة؟
لن يأمل النّظام فقط ودونما عمل في تحقيق نتائج مختلفة في الانتخابات الجديدة. فبالتّأكيد لديه خطّة لكيفيّة تغيير النّتيجة. ولكن هذا لا يعني بالضّرورة أنّ هذه الخطّة ستكون ناجحة. فالكثير سيعتمد على تصرّفات المعارضة والقوى الشّعبيّة.
لقد مرّت البلاد بعمليّة مماثلة عندما هُزِم حزب العدالة والتّنمية في انتخابات حزيران (يونيو) 2015. وجاء ردّ الحزب عبر المطالبة بإجراء انتخابات أخرى في تشرين الثّاني (نوفمبر) من ذلك العام؛ في غضون ذلك، غُمِرت البلاد بالحرب والدّم. وقد ساعد الإرهاب الّذي أطلقوه على إعادة حزب العدالة والتّنمية إلى السّلطة في الانتخابات المُعادة.

اقرأ أيضاً: مأزق المشروع الإخواني يجمع الغنوشي وأردوغان في إسطنبول
وأشار أردوغان نفسه إلى هذه الفترة في الدّفاع عن عمليّة إعادة الانتخابات، قائلاً إنّهم سيفوزون مجدّداً كما فعلوا في عام 2015. ومن المحتمل جدّاً أن تحاول الكتلة الحاكمة تقسيم المعارضة إلى معسكرات بحيث لا يمكنها التّصويت لصالح المرشّح نفسه - ومحاولة ترهيب المعارضة للاستسلام. كذلك، سيتلاعبون بالقضيّة الكرديّة وما يسمّى الحرب ضدّ الإرهاب لجعل أجزاء من المعارضة تبدو خارجة عن حدود السّلوك المقبول. وربّما سنرى القنابل تنفجر مرّة أخرى، كما حدث في عامي 2015 و2016.
هذا، وقد شهدنا حالة نموذجيّة لـ "استراتيجيّة الانتخابات" الّتي يتبنّاها النّظام في 22 نيسان (أبريل)، عندما كاد رئيس حزب الشّعب الجمهوريّ كمال كيليتشدار أوغلو يُقتل في جنازة أحد الجنود في أنقرة. ولم يتدخّل أيّ من أفراد الأمن تقريباً. بل إنّ خلوصي عكار، وزير الدّفاع الوطنيّ ورئيس الأركان العامّة السّابق، ألقى كلمة أمام الجماهير الموجودة في مكان الحادث، ووصفهم بـ "أصدقائه المحترمين"، مضيفاً "أنّهم أظهروا رسالتهم بشكل واضح بما فيه الكفاية". وكان أبطال محاولة الاغتيال فائقة التّنظيم هذه من أعضاء حزب العدالة والتّنمية، وقد احتُجزوا لفترة قصيرة فقط قبل إطلاق سراحهم.
الرّسالة واضحة: يمكن للنّظام استخدام قوّاته شبه العسكريّة في سياق الانتخابات وسيفعل ذلك. وتكتسب الكتلة الحاكمة خصائص فاشيّة بوتيرة لا رجعة فيها الآن. وكلّما استخدمت القوّة للدّفاع عن وصايتها، زاد اعتمادها على العنف، مع استبعاد الإستراتيجيّات الأخرى.

 أكرم إمام أوغلو

قوّة شعبيّة ضدّ الفاشيّة

لقد قوبل قرار المجلس الانتخابيّ الأعلى باحتجاجات واسعة في العديد من أحياء إسطنبول. ومن جانبه، ألقى أكرم إمام أوغلو خطاباً في الّليلة نفسها. وفي هذا الخطاب، اتّخذ أسلوباً أكثر عدوانيّة من ذي قبل، وسعى إلى تقديم نفسه كزعيم لحركة شعبيّة. وهو سيترشّح مرّة أخرى عن حزب الشّعب الجمهوريّ في إسطنبول في 23 حزيران (يونيو) المقبل. ونظراً لأنّ حزب الشّعب الجمهوريّ بالرّغم من كلّ شيء هو بشكل جوهريّ حزب دولانيّ، فإنّ الدّعوة للمقاطعة لم تكن مرجّحة على كلّ حال.

اقرأ أيضاً: انتفاضة تركية ضد أردوغان في عيد العمال.. "جيوبنا خاوية"
لا يمكننا التّنبؤ بالأحداث القادمة. لكن هذه الخطوة القاضية بإعادة الانتخابات تُعدّ مجازفة كبيرة من جانب أردوغان والنّظام. واعتماداً على أفعال وردود فعل  الّلاعبين الآخرين، يمكن أن تأتي الإعادة بنتائج عكسيّة وتُغرق النّظام في أزمة أعمق.
تُعدّ الاحتجاجات التّلقائيّة، الّتي تُبرز شعارات ورموز مشابهة لانتفاضة "غيزي بارك" في عام 2013، تطوّراً إيجابيّاً يحتاج إلى تعميقه بواسطة القوى الشّعبيّة والدّيمقراطيّة. وتكمن نتائج النّضالات الحاليّة في أيدي النّاس. فإذا أخذوا المبادرة ولم يسمحوا للنّظام بتنفيذ انقلابه المدنيّ بنجاح، فقد نشهد عمليّة دمقرطة حقيقيّة.


المصدر: جوناي إيشيكارا /ألب قيصاريلي أوغلو /ماكس زيرنجاست، جاكوبين



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية