مصر: سينما الغيبوبة إذ تصادر أشواق الإنسان البسيط

مصر: سينما الغيبوبة إذ تصادر أشواق الإنسان البسيط


23/05/2019

"أدركت قانون السبعينيات، ولعبت عليه، وتفوقت... تاجرتُ في كلّ شيء؛ القانون والأخلاق"؛ بتلك المرافعة، صدح النجم الراحل أحمد زكي، في فيلم "ضدّ الحكومة" (1992)، أمام المحكمة، واصفاً كيف عزّز الانفتاح ثقافة المتاجرة وتسليع الإنسان، ليعيد محاكمة تلك الحقبة الساداتية التي كانت مصر ماتزال تعاني تبعاتها، بعد أن أخذ العقد الاجتماعي ينفرط كحبات اللؤلؤ تحت وطأة القهر والعبث بطبقات المجتمع.

السبعينيات... سينما الرِّدة
العام 1992 عُرض فيلم "السجينة 1967"؛ حيث انتظرته الجماهير بتوق كبير، فما يزال التاريخ المعنون به الفيلم يقضّ مضاجع من عاصر النكسة منهم، فإذا به لم يشتبك مع الهزيمة إلّا في اسمه، فلم يتعدّ سوى سرد لقصة الفهلوة التي طغت على المصريين، والصراع الطبقي، الذي تجسد فيما مارسه البطل حسين (هشام سليم)، الزوج الفقير من أبناء الطبقة العاملة، ضدّ زوجته الثرية أحلام الببلاوي (إلهام شاهين)، والتي كثيراً ما نصحها والدها بالابتعاد عنه، حتى تتبين صحة كلامه، حين يبتزها الزوج لدفع 50 ألف جنيه مقابل أن يطلقها، لتتورط في شراكة مع محامٍ فاسد، يدعها سجينة تحمل رقم 1967، ليكتب بعدها الناقد السينمائي المصري، طارق الشّناوي، مقالاً في "روز اليوسف"، بعنوان "سينما الغيبوبة"، منتقداً فيه ذلك السرد الذي أوقع الإبداع المصري، أسيراً لتابوهات اجتماعية، فوقع الغني أسير الفاسد والفقير الحاقد، وهو بالطبع ما رسخّته ثقافة الفهلوة التي حلّت محل ثقافة العمل والإنتاج، رغم مرورعقد ونيف على قرارات السادات بالانفتاح الاقتصادي، الذي لم يظهر أثره على الشعب المصري، إلّا بعدها بفترة.

اقرأ أيضاً: داوود عبد السيد: تحويل الأدب إلى السينما "افتراس"

 فيلم "السجينة 1967"
استمّرت سينما السبعينيات بطابعها السياسي المنقلب على نظام عبد الناصر ورموزه، مستخفاً بإنجازاته، وفاتحاً الباب على مصراعيه أمام كلّ مهاجم للنظام السابق، فيما وصف المخرج علي بدرخان سينما السبعينيات بأنها "ردّة عن الموجة الثورية"، ولم تجد الأفلام الواقعية التي تعبر عن واقع المصريين بعد سياسات الانفتاح، والعطب الذي ضرب بأذنابه جذور المجتمع إلّا بعدها بأعوام، فيما حافظ شباب الثمانينيات من المخرجين، على رأسهم عاطف الطيب، على الحلول الثورية، والتي سمّاها الشنّاوي "سينما الإنسان البسيط"؛ ففي أشهر أفلامه "البريء"، والذي تصدر قائمة أفضل مئة فيلم في السينما المصرية، برقم 28، استطاع عاطف الطيب وضع الثورة في يد المواطن البسيط، ابن الريف الذي لم يلقَ أيّ قدر من التعليم، بعد أن أدرك بالتجربة من هم الفاسدون الحقيقيون، ففتح نيران بندقيته على الجميع، دون أن يبالي بالنتائج، وهو الطابع الجذري الذي اتشحت به سينما الطيب، لتأتي التسعينيات بموجة جديدة بعدما ضرب تيار الإسلام السياسي بأفكاره جذور المجتمع، بدءاً بالجماعات المسلحة في الصعيد، مثل الجماعة الإسلامية التي انطلقت من أسيوط، إلى الجمعيات الخيرية التي امتدت في ربوع القاهرة وقرى الدلتا، لتظهر اللحى على الشاشات في ثوب سينمائي جديد على المصريين.
الخلاص الفردي وطوق النجاة
في فيلمه "المنسي"، 1993، قدّم السيناريست وحيد حامد أولى أشكال التحول الطبقي والاجتماعي التي آل إليها حال المجتمع المصري، فالبطلة "يسرا" تعمل سكرتيرة لرجل الأعمال "كرم مطاوع"، وتلجأ لحماية عامل التحويلة في خطوط السكة الحديد، عادل إمام، ليتطور الحوار بينهما، الذي من خلاله يمكن استنتاج مآلات الطبقة الكادحة، وكذلك طبقة الأغنياء الجدد، التي لم تعد من أبناء الإقطاعيين، وإنما من أصحاب الأعمال الذين استطاعوا اعتلاء أعلى درجات السلّم الاجتماعي عن طريق المتاجرة في كلّ شيء، بدءاً بصفقات الأغذية الفاسدة، إلى تجارة العقارات التي فتحت الباب على مصراعيه أمام كلّ طالب مال، لكنز الثروات، إضافة إلى تزاوج السلطة برأس المال، وهو ما كان متفشياً في مصر أيام مبارك، وكان أحد أسباب تراكم الغضب الشعبي، الذي آل في النهاية إلى ثورة يناير 2011.

استمّرت سينما السبعينيات بطابعها السياسي المنقلب على نظام عبد الناصر فيما قدمت سينما التسعينيات موجة المضحكين الجدد

فيلم "أهل القمة"، عن قصة نجيب محفوظ، ضمن مجموعة "الحب فوق هضبة الهرم"، حوّله علي بدرخان إلى فيلم، عام 1981، وجسد "بزوغ فجر الاقتصاديات الطفيلية، التي اقتات عليها أثرياء الطبقة الجديدة من التجار ورجال الأعمال" فالعلاقة التي تنشأ بين رجل الأعمال المتدين، واللصّ الذي يتعاون معه على تهريب بضائع ممنوعة من الجمارك، تحت غطاء قانوني سمح بحرية الصادرات والواردات، ما فاقم التهريب والغش والرشاوى.
وترافق ذلك مع أشكال الفساد الممكنة، التي سمحت بنمط اقتصاد طفيلي تنامت في ظله الريعية الممنهجة من تجارة العقارات، والانقضاض على القطاع العام، وتحول الاقتصاد من إنتاجي إلى خدمي، وهو ما رصده نجيب محفوظ بسلاسته المعهودة، وحافظ عليها بدرخان في السرد السينمائي الذي حرص على قالب النص الأدبي بين طيّات السيناريو.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تصنع السينما إرهابياً حقيقياً؟
 "فارس المدينة"، 1991

القضاء على ابن الطبقة الوسطى
قدّمت موجة الواقعيين الجدد في الثمانينيات رصداً دقيقاً لابن الطبقة الوسطى، الذي لم يصمد أمام مجتمع المخاطر، كما وصفه كتاب "مجتمع المخاطر العالمي" لعالم النفس الألماني الراحل، أولريش بيك؛ حيث أذناب النيوليبرالية الضاربة في جذور المجتمع، تستهدف الطبقة الوسطى وتصفعهم صفعة الموت مخبرةً إياهم أنّ التعليم والثقافة لن يؤهلا صاحبهما للعيش كريماً، إلّا إذا تحولا أيضاً لأداة تجارية لمن يدفع أكثر، كما فعل ابن الطبقة الوسطى الذي رصده عاطف الطيب في فيلمه "الحب فوق هضبة الهرم"، عام 1986، وجسده أحمد زكي، مؤدياً شخصية علي عبدالستار، الموظف الحكومي الحاصل على شهادته الجامعية، والذي يفقد قدرته على ممارسة حقه في الزواج بحبيبته؛ بسبب ضيق ذات اليد.

قدّمت موجة الواقعيين الجدد في الثمانينيات رصداً دقيقاً لابن الطبقة الوسطى الذي لم يصمد أمام مجتمع المخاطر

فالوظيفة الحكومية لم تعد، بحسب وقائع الفيلم، كما كانت أيام الناصرية التي عاصرها والده، ولا تضمن للموظف حياة كريمة للأسرة، بل حوّلت جميع من حول علي إلى روبوتات، يمارسون روتين عمل لا يفهمونه، ولولا القدر الذي تلقاه علي من الوعي والثقافة لتحول كأقرانه إلى روبوت، يقتات من الرشاوى والفهلوة واستغلال حاجات الآخرين.
وفي فيلمه "فارس المدينة"، 1991، قدّم محمد خان، أحد رواد موجة الواقعية الجديدة، مآلات الطبقة الوسطى المنسحقة تحت عجلات الانفتاح، وتعقيدات الصراع الطبقي الذي تغيّرت أطرافه، ووقف أبناء الطبقة الوسطى على هاويته متشبثين بما تبقى من أحلامهم، محاولين ترويض الأوضاع الجديدة والخروج بأكثر مكسب ممكن.

اقرأ أيضاً: كيف خدمت السينما أعمال إحسان عبدالقدوس؟
أفلام خان؛ بدءاً من "ضربة شمس" العام 1978، و"طائر على الطريق" العام 1981؛ رصدت بعناية كيف حطمت سطوة رأس المال البنيات المجتمعية المتشابكة والمستقرة بعض الشيء، فيما قبل 1974، وأيّدت هذا التحليل، أستاذة السيناريو بالمعهد العالي للسينما، الدكتورة سناء هاشم، قائلة لـ"حفريات" إنّ سينما الثمانينيات "كانت سينما الإنسان بلا شكّ، بدأها المخرجون برصد وقائع الإنسان المصري المهزوم تحت عجلات الانفتاح، وسحق الطبقة الوسطى الحاملة لقيم المجتمع، لتتهاوى كلّ تلك القيم أمام أخلاقيات طفيلية دخيلة، لم يعهدها المصريون من قبل، فالسادات لم يسمح بحرية التجار فحسب، بل سمح بحرية الفساد والإفساد، والجميل في ذلك؛ أنّ السينما لم تكن بمعزل عن تلك القضايا الجوهرية، فرصدتها بقوة، وتصدى لها عاطف الطيب ومحمد خان، وكانا فرسان سينما الإنسان البسيط".
 فيلم "إسماعيلية رايح جاي"، للمخرج كريم ضياء الدين

موجة المضحكين الجدد
في عقد التسعينيات خرجت سينما بثوب جديد، أطلق عليها موجة "المضحكين الجدد"، الذين سعوا إلى تقديم منتج سينمائي استهلاكي سريع، مثل فيلم "إسماعيلية رايح جاي"، للمخرج كريم ضياء الدين، ثم "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، و"الناظر"، و"عبود على الحدود"، حيث قدمت نموذجاً كوميدياً هزلياً لا طائل منه، ولا قضية بين طياته، وأيضاً جاء بثوب محافظ، لينبثق منه فيما بعد ما سماه الإسلامويون "السينما النظيفة". على ذلك تعلق الدكتورة سناء: "خرجت تلك الموجة الهزلية كرثاء للشعب المصري، الذي تحمّل تبعات حروب ضارية لم يجنِ منها سوى مزيد من الإفقار، وهذه سمة الشعوب المهزومة؛ فهي إما غارقة في الدراما، أو مغرقة في الهزل والضحك غير الموضوعي، وقد لاقت هذه السينما رواجاً كونها محافظة على الإطار التقليدي المتدين للمجتمع المصري، المشبع بثقافة الاستهلاك، حتى  أصبحت السينما سلعة تحددها مبادئ الطبقات الجديدة المتربعة على عرش المجتمع".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية