بخصوص التصوّف الاستهلاكي!

بخصوص التصوّف الاستهلاكي!

بخصوص التصوّف الاستهلاكي!


26/05/2019

لم يعد التمسّح بالتصوف والمتصوفين، مقتصراً على الشعراء والروائيين العرب، على اختلاف مشاربهم ومآكلهم، بل امتد ليشمل العلمانيين العرب أيضاً، المتدينين منهم وغير المتدينين؛ فالعبارة الصوفية، بما تمتلكه من طاقات إيحائية هائلة، تروي كثيراً من مظاهر الجفاف في النصوص العربية المكرورة.

اقرأ أيضاً: المغرب: التصوف في مواجهة التطرف.. لمن الغلبة؟

وإذا كان من الميسور أن نجد في نصوص الشعراء والروائيين -بغض النظر عن حقيقة مواقفهم الأيديولوجية- كثيراً من المسوّغات الفنية التي تبرر توظيف عبارات أو نصوص للحلاج أو النّفري أو ابن عربي أو جلال الدين الرومي، فإنّ كثيراً من العَنَت سيجلل أي محاولة لتفسير تعلق العلمانيين العرب غير المتدينين، بالتصوف والمتصوفين، رغم الجرعة الميتافيزيقية المضاعفة التي يحملها النص الصوفي بين طياته، ورغم التناقض الصارخ الذي يمكن الوقوف عليه، لدى كاتب عدمي لا يجد مانعاً من حقن عدميته الباردة، بشيء من دماء التصوف الحارة المتدفقة.

إنّ التصوّف بحاجة ماسّة لدراسات تاريخية معمّقة تسلّط الضوء على البعد السياسي والاجتماعي والحركي فيه

لكن الأكثر إثارة للانتباه، على امتداد العقود الثلاثة الماضية، اتجاه بعض النسويات العربيات الغاضبات، إلى المزاوجة في نصوصهن المكشوفة، بين صرخات الجسد المحموم وتجليات الروح المتطايرة، إلى درجة الاعتقاد بأنّ ثمة تماهياً غير قابل للانفكاك بين الرغبة الجسدية الثائرة وصرخة الناسك في جوف الوجود.

وأياً كان المدى الذي يمكن أن نبلغه على صعيد تحليل وتفسير هذه المفارقات، فإننا لا نستطيع التنكر لحقيقة أن التصوّف أصبح (ثيمة) أدبية وفنية وفكرية مرغوبة، وذات مردود جماهيري مضمون، يصل حد اعتبارها متطلّباً تسويقياً ضرورياً، سواء على صعيد الشكل أو المضمون. دون أن نتناسى أيضاً حقيقة أن هذا الانكباب المفاجئ على الكنز الصوفي، لا يعني بحال من الأحوال، أن مستوى الوعي المستخلص يشير إلى استيعاب حقيقي لجوهر وسيرورة التصوّف، معرفياً وتاريخياً.

اقرأ أيضاً: هل جنى التصوف على حضارة الإسلام؟

وأحسب أنّ كثيراً من المتعلّقين بأستار التصوّف الاستهلاكي، يجهلون الوظائف والأدوار الخطيرة التي اضطلع بها في التاريخ العربي؛ فهم يجهلون مثلاً حقيقة أنّه اتخذ شكلاً من أشكال التنظيم النقابي الدقيق الهادف إلى حماية المجتمعات الصغيرة تحت مسمّى (الفتوة)، وذلك في ذروة تفكك السلطة السياسية العباسية.

ولعل أدق وأقدم إشارة وصلتنا بهذا الخصوص، وردت في تضاعيف رحلة ابن بطوطة الذي تطوّع لوصف (بيوت الضيافة) التي كان الصوفيون يشرفون على إدارتها وصيانتها وتوجيه خدماتها إلى طلبة العلم والرحّالة ومن تقطّعت بهم السبل. كما يجهل هواة الانزلاق على سطوح النص الصوفي، حقيقة الأدوار والوظائف التي اضطلع بها المتصوّفة، على صعيد التصدّي للحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام تحديداً، فمثّلوا على الأرجح أقدم أشكال المقاومة الشعبية المنظّمة.

اقرأ أيضاً: هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟

كما أجزم، بأنّ كثيراً من المغرمين بالبعد الدرويشي -نسبة إلى الدرويش- في التصوّف، يجهلون الأدوار الخطيرة التي اضطلع بها التصوّف، إلى درجة الزعم بأنّه كان الرافعة الرئيسة لتغيير مجرى الأحداث في العراق والشام ومصر والمغرب العربي.
وإذا كان الغموض ما يزال يلف تفاصيل ذلك اللقاء الحاسم بين صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ) وشيخه عبدالقادر الجيلاني (ت561هـ) في بغداد، فإنّ تفاصيل ما ترتب على ذلك اللقاء بعد ذلك، لا تخفى على المؤرّخ أو الباحث المدقق؛ فقد وظف صلاح الدين الأيوبي المدّ الصوفي الشعبي لضرب عصفورين بحجر واحد؛ فأنهى الوجود الصليبي في فلسطين من جهة، كما أنهى الوجود الفاطمي في مصر وبلاد الشام من جهة أخرى، فضلاً عن إعادة المغرب العربي إلى المذهب المالكي، مستعيناً على ذلك كله، بمئات (الربّاطات) الصوفية التي لم تمثل محطّات للعبادة فقط، بل مثّلت ثكنات عسكرية ونقاط اتصال فعّال، غيّرت مجرى التاريخ والأيديولوجيا بكل ما في الكلمة من معنى.

إن أغلب ما يتم تداوله من شذرات وعبارات صوفية في النصوص العربية ليس أكثر من تصوّف استهلاكي

وإذا كان ما تقدم يمكن أن يصدم وعي من لا يعرفون عن التصوّف إلا سَمْته الفولكلوري في الموالد والمناسبات، فإنّ الوقت قد حان للقول بأنّ ما يتم تداوله من شذرات وعبارات صوفية في النصوص العربية، ليس أكثر من تصوّف استهلاكي وصل حد التعليب التجاري عبر العديد من التسجيلات المرئية والمسموعة لأبرز القصائد الصوفية، وعبر تحويل الأنين الصوفي المخلص والأصيل، إلى شكل من أشكال الانفصال عن الواقع والغياب في الذات المغتربة والمأزومة.

ولا أحسبني أبالغ إذا قلت: إنّ التصوّف ما يزال بحاجة ماسّة لدراسات تاريخية معمّقة، تسلّط الضوء على البعد السياسي والاجتماعي والحركي فيه، بعد أن وقر في أذهان كثير من المثقفين، أنه مجرّد شطحات لعدد من النسّاك المجذوبين والمأخوذين، خارج سياق الواقع الموضوعي.

رغم أنّ غير قليل من الأقطار العربية، ما تزال تشهد بقايا تلك السطوة الفكرية والسياسية والاجتماعية الغابرة للتصوّف، وإلى الحد الذي دفع بعض الباحثين والمحللين والمراقبين، لتوقع إمكانية انبعاث تلك السطوة مجدّداً.

وأما بخصوص ما يُتناقل من وصفات صوفية جاهزة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي فحدّث ولا حرج؛ فقد بلغ الأمر حدّ نسبة المئات من العبارات الركيكة لأعلام التصوّف، دون أو ترفّ للناقلين جفون، ولو قيض لجلال الدين الرومي أن ينهض من قبره، لتبرّأ من هذه العبارات التي تغلب عليها الرطانة والسذاجة، ولمدّ يده إلى أيدي محمود درويش وغسان كنفاني وابن خلدون وابن رشد الذين لم يسلموا أيضاً من هذا التمجيد الاستهلاكي المعيب لسلطانهم الثقافي، وهذا هو التوظيف الانتهازي المؤسف لوهجهم الإبداعي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية