كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟

الأحزاب العربية

كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟


28/05/2019

بعد تأسيس "حزب البعث العربي الاشتراكي" في سوريا عام 1952 بدأ الحزب بتوسيع قاعدته في عدد من الأقطار العربية المجاورة، وبذلك أصبحت له قيادة قوميّة مركزيّة مقرّها دمشق وقيادات قُطريّة في كل قُطر نشط فيه الحزب، وفي العام 1954 اعترفت القيادة القوميّة للبعث بفرع الحزب في العراق، وتم تعيين فؤاد الركابي أميناً لقيادته القُطريّة.

فؤاد الركابي الأمين الأول لحزب البعث العراقي

يحيا عبد الكريم قاسم .. يسقط عبد الكريم قاسم

في تلك المرحلة كان المشهد السياسي في العراق يزداد اضطراباً وغلياناَ؛ فبعد هزيمة عام 1948 في فلسطين وما تلاها من اندلاع ثورة الضُبّاط الأحرار في مصر وبداية تبلور وصعود تأثير الناصريّة في المنطقة، في وقتٍ بدأ فيه انضمام العراق إلى "حلف بغداد" برعاية إنجليزية، فيما تتعرض مصر لعدوان ثلاثي بقيادة بريطانيا عام 1956، تصاعد الحراك الوطني والقومي الرافض لسياسة التبعيّة التي كان ينتهجها النظام الحاكم في العراق، بقيادة نوري السعيد، وعبد الإله، الوصيّ على العرش.

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري.. كيف كانت البداية؟ وكيف وصل للحكم؟
حمل لواء هذه الحراك تنظيم "الضباط الوطنيين" في الجيش العراقي، وفي 14 تموز (يوليو) عام 1958 نجح التنظيم في قلب نظام الحكم والإطاحة بالأسرة الحاكمة وتأسيس جمهوريّة عراقيّة، وتولى عبد الكريم قاسم منصب رئيس الجمهوريّة، فيما أيد البعث العراقي هذا التحرّك باعتباره متوافقاً مع مبادئه ومنطلقاته القوميّة؛ حيث رأى فيه تمهيداً لانضمام العراق إلى الجمهوريّة العربيّة المتحدة (المُشكّلة من مصر وسوريا).

عبد الكريم قاسم.. يلقي كلمته الأولى بعد نجاح الثورة

اتجه قاسم للتقارب مع الشيوعيين وابتعد عن التيار القومي عامةً والبعث بشكل خاص، وحين حاول عبد الناصر ضم العراق إلى مشروع الوحدة دخلت بغداد في صراع مباشر مع القاهرة، بلغ ذروته في محاولة عبد الوهاب الشوّاف الانقلاب على عبد الكريم قاسم عام 1959، ومع فشل الانقلاب، الذي تبعته عمليات قمع طالت مجمل التيار القومي، حاول البعثيون اغتيال قاسم عام 1959 إلا أنّ فشل المحاولة دفع الركابي للفرار إلى سوريا.
على حدود السلطة .. على حافة السقوط
تفرّد عبد الكريم قاسم بالحكم، ولم يُتح المجال أمام أحزاب الجبهة الوطنيّة لممارسة نشاطاتها السياسية، ودفع ذلك البعثيين للإعداد لانقلاب على حكمه، واتجهوا بقيادة "علي صالح السعديّ" للتحالف مع عدد من القادة العسكريين من ضمن صفوف "الضُبّاط الوطنيين" وفي مقدمتهم "عبد السلام عارف" وشقيقه "عبد الرحمن عارف"، وفي الثامن من شباط (فبراير) جرى الانقلاب على حكم قاسم، وكان انقلاباً دموياً راح ضحيته عبد الكريم قاسم نفسه وعدد كبير من رفاقه، وتولّى عبد السلام عارف الحكم وأصبح رئيساً للجمهوريّة، في حين تم إسناد 12 منصباً وزارياً للبعثيين.

اقرأ أيضاً: حزب الوسط المصري إذ يدور في فلك جماعات الإسلام السياسي
بعد نجاح الانقلاب بدأت الخلافات تدبّ بين الحليفين؛ فوقع خلاف بين عبد السلام عارف والتيار البعثي الراديكاليّ بقيادة السعديّ الذي جرى إقصاؤه هو ومجموعة من رفاقه في تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، فيما عُرف بـ "حركة تشرين التصحيحية"، أو "ردّة تشرين السوداء"، بحسب تيار السعديّ، الذي رأى في الحركة إبعاداً للبعث عن الحكم وتحوّلاً نحو الحكم العسكريّ المُفرَغ من الأيديولوجيا.

من اليمين: عبد السلام عارف وعلي صالح السعدي جمعهما شباط وفرّقهما تشرين

البعث في الحكم
في 13 نيسان (إبريل) 1966 لقي عبد السلام عارف مصرعه إثر سقوط طائرة هليوكوبتر كان يستقلها في ظروف غامضة، وتولّى الرئاسة من بعده شقيقه عبد الرحمن عارف، الذي شهدت فترة حكمه حرب العام 1967 والهزيمة العربيّة، وبعد عام تقريباً جرى انقلاب عليه على مرحلتين: الأول في 17 تموز (يوليو) حيث تحالف البعثيون مع قيادات عسكريّة غير بعثيّة من داخل نظام عارف، وأطاحوا به في "ثورة بيضاء" وكان في مقدمة من تحالفوا معهم: عبد الرزاق النايف، رئيس الاستخبارات العسكريّة، وابراهيم الداود، رئيس الحرس الشخصي لعارف، وفي 30 تموز انقلبوا على حلفائهم ونفوهم خارج البلاد، ليصبح "أحمد حسن البكر" الضابط البعثيّ والعضو السابق في تنظيم "الضباط الوطنيين" رئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهوريّة، في حين أصبح صدام حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخليّ، فيما اعتُبر بداية الحكم الفعليّ للبعث في العراق.

من اليمين: أحمد حسن البكر وصدام حسين

شهدت فترة البكر نوعاً من الاستقرار الداخلي والتوازن في العلاقات الخارجية؛ فتم توقيع "اتفاق الجزائر" مع إيران عام 1975 فيما يخص النزاع على "شط العرب"، وعلى إثره بدأت عملية تهدئة مع الأكراد في الشمال بعد وقف إيران تقديم الدعم لهم، وعلى الصعيد العربي، قام البكر بإرسال قوات دعم لسوريا ومصر في حرب تشرين عام 1973.

اقرأ أيضاً: كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، شهدت هذه الفترة ارتفاعاً في أسعار النفط، ما أتاح الفرصة لتحقيق مستويات تنمية اقتصادية مرتفعة، كما ازدهر التعليم وبُنيت العديد من الجامعات والمعاهد على امتداد البلاد.
صعود صدّام .. خفوت الأيديولوجيا
منذ بداية عهد البكر سيطر صدّام حسين على المؤسسات الأمنيّة وبدأ بتعزيز سيطرة الجناح العسكري للحزب على مؤسسات الدولة وتحجيم قيادته المدنيّة، إلى درجة أنّه اعتقل قائده الأوّل فؤاد الركابي وأودعه في السجن عام 1968 وبقي فيه حتى قُتل عام 1971 وهو العام الذي تخلّص فيه أيضاً من حردان التكريتي، القائد الثالث في انقلاب العام 1968، والمنافس الأقوى له؛ حيث دبّر عملية اغتياله في الكويت، وحين حاول عبد الخالق السامرائي إضفاء طابع أيديولوجي على بنية وممارسات الحزب، فوضع كراساً عام 1973 بعنوان "حزب الطبقة العاملة" دعا فيه لتحويل "البعث" إلى حزبٍ للطبقات العاملة بدلاً من الحزب الشيوعي، استاءت القيادات العسكرية مما جاء في الكراس من أفكار، وبعد صدور بيان لمجلس قيادة الثورة عن مؤامرة يقودها "ناظم كزار" مدير الأمن العام، وُضع اسم عبد الخالق السامرائي في المؤامرة وحُكم عليه بالإعدام، قبل تعديل الحكم إلى السجن المؤبد في زنزانة انفراديّة.

عبد الخالق السامرائي منظّر مهم تم التخلّص منه

بموازاة ذلك، شهدت المرحلة صدامات عنيفة مع حركات المعارضة، بدأت بالشيوعيين، وبعد القضاء عليهم تم التفرّغ للحركات السياسية الشيعية وبالتحديد حزب الدعوة، فوقعت "مواجهات صَفَر" في شباط (فبراير) 1977، وانتفاضة رجب 1979، وبلغ الصدام ذروته مع حادثة إعدام الصدر عام 1980، وكان صدام هو القائد والموجّه للتصعيد في هذه الأحداث.
صدّام فوق الوحدة العربية
في تلك الأثناء، تمكّن حافظ الأسد من الوصول إلى سدّة الحكم في سوريا المجاورة بعد "الحركة التصحيحية" في 16/11/1970، وكان رد فعل البكر حينها إرسال وزير خارجيته، عبد الكريم الشيخلي، لتهنئة الأسد، وبدأت تتعزز العلاقات بين البلدين، وهو ما جاء متوافقاً مع رؤية الأسد ومفهومه عن "قومية المعركة مع إسرائيل"، والتوجه نحو تعزيز التضامن العربي.

كان البعثيون من أشدّ المؤيدين للجمهورية العربية المتحدة والانضمام لها

عرض الأسد فتح حوار بين القُطرين وتدعيم العلاقات بينهما، وقام بزيارة بغداد وتوقيع ميثاق باسم "العمل القومي" في 26/10/1978، واقترح في قمة بغداد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1978 تطوير الميثاق إلى صيغة وحدويّة ما بين القُطرَين ضمن توجه الأسد وحرصه على تحقيق التوازن الاستراتيجي ما بين العرب وإسرائيل.
رفض صدام ميثاق الوحدة بين سوريا والعراق، واعتبر الخطوة بمثابة بداية تراجعه في سُلم القيادة؛ إذ من الطبيعي أن يتحوّل إلى الشخص الثالث بعد حافظ الأسد والبكر، وربما الرابع، بعد الحليم خدّام أيضاً؛ واستباقاً للأحداث، جاء انقلاب صدام حسين في تموز (يوليو) 1979 على البكر واحتجازه، ونقل رئاسة الدولة والحزب إلى نفسه، وبذلك تم عرقلة وإنهاء مشروع الوحدة.

اقرأ أيضاً: حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والأسطورة المهدوية
ادعى صدام كشف مؤامرة داخل القيادة الحزبيّة بالتواطؤ مع جهة أجنبيّة (سوريا) في مشهد مفاجئ وصادم؛ حيث دعا جميع أعضاء القيادة الحزبية إلى اجتماع استثنائي، وفي الاجتماع تم عرض اعتراف "محيي عبد الحسين" بالمؤامرة، ليبدأ بعد ذلك ذكر أسماء المتهمين على العلن، ويقوم عناصر الأمن بالقبض على من ذكر اسمه ويخرجونه من القاعة، ليقودوه إلى منصة الإعدام، فيما عُرف بـ "مجزرة قاعة الخُلد"؛ لتتأسس "جمهورية الرعب" التي لا مكان فيها لأي صوت معارض أو مخالف.

قاعة الخلد .. افتتاحية للرعب والحرب
في "قاعة الخلد" وقف علي حسن المجيد (علي الكيماوي) يقول إنّ "العراق لن يستقر وعبد الخالق على قيد الحياة" فبشّره صدام بأنّ ذلك لن يستمر؛ ليمثل هذا الإعدام نهاية الحزب كمؤسسة سياسية ذات مرجعيّة وبرنامج أيديولوجي وتحوّله إلى مؤسسة قائمة على علاقات القرابة المتمحورة حول شخص صدام حسين، وصعود ما عُرف بـ "عُصبة التكارتة" التي أحكمت سيطرتها على الحزب والدولة، ورافق ذلك مرحلة "تبعيث" المجتمع؛ حيث وصل حجم الجهاز الحزبي للبعث العراقي عام 1981 إلى مليون ونصف المليون عضو، وهو ما نسبته 10% من مجموع السكان آنذاك.

آنذاك افتتح صدّام مسلسل صراعات مع دول الجوار؛ فدخل في مواجهة مع سوريا، ودعّم تمرّد الإخوان المسلمين وتنظيم "الطليعة المقاتلة" في أحداث السنوات (1979-1982)، وذلك في إطار سياسة إسقاط النظام السوري عبر رعاية "التحالف الوطني لتحرير سورية"، الذي تبنى الخيار العسكري في مواجهة حكم الأسد.

اقرأ أيضاً: التجربة الحزبية عند الإخوان المسلمين: التنظير والعمل السياسي
كما دخل في مواجهة عسكرية مع إيران؛ بهدف إيقاف مشروع تصدير الثورة الإسلامية وحماية الجبهة الشرقية للوطن العربي، وهو ما لاقى دعماً فيه من قبل دول الخليج والولايات المتحدة، وحاول صدّام توظيف الحرب للظهور في صورة البطل القومي الجديد للعرب، عبر تصويرها بأنّها حرب قومية بين الفرس والعرب، ووصفها بـ "ذي قار" و"القادسية" الثانية.
ولكن هذه الصورة سرعان ما تلاشت بعد الإقدام على اجتياح الكويت عام 1990، الذي تم تبريره كتحقق لمبدأ الوحدة القوميّة، إلا أنّه عقب حرب الخليج الثانية انكفأ صدام حسين وحزب البعث إلى الداخل خلال التسعينيات، بالتزامن مع ظروف اقتصادية صعبة بسبب تطبيق "الحصار الاقتصادي" المفروض على البلد، وصاحب كل ذلك اضطرابات سياسية داخلية شديدة كما في أحداث الانتفاضة الشعبانيّة في جنوب العراق عام 1991.

صدام حسين على إحدى الجبهات في الحرب العراقية الإيرانية

وفي عام 2003 غزت القوات الأمريكية العراق بهدف إسقاط نظام البعث، بعد اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل وإقامة علاقات مع تنظيم القاعدة، وبعد عشرين يوماً من الحرب سقطت بغداد في التاسع من نيسان (إبريل)، وبدأت مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق، وكان من أول قرارات حكومة الاحتلال إقرار قانون اجتثاث حزب البعث وملاحقة كوادره السابقة.
في المقابل، انخرطت بقايا الحزب في صفوف حركة مقاومة الاحتلال الأمريكي، وبعد إلقاء القبض على صدام حسين واعدامه عام 2006، أعلن حزب البعث تسليم منصب الأمين العام لعزّة الدوري، نائب صدام حسين، وبحسب تقارير أمريكيّة لاحقة فإنّ عزّة الدوريّ كان هو القائد العسكري الفعلي لما عرف بـ "تنظيم الدولة الإسلامي" (داعش)، ليكون الحزب بذلك قد انتقل من النقيض إلى النقيض.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية