حركة القوميين العرب.. كيف تحوّل التنظيم القومي إلى الماركسيّة؟

الأحزاب العربية

حركة القوميين العرب.. كيف تحوّل التنظيم القومي إلى الماركسيّة؟


30/05/2019

في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وما تبعها من إقرار لاتفاقيات تقسيم منطقة المشرق العربي وتبدد مشروع قيام الدولة العربية الموحّدة في المشرق، بدأت بوادر موجة جديدة من الاتجاه القومي بالتشكّل، وفي هذا الإطار اجتمع ثلاثة من المثقفين العرب في باريس عام 1929، وهم: فريد زين الدين (من لبنان)، ودرويش المقدادي (من فلسطين)، ونافع شلبي (من سوريا)، واتفقوا على وجوب متابعة النضال وتجديد الدعوة القومية وتأكيد ضرورة مقاومة الاستعمار ومواصلة العمل لإقامة دولة عربيّة موحّدة.

اقرأ أيضاً: كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟
ومن هنا، تبلورت فكرة إنشاء تنظيم قومي عربي تنتشر عناصره في الأقطار العربية، وحمل اسم "جبهة التحرير العربيّة"، وكان الفضاء الأساسي لنشاط التنظيم في بيروت بلبنان، وتحديداً في أوساط المثقفين والأساتذة وبين الطلبة بالجامعة الأمريكية، وحمل لاحقاً اسم "جماعة القوميين العرب".

كانت بيروت من أهم حواضن الحراك القومي العربي ما بين الحربين العالميتين

خلف الأستاذ .. حول الكتاب الأحمر
في تلك الأثناء برز اسم "قسطنطين زريق"، كأحد الأساتذة ذوي التوجه القومي العربي، وفي عام 1933 أصدر كتابه "الكتاب الأحمر" الذي اعُتبر بمثابة "ميثاق" القوميّة العربيّة آنذاك، وبدأت جماعة "القوميين العرب" تُعرف باسم "جماعة الكتاب الأحمر"، تعبيراً عن التفاف أتباعها حول الكتاب ومؤلفه، وكان جانب كبير من أيديولوجيا الحركة نابعاً من فكر وكتابات قسطنطين زريق وآرائه عن الأمة والقوميّة.

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟
وكانت الجماعة تنشط بشكل أساسيّ ضمن جمعيّة "العروة الوثقى" وهي الجمعية الثقافية الأبرز في الجامعة الأمريكية في بيروت آنذاك، وكانت تخوض مواجهات ومساجلات مع التيارات السياسية الأخرى البارزة آنذاك، وفي مقدمتها: المارونيّة السياسية، والاتجاه القومي السوري.

 كان جانب كبير من أيديولوجيا الحركة نابعاً من كتابات قسطنطين زريق

كتائب الفداء العربي.. النواة الأولى
بدأت الأحداث تتصاعد بعد نكبة العرب (وهي التسمية التي صكّها زريق) في فلسطين عام 1948، وفي ظل الأجواء الصعبة في أعقاب الهزيمة، اجتمع عدد من الطلاب في آذار (مارس) 1949، وفي مقدمتهم: جورج حبش (من فلسطين)، وهاني الهندي (من سوريا)، وأحمد الخطيب (من الكويت)، وقرروا تشكيل تنظيم فدائي سريّ باسم "كتائب الفداء العربي"، هدفه تنفيذ عمليات انتقاميّة ممن حملتهم المجموعة مسؤولية الهزيمة، وكانت هذه الحركة هي النواة الأولى لحركة القوميين العرب في صيغتها الناجزة.

اقرأ أيضاً: حزب الوسط المصري إذ يدور في فلك جماعات الإسلام السياسي
عام 1951 وبعد إنهاء دراسته للطب، استقرّ جورج حبش ورفيقه وديع حداد في عمّان، وبدآ في نشر أفكار ومبادئ الحركة هناك، وافتتحا عيادة قدما فيها العلاج بالمجان للاجئين الفلسطينيين، وساهما بتأسيس هيئة باسم "هيئة مقاومة الصُلح مع إسرائيل" نشطت في مخيمات اللاجئين، وبذلك بدأ يتشكل فرع للحركة في الأردن، وكان أعضاء الحركة ينشطون في "النادي العربي" الذي كان بمثابة التجمع الأبرز للقوميين في عمّان آنذاك، كما نشطوا ضمن تنظيم فلسطيني ناشئ باسم "أبطال العودة".

 أسس جورج حبش فرع الحركة في الأردن بعد استقراره في عمّان عام 1951

تبنّت الحركة في الأردن الدعوة للمقاومة المسلحة عبر تدريب وتسليح أبناء المخيمات التي جعلتها الحركة على خط المواجهة مع الكيان الصهيوني، في توجه مبكّر نحو خيار "الحرب الشعبيّة"، وفي ذات الوقت كانت الحركة تمارس العمل السياسي السلمي بكافة أشكاله، ومنها الانتخابات، حيث شاركت في الانتخابات البرلمانية عام 1956 من خلال ترشّح عضوها "أحمد الطوالبة".

أيّد الحركيّون الوحدة بين سوريا ومصر ونظروا إليها كمقدمة لقيام الجمهورية العربية المتحدة

وفي لبنان، كانت جمعية "العروة الوثقى" هي الغطاء السياسي لنشاط أعضاء الحركة التي برز من بين قياداتها في الستينيات: محسن إبراهيم، ومحمد كشلي، وفي الكويت، بادر أحمد الخطيب لتأسيس ناد باسم "النادي الثقافي القومي" ليكون بمثابة واجهة للحركة ونشاطها هناك، ومع تأسيس فروع أخرى للحركة في سوريا ومصر والعراق عُقد عام 1954 مؤتمر للحركة في عمّان تقرر فيه تأسيس فروع للحركة في جميع الأقطار العربيّة.

أحمد الخطيب مؤسس فرع الحركة في الكويت

هدفت الحركة إذن لتشكيل نخبة مثقفة ذات وعي قومي على المستوى السياسي يتبنى العداء للإمبريالية الأمريكية ويعتبر "إسرائيل" رأس حربة لها، واشتراكي على المستوى الاقتصادي، وكان من المأمول أن تلعب هذه النخبة دور الطليعة في حركة التحرر والوحدة العربية.
تنظيم جماهيري للناصريّة
بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وما رافقه من صعود لنجم جمال عبد الناصر كزعيمٍ لحركة التحرر والوحدة العربيتين، عُقد مؤتمر تأسيسي للحركة رسخّ توجهها نحو الناصريّة، وبعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 أيّد الحركيّون (التسمية التي اشتهر بها المنتسبون لحركة القوميين العرب) الوحدة وتمسكّوا بها ونظروا لها كمقدمة لقيام الجمهورية العربية المتحدة التي تشمل سائر أقطار الوطن العربي، وبذلك أصبحت الحركة تتجه نحو التماهي مع الناصريّة.

حاول محسن إبراهيم إحداث تطوير على مستوى الأيديولوجيا للحركة وتجاوز المنظور الذي أسسه زريق

وبذلك تحوّلت الحركة إلى شكل التنظيم الجماهيري للناصريّة، ويشير المؤرخ السوري، محمد جمال الباروت، في كتابه "حركة القوميين العرب؛ النشأة، التطور، المصائر" إلى أنّ ذلك مثّل انتقال الحركة نحو طوّر جديد فتحولت من "أخويّة" قومية نخبويّة، تضم المئات من أبناء الطبقات الوسطى والعُليا إلى منظمة طليعيّة ذات حضور جماهيري تضمّ الآلاف.
وجاءت أولى المشاركات الفاعلة للحركة على الأرض مع اندلاع أزمة عام 1958 في لبنان، حين شكل الحركيّون جبهة قتال مشتركة مع رشيد كرامي، رئيس الوزراء، وحزبه "حركة التحرير العربية"، وحزب البعث (الفرع اللبناني)، وقادوا الثورة على حكم الرئيس ميشال عون، مطالبين بانضمام لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة.

قوات المارينز الأمريكية تصل إلى بيروت عام 1958 بعد طلب من كميل شمعون

في مصر، سرعان ما انضوى فرع الحركة تحت الاتحاد الاشتراكي العربي بعد تأسيسه عام 1962، وفي العراق، كانت الحركة تمثل جزءاً من قوى التيار الناصري منذ ما قبل ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، واشتركت في محاولة لاغتيال نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي عام 1958 التي اتُهم عبد الناصر بتدبيرها.

اتجهت مجموعة نايف حواتمة لتبنّي أطروحات يساريّة أكثر جذرية وأكثر بعداً عن الطرح القومي

وبعد قيام الثورة واستلام عبد الكريم قاسم الحكم، ومعارضته للوحدة مع سوريا ومصر، ودخوله في مواجهة مع عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة، اتجه الحركيّون إلى معارضة حكمه، وعندما اندلع تمرد عبد الوهاب الشوّاف في الموصل عام 1959 سارعوا للانضمام له، إلا أنّه بعد وصول حزب البعث إلى الحكم عام 1963 اتجهوا للاندماج تدريجياً ضمن كوادره حتى تلاشت الحركة خلال الستينيات.
أما في سوريا، فكانت الحركة متماهية مع الناصريّة خلال فترة الوحدة (1958-1961) وبعد وقوع الانفصال عام 1961 طالبت، بقيادة هاني الهندي، بإعادة فورية للوحدة بين سوريا ومصر، وبعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963 بدأت الصدامات بين الحركة والحزب، وبلغ الصدام ذروته سريعاً في تموز (يوليو) 1963 مع وقوع المحاولة الانقلابية بقيادة الضابط الناصري "جاسم علوان"، والتي تصدى لها البعثيون بشكل دموي، وكان ذلك بمثابة القضاء على الحراك الناصريّ في سوريا.

هاني الهندي من مؤسسي الحركة وأبرز قادتها في سوريا

وفي عام 1961، ومع اندلاع ثورة الضباط الأحرار على حكم الإمام المتوكليّ في اليمن شاركت عناصر الحركة في الثورة، وفي عام 1968 أسست الحركة "الحزب الديمقراطي الثوري اليمني" في اليمن الشمالي، وانتُخب سلطان عمر أميناً له.
وبعد اندلاع معركة التحرير في اليمن الجنوبي، شاركت الحركة في تشكيل جبهة "التحرير الوطني" عام 1964 والتي تطوّرت لاحقاً بعد الاستقلال إلى الحزب اليمني الاشتراكي، الحزب الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي).

اقرأ أيضاً: كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟
وبعد اندلاع ثورة ظُفار في سلطنة عُمان عام 1963 شاركت الجبهة في تشكيل "الجبهة الشعبية لتحرير ظفار"، والتي أصبح اسمها عام 1968 "الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتلّ" قبل حلها مع القضاء على الثورة عام 1974.
وفي البحرين، تأسس فرع للحركة منذ بداية الستينيات وبعد توسّع جبهة "تحرير ظفار" انضم الفرع عام 1968 إلى "الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتلّ"، وبعد حلها أسست الحركة تنظيماً باسم "الجبهة الشعبية لتحرير البحرين" التي نشطت كحزب غير مرخّص، ومع الانفتاح السياسي في البلاد بادر القائمون على الحزب لتأسيس "جمعية العمل الوطني الديمقراطي" (وعد) لتصبح أول منظمة سياسية مرخّصة في دول الخليج (خارج الكويت).
وفي السعودية اتجه الأفراد المنتمون للحركة لتأسيس "حزب العمل الاشتراكي العربي - الجزيرة العربية" عام 1972، والذي توقف نشاطه عام 1990 بعد حملة اعتقالات واسعة لأعضائه، فيما أسس أفراد الحركة بالكويت نواة الحركة التقدميّة الديمقراطية التي لا زالت حاضرة وفاعلة إلى اليوم هناك.

مقاتلون من الجبهة الشعبية لتحرير عُمان

تطوير الأيديولوجيا .. تعميق الانقسام
كان محسن إبراهيم من أبرز قيادات الحركة في الفرع اللبناني، وكان من ألمع منظّري التيار اليساري في الحركة، وقد حاول إبراهيم إحداث تطوير على مستوى الأيديولوجيا للحركة وتجاوز المنظور الذي أسسه زريق فيما يتعلق بمفاهيم الأمّة والوحدة، وسعى لإعطاء مضمون طبقي للطرح القومي العربي، وطوّر بذلك ما عُرف بـ "نظرية التلازم العضوي" ما بين النضال القومي والنضال الاشتراكي.

اقرأ أيضاً: حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والأسطورة المهدوية
وفي مؤتمر الحركة عام 1963 طرح إبراهيم نظريته، لتبدأ بوادر الانقسام بين تيارين متمايزين: تيار يساري بقيادة محسن إبراهيم، ومحمد كشلي، وآخر يميني بقيادة هاني الهندي، وأحمد الخطيب. وتبلور الانقسام مع مؤتمرات الأعوام 1963 و1964 و1965.

محسن إبراهيم من أبرز المنظّرين في الحركة

وقد كانت هزيمة عام 1967 بمثابة الضربة القاضية للناصريّة، وبدأت بذلك تتزعزع نظرة الحركة في أيديولوجيتها الناصرية، وبدأ التيار اليساري والماركسي بتوجيه اللوم على الهزيمة نحو حكم الأنظمة العسكرية التي أسماها بـ "البرجوازية الصغيرة"، وبدأ يتصاعد توجه لتبنّي خيار "الحرب الشعبية" و"حرب العصابات" بدلاً من الرهان على الدول والجيوش النظامية في معركة التحرير.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الكردية: صراعات وأحلام تنتظر التغيرات الدولية
آنذاك اختار عدد من قيادات الحركة، يتقدمهم جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة، الاتحاد مع تنظيمين فلسطينيين آخرين هما: منظمة "أبطال العودة"، وجبهة تحرير فلسطين (بقيادة أحمد جبريل)، ليؤسسوا في كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام تنظيم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وذلك في ظل تصاعد العمل الفدائي في مرحلة ما بعد الهزيمة.

اقرأ أيضاً: التجربة الحزبية عند الإخوان المسلمين: التنظير والعمل السياسي
وفي العام التالي انشقت مجموعة نايف حواتمة لتؤسس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والتي اتجهت لتبني أطروحات يساريّة أكثر جذريةً وأكثر بعداً عن الطرح القومي، وبذلك تسارعت وتيرة انحلال الحركة وتحوّلها نحو توليد تنظيمات ماركسيّة.
في هذا السياق، قام محسن إبراهيم بحلّ فرع الحركة في لبنان ليؤسس "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين" عام 1968، والتي اندمجت مع تنظيم "لبنان الاشتراكي" عام 1970 ونشأ عن ذلك تأسيس منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، التي برز اسمها ضمن صفوف الحركة الوطنيّة اللبنانية بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ونتيجة لهذه التحولات، تقرر تصفية الحركة كجسم تنظيمي نهائياً عام 1970.

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية