الإحتلال الإيراني

الإحتلال الإيراني


20/11/2017

مختارات حفريات

لم يكن مشهد اللطم في سوق الحميدية بدمشق عفويًا، ولم يكن سوريًّا أيضًا. لا على صعيد انتماء من شاركوا فيه، ولا على صعيد التقاليد السورية المتبعة لدى مختلف الطوائف الدينية. لكنه كان ضربًا من محاولة للبرهان على أن العاصمة السورية باتت محتلة، وعلى أن وجود المحتلِّ لم يعد يقتصر على المظاهر العسكرية أو السياسية فحسب، بل تمكن من أن يتغلغل في نسيج المدينة الاجتماعي والديني، وعلى أنَّ أي محاولة للخلاص منه لن تنجح، حتى ولو أجليت عن البلد كله الميليشيات العسكرية الإيرانية، الأصيلة منها والوكيلة.

ليس المشروع الإيراني -بهذا المعنى- وليدَ اليوم، ولا هو ردّة فعل على حدث الثورة السورية قبل ما يقارب سبع سنوات، بل بدأ في الحقيقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، في ظل مؤسس نظام القتل الأسدي وبموافقته، حين سمح هذا الأخير -من بين الكثير مما سمح به خفية- بكسر الطابع المعماري الدمشقي في منطقة الجامع الأموي بالذات، وبناء مسجد إيراني التمويل والمذهب، بدا في شكله ولون جدرانه مثل لطخة في لوحة عريقة أو نشاز صارخ في لحن موسيقي. لم يكن بوسع أحد الاحتجاج، بصورة أو بأخرى، ليس لأن المبنى “ديني بحت”، ولا لأنه صارخ النشاز معماريًا، بل لأن أحدًا لا يستطيع، تحت طائلة فقدان حياته، مجردَ الاعتراض أو انتقاد إرادة رئاسية لم يكن أحدٌ أصلًا يدرك آنئذٍ مرامي هذا المبنى البريء ظاهريًّا.

لكننا اليوم، بعد هذه السنوات من التدخل الإيراني، الصريح والمعلن، في شؤون سورية، وصولًا إلى تقزيم كل من يمثل النظام القائم، بدءًا برئيسه، ثم وصولًا إلى التغلغل بشتى الطرق والوسائل في نسيج المجتمع السوري؛ نرى أن الاحتلال الإيراني لم يبدأ حقيقة غداة الثورة، وأن ما كان الجميع يظنه تعاونًا استراتيجيًا، بين بلدَين وقيادتَين نِدّين، ظهر إلى العلن مع بدء الحرب العراقية الإيرانية، كان -في حقيقة الأمر- يخفي وراءه ما يتجاوز التعاون الاستراتيجي، وصولًا إلى وضع اليد على البلد الذي لم يكن ينتظر إلا اللحظة المناسبة. يمكن القول إن إنشاء “حزب الله”، في أوج الحرب الأهلية اللبنانية، كان بداية تنفيذ هذه الخطة التي نتابع منذ بداية الثورة السورية آثارها، والمآرب المختلفة التي تسعى إيران إلى تحقيقها في تنفيذها.

لا شك أن التدخل الروسي في سورية، في اليوم الأخير من أيلول 2015، بحكم كثافة وقدرات القوة الروسية العسكرية الطاغية، قد غطى، إعلاميّا وسياسيًّا، على وجود إيران العسكري المسبق والأقدم على الأرض، عبر مستشاريها العسكريين وميليشياتها متعددة الجنسيات، فضلًا عن وكيلها اللبناني الحصري: “حزب الله”. وكان هذا -كما بدا- هو ما يلائم طبيعة التغلغل الإيراني في العمق الاجتماعي والجغرافي السوري. فالتغطية كاملة، والحديث يجري على الألسنة كلها عن الوجود الروسي، أرضًا وجوًا وقواعد عسكرية، بوصفه قوة دولية، لا مجال لمقارنتها بالقوة الإقليمية التي تمثلها إيران، مهما بلغ مداها؛ ذلك أن التواجد العسكري ماديًا لم يكن هو ما أرادته أو ما اعتمدت عليه إيران، بقدر ما كانت اعتمدت على قوى غير إيرانية، تجندها لحسابها وبأكبر عدد ممكن من أهل البلد أو من البلدان المجاورة، بحيث يقتصر وجودها العسكري المادي على المستشارين الذين يضمنون، لقيادتها السياسية ولحرسها الثوري، تنفيذ رغباتهما وتحقيق استراتيجيتهما، تلك الاستراتيجية التي باتت تقال اليوم علنًا على ألسنة كبار مسؤوليها السياسيين أو الأمنيين، وتتلخص في إمساك طهران بالقرار السياسي، في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، على الأقل.

الدرس الذي تعلمته إيران من ماضي صراعها العريق مع العرب، كي تنتصر عليهم وتبسط هيمنتها على بلادهم، كان على وجه الدقة هذا: ألا تتواجد على ساحة المعركة بجيوشها، كما فعلت طوال تاريخها في المنطقة، وخصوصًا مع العرب الذين لم يعترفوا يومًا، منذ معركة (ذي قار) معهم عام 592 ميلادية، بخلاف بقية أقوام آسيا -كما سجل المؤرخ اليوناني هيرودوس في حديثه عن داريوس- بسلطانِ فارس عليهم. ولذلك اختارت أن تتواجد، من خلال وكلائها الحصريين الذين عملت على إعدادهم وتسليحهم وضمان وجودهم بكل الوسائل، مستفيدة من أيديولوجية دينية وأساطير ومظلوميات تستخدمها ببراعة منقطعة النظير، وتوظفها تحت شعارات براقة وخدّاعة، شأن استثمارها في فلسطين وقضيتها بوجه خاص.

لكنها إذ فشلت، في عهد الشاه، في التمدد بقوة السلاح، بسبب ميل موازين القوى الإقليمية والدولية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لغير صالحها، فقد أمكنها بعد استيلاء “آيات الله” على الثورة الشعبية أن تستخدم “الإسلام في صيغته الشيعية” أيديولوجية كاملة الأوصاف، توظف من خلالها، في المقام الأول، أبناء الطوائف الشيعية في البلدان التي كانت تتطلع إلى السيطرة عليها: العراق وسورية ولبنان؛ وحققت ذلك، مستغلة الحرب الأهلية في لبنان، حين أنشأت، بتواطؤ رأس النظام الأسدي آنذاك، أولَ قوةٍ ضاربة لها، تستطيع أن تهيمن بها على مقادير بلد بأكمله؛ ثم بدعم واستغلال الغزو الأميركي للعراق، كي ترث الغازي بعد رحيله، وتحل محله بوسائل مشابهة لتلك التي استخدمتها في لبنان، وأخيرًا، باستغلالها أحداث الربيع العربي في سورية وفي اليمن خصوصًا، ليفخر مسؤولوها، من بعد، بأن طهران باتت مركز أي قرار سياسي، يُتخذ في هذه الدول جميعًا!

لم تكن المشكلة في اكتشاف ذلك الآن، ولا كذلك في معرفتها المؤكدة من قبل. بل كانت -وما تزال- كامنة في عدم الرغبة في رؤيتها، ولا في مواجهتها، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين كان حسن نصر الله يعلن على الملأ أن هدف حزبه ليس مجرد إقامة جمهورية إسلامية في لبنان فحسب، بل أن تكون هذه الجمهورية جزءًا من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يرأسها ولي الفقيه. وها هو يصرح اليوم بالصراحة (أو بالوقاحة) ذاتها بأن من يدفع الرواتب في “حزب الله” في لبنان، ومن يزوده بالأسلحة وبالمؤن، إنما هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأن من لا يعجبه ذلك، يستطيع “أن يشرب ماء البحر المتوسط”. كان يمكن لمثل هذه التصريحات الصفيقة الصادرة عن زعيم سياسي، لا في العالم العربي فحسب بل في العالم كله، أن تسوق قائلها إلى الحكم عليه بالخيانة العظمى. لكن المعايير اختلفت، وخصوصًا موازين القوى بين العرب وإيران.

في هذه الأهداف التي تعمل بصبر ودأب على تحقيقها، لا تلتقي إيران بالضرورة مع تلك التي رسمتها روسيا لنفسها في سورية، وبالتالي لا مجال لصراع مصالح حقيقي. وربما هذا ما يفسر التعايش القائم الذي نراه اليوم ماثلًا بينهما. إذ إن أي مقارنة بين سلوك كل من القوتَين المحتلتَين اليوم يتيح لنا رؤية هذا الاختلاف وعدم التضارب. تعمل إيران -وهي تعمل على استعادة هيمنة إمبراطورية في المنطقة- على أن تتواجد في عمق المجتمع السوري، وتجهد في سبيل تحقيق ذلك، بوجه خاص، من خلال التغييرات الديموغرافية التي فرضتها، وتستمر في فرضها في العديد من المناطق السورية؛ كما تحاول عن طريق شراء الأراضي تثبيت مواطئ قدم لها في العاصمة نفسها وما حولها. في حين تعمل روسيا، بوصفها قوة دولية كبرى، على ضمان مصالحها في سورية من ناحية، وتثبيت موقعها كقوة عالمية من ناحية أخرى. ظهر ذلك كله بوضوح شديد في تصريح وزير الخارجية الروسية، وهو يبدد أوهام الضغط على إيران استجابة للرغبات الأميركية، حين قال إن إيران وروسيا تتواجدان في سورية، بطلب من “الحكومة السورية”، وأنْ لا مجال للحديث عن ضغط روسي على إيران!

لسنا أمام احتلال روسي فحسب، بل أمام احتلال إيراني أشد خبثًا ونفاقًا. وسيكون على السوريين أن يعدّوا أنفسهم لنضال طويل الأمد، لا بدّ -كما هو مفاد ثوابت التاريخ والجغرافيا- أن ينتهي إلى خروجهما معًا.

بدر الدين عرودكي - عن شبكة "جيرون" الإعلامية 

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية