أحمد خالد توفيق: جعل الشباب يقرؤون!

أحمد خالد توفيق: جعل الشباب يقرؤون!


04/04/2018

أمام مستشفى الدمرداش في ميدان العباسية، قال موظف الأمن، وهو يشدّد على مخارج الحروف: "مش هنا"، قالها بغضب وانصرف، بعد أن أكّد أنّني لستُ الأول، وأنّ هناك خمسة عشر شاباً سبقوني إلى السؤال عن تواجد جثمان الدكتور أحمد خالد توفيق في المستشفى من عدمه، قبل ذلك التوقيت بساعة، كتب صديق مقرب للروائي أحمد خالد، على فيسبوك، أنّ العرّاب قد مات، وأنّ جثمانه في مستشفى الدمرداش، وكانت كلماته إيذاناً بتحرك قرّاء الراحل، دون تنسيق مسبق، وبشكل عشوائي، إلى المستشفى، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة.

تركتُ المكان ورحلتُ سريعاً للبحث في مستشفى أخرى، بمحيط المكان، على الباب وجدت الروائي أحمد مراد يبحث هو أيضاً، في سيارته أكملنا الرحلة معاً، حتى عثرنا على الراحل في مستشفى عين شمس التخصصي، عندما وصلتُ إلى ثلاجة الموتى، وجدتُ شاباً يفترش الأرض في هدوء شديد، ليس بكاتب أو صحفي، وليس من أقاربه، اقترب مني قائلاً: "أنا من قرّاء دكتور أحمد، ما تعرفش هيدفنوه إمتى؟"، دقائق قليلة وتوافد قراء الراحل، جميعهم كانوا يبحثون مثلنا، عن جثمان الكاتب الذي صاحبهم أطفالاً، وقدم لهم جرعات من المتعة بين دفتي سلسلة "ما وراء الطبيعة"، مجموعة أدب الرعب الأشهر في مصر والوطن العربي، التي قدم الراحل نسختها الأولى عام 1992، يحكي أنّه عندما حضر من مدينته طنطا إلى القاهرة بحثاً عن نشر كتابه الأول، وتوجهه إلى لجنة القراءة بدار النشر، رفضوه بالإجماع، تحطّم الحلم للحظات أمام الطبيب الشاب، لكنّ الرفض لم يثنِه عن رغبته فعاد مرة أخرى، هنا أدرك أحد أعضاء لجنة القراءة أنّ ذلك الشاب يقدم صنفاً أدبياً غير معهود، وأنّه يستحق أن يفتح له الباب، وقد كان.

عندما حضر من مدينته طنطا إلى القاهرة بحثاً عن نشر كتابه الأول، وتوجهه إلى لجنة القراءة بدار النشر، رفضوه بالإجماع

وبعد ستة أعوام من الرحلة مع أدب الرعب، دشّن مجموعة من الشباب في مصر وبيروت وفلسطين موقعاً على شبكة الإنترنت بعنوان "منتدى روايات"، اجتمع فيه محبّو الراحل في كلّ الوطن العربي، بعد شهور اكتظ الموقع بالأعضاء والزوار، وبعد أعوام أصبح أكبر ورشة للكتابة على مواقع الإنترنت، دون قصد من أحد، فالجميع يكتب على المنتدى، القصص، والأشعار، وفصول الروايات، التي استنسخت في أغلبها تجربة العراب، أحمد خالد توفيق، وبعد أعوام من ذلك التدريب غير المقصود، تحولت كتابات الإنترنت إلى كتب مطبوعة، وباعت تلك الكتب آلاف النسخ، ليستيقظ سوق النشر في مصر عام 2012 على حقيقة أنّ هناك قراءً، وأن مقولة "6 دقائق متوسط قراءة العربي في السنة"، في حاجة إلى مراجعة، في ذلك العام تحديداً، ارتفع عدد دور النشر المسجلة في اتحاد الناشرين المصريين؛ من 260 ناشراً إلى 600 ناشر، وجاوزت مبيعات الروائي الشاب أحمد مراد 100 ألف نسخة، وعام 2018؛ وصلت مبيعات رواية "الفيل الأزرق" لمراد مليون نسخة، بحسب مصادر من داخل دار الشروق.

سيل من الأرقام والبيانات يراودني، وأنا أتجول في أروقة المستشفى، أبحث عن أية معلومة عن موعد جنازة الراحل، ومتى سينتقل جثمانه من القاهرة إلى مسقط رأسه في مدينته طنطا، في الممر رأيت الروائي الشاب أحمد العايدي، وتامر إبراهيم، هما أيضاً كانا من أبناء تلك المنتديات، قد أصبحا الآن من الكتّاب الأكثر مبيعاً، العايدي عندما صدرت روايته الأولى "أن تكون عباس العبد"، حققت آلاف النسخ مبيعاً في شهور قليلة، لم يتخيل محررو الثقافة والنقاد في مصر أنّ رواية لكاتب لا يعرفونه باعت آلاف النسخ، يقولون: كيف ذلك والشباب لا يقرؤون، وتقرير التنمية البشرية الصادر عن منظمة اليونسكو في العام نفسه أكّد أنّ العرب لا يقرؤون؟!

في الطريق إلى طنطا، صباح الثالث من نيسان (إبريل)، لم يتوقف هاتفي عن الرنين، الجميع يسأل، أين سيصلّون على جثمان الراحل، مئات الشباب اصطفوا أمام المسجد، في مشهد مهيب لم تشهده جنازة كاتب في القاهرة من قبل، وبعد الصلاة على الجثمان، أصرّ الشباب أن يحملوا النعش سيراً على الأٌقدام حتى المقابر، غير أنّ أسرة الراحل أكدت أنّ المسافة تتجاوز بضعة كيلو مترات، النعش يجب أن يوضع في سيارة، أخذوه من أيديهم بصعوبة بالغة، قرّاءه شبه منهارين، المسألة تجاوزت حدّ العلاقة بين قرّاءٍ وكاتب.

المشهد الثقافي الكلاسيكي في القاهرة يعجز عن رؤية آلاف القرّاء، الذين ظلوا يقرؤون بإخلاص لذلك الكاتب على مدار 25 عاماً

تلك العلاقة لم تستوعبها الصحافة الثقافية في القاهرة، ولم يستوعبها النقاد، فأخذ أغلبهم يكتب على صفحات فيسبوك وتويتر، متسائلين باستخفاف عن ذلك الكاتب أحمد، الذي لا يعرفونه، ولم يقرؤوا له من قبل، تساؤل إن بدا مستهزئاً من الوضع في ظاهره، فهو شديد الخطورة بالفعل، فالمشهد الثقافي الكلاسيكي في القاهرة يعجز عن رؤية آلاف القرّاء، الذين ظلوا يقرؤون بإخلاص لذلك الكاتب على مدار 25 عاماً، مشهد يوحي بأنّ هناك عالمين متوازيين يسيران جنباً إلى جنب في القاهرة، لا يعرف أحدهما الآخر، العالم الأول هو عالم المثقف الرسمي، ابن التيار العام المسيطر على مشهد الأدب والكتابة في مصر، والذي يجب أن تحصل ككاتب على صكّ الاعتراف منه قبل أن تنطلق في عالم الكتابة والنشر، والعالم الآخر هو عالم موازٍ، تمرّد على ذلك المشهد الكلاسيكي، وكان سبيل تمرده، شبكات الإنترنت، التي ما يزال المثقف الكلاسيكي في مصر معترضاً عليها، يراها لهواً ولعباً، وغير ذات فائدة، حتى أنّ بعضهم كتب متحفظاً: كيف لكاتب ينشر أغلفة رواياته على فيسبوك محتفياً بها؟! معتبرين أنّ ذلك تقليل من شأن وعظم المكتوب.

شيّع محبّو خالد جثمانه إلى مثواه الأخير، وأبى قرّاؤه أنْ يرحلوا سريعاً، فظلوا يقرؤون الأدعية أمام قبره، وأخذ أغلبهم يكفكف الدمع جاهداً، على الأب الذي رحل، ليس الكاتب فقط، وبعد أن أغلقوا عليه الباب، تركت إحدى قارئات الراحل ورقة صغيرة معلقة على قبره، كتبت علها: "جعل الشباب يقرؤون".

جنازةٌ، النسبة الأكبر من حضورها قرّاء الراحل، الذين جاؤوا مشيعين من محافظات مصر المختلفة، وبعض الكتاب الشباب الأكثر مبيعاً في القاهرة، الذين أفقدهم الحدث توازنهم، فأخذ بعضهم يصرخ في المشيعين، وهو يفسح الطريق للنعش في رحلته الأخيرة إلى القبر.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية