تركيا..حين يصبح البلد أخرس!

تركيا..حين يصبح البلد أخرس!


15/11/2017

لا يكفي أن نقول عن تركيا إنّها بلد تحكمه قوانين جائرة، إنّي أحبّ أن يفهم الناس أي نوع من البشر ينتهون في تلك السجون؛ إذ فقط عبر ذلك يمكننا أن نفهم بأنّ تركيا اختارت طريقاً يقود إلى الكآبة. إنّي أعد أناساً مثل دينيس يوسيل، من هذه النوعية من الناس، فهو مسكون بالفضول المعرفي، ومتحرر من الأحكام المسبقة، ولا يهاب في قول الحق لومة لائم. لكنّ هذه الصفات تقود في تركيا، اليوم، مباشرة إلى السجن. ففي دولة الحق والقانون توجد لائحة اتهامات، أدلة وسيرورة زمنية محددة للمحاكمات، لكن في تركيا يُزجّ في السجن، بكلّ من يعترض على السلطة القائمة، فبدل الجدال العمومي والمعارضة، يحكم المرسوم الرئاسي، والبلاغات الرسمية، والقيود، وكلّ رأي سياسي معارض، يتم اعتباره تهجماً شخصياً، هكذا يفقد البلد أصواته الكثيرة، ليتحوّل إلى بلد أخرس.

 دينيس يوسيل

يعيش دينيس اليوم في بلد، يقبع عدد كبير من مثقفيه في السجن، أو هربوا منه إلى الخارج، ولقد عايش دينيس صعود المعارضة السياسية كما عايش فقدانها للحصانة السياسية، وبالنسبة إليه؛ إنّ الإحجام عن فهم انهيار الديمقراطية البرلمانية، أو عدم الرغبة في بحث أسبابها، أمر يفتقد إلى الحرفية، ما علاقة ذلك بالقضية الكردية؟  ما الذي يريده حزب العمال الكردستاني؟ ما موقفه وما هدفه بالضبط؟

في تركيا يُزجّ في السجن، بكلّ من يعترض على السلطة القائمة

من حقّ القرّاء الألمان أنْ يتوصلوا بتقارير صحفية موضوعية، من أجل أنْ يتمكنوا من بناء صورة عن الوضع الحقيقي في هذا البلد، إنّهم يريدون أن يفهموا كيف تمكّن شابٌ قادم من أسفل السلم الاجتماعي، في عقود قليلة، أن يصبح مليونيراً؟  ولماذا يمكن لأبنائه وأصهاره أن يصبحوا من أصحاب الملايين؟ ما الذي حدث بالضبط في تركيا؟!

مجرد حبس على ذمة التحقيق

أنغيلا ميركل مثلاً، لم تتحول إلى صاحبة ملايين، لقد استلمت ميركل وأردوغان مقاليد السلطة في الوقت نفسه تقريباً، لكنّ أسرتها لم تؤسس شركات بناء، ولم تحصل على مناقصات بالمليارات، كما أنّه لم يخطر ببالها أن ترفع الحصانة السياسية عن الحزب اليساري، أو تزج بأعضائه في غياهب السجون، وفي الوقت الذي عملت فيه، منذ عام 2005، في إطار تحالفها الحكومي، على التخلي عن الطاقة النووية، وعن الخدمة العسكرية الإلزامية، وسمحت بالزواج للجميع، فقد عمد الحزب الحاكم في تركيا إلى بناء 105 سجون جديدة، مع كثير من البنايات المرافقة لها للنساء والأطفال، ونجح في سجن 200 ألف شخص، ورفع مدة السجن على ذمة التحقيق إلى سبع سنوات، وفرض رقابة على الإنترنت وعلى المكالمات الهاتفية. أولئك الذي هم ضدّ هذه السياسة، يرون بشكل يومي، أنّ هذا الشطط في استعمال السلطة، يمكنه أن يطال أياً منهم، أمّا أولئك الذين يناصرون الحزب الحاكم، فإنّهم لا يعرفون، في أغلب الأحيان، ما الذي يجري أمامهم. وكيف لهم أن يعرفوا ذلك في غياب تام لصحافة حرة؟ لا أحد يدري هل من نية خلف ذلك؟ انتقل دينيس إلى مركز الشرطة، في الرابع عشر من شباط (فبراير)، ثم تمّ سجنه على ذمة التحقيق، قبل أن ينتقل إلى السجن، ألم يكن بإمكانه التوجه إلى مركز الشرطة في الثالث عشر أو الخامس عشر من شباط (فبراير)؟ هل اختار عن قصد التوجه إلى هناك في يوم عيد الحب، الذي يسمى في تركيا بعيد المحبين؟ إنه أمر يمكننا أن ننتظره منه.

استلمت ميركل وأردوغان مقاليد السلطة في الوقت نفسه تقريباً، لكنّ أسرتها لم تؤسس شركات بناء

ومنذ ذلك الوقت، وهو يقبع في السجن، وإذا ما قارنّا البشر الذين يختفون في السجون، بصورة تيار مائي كبير، فإنّ عدد الذين يطلق سراحهم منهم أشبه بقطرات ماء منفردة؛ ميسالي تولو، وزوجها، إلى جانب بيتر ستويدتنر ودينيس، أربعة أشخاص ممن نعرف أسماءهم في ألمانيا، لكنّ كثيرين ممن لا نعرفهم، يقبعون في سجون مزدحمة، كاتبة كردية تحدثت عن تجاربها خلال سجنها على ذمة التحقيق.

من احتجاجات تطالب بإطلاق سراح ميسالي تولو

من المناهج المحببة لديهم؛ سجنهم في قفص طيلة اليوم، لا يستطيعون البقاء فيه إلا مقوسي الظهر، منهجية تعذيب أخرى، تكمن في عرض امرأة عارية من ثيابها أمام غرفة متخمة بالرجال، كلهم من جهاز الشرطة، سجّانين ومحققين، يعذبونها نفسياً عبر السخرية من جسدها، والضحك عليها، والتعليق بكلمات نابية. إنّ الأمر يتعلق هنا فقط بالحبس الاحتياطي، أما ما يحدث في السجون، فهو أمر لا نستطيع التعبير عنه في كلمات، ويتوجب، من أجل التعبير عن الأساليب المختلفة لاستعمال العصا، خلق لغة جديدة. وتلك هي "تركيا الجديدة".

دينيس لا يستطيع الدفاع عن نفسه

"تركيا الجديدة.. إلى الأمام دائماً"، إنه الشعار الذي رفعه حزب العدالة والتنمية قبل سنوات، للتعبير عن رؤيته حول تركيا جديدة، في تقدم مستمر. إن المهمَّشين داخل السياسة التركية، الذين دخلوا الانتخابات ضدّ "النخبة" و"المؤسسة"، دفاعاً عن الناس البسطاء في المناطق الفقيرة، تحولوا إلى نظام يحكمه رجل واحد، إنّنا في دولة، ترتدي فيها زوجة الرئيس الملابس الإسلامية، في حين تتم تعرية السجينات أمام موظفي الدولة، الذين يستطيعون مراقبة كل صغيرة في أجسادهن؛ دولة يسجن فيها حتى الأطفال، ويحرم فيها الناس من أسرهم، وبيوتهم، وأراضيهم، وهويتهم، ولغتهم، باختصار: من كرامتهم وحياتهم. في شرق البلاد تسود حرب لا هوادة فيها، بالدبابات ومختلف الأسلحة، وتشهد تطهيراً عرقياً في القرى، وحملات تهجير. لكن لا أحد يسمّي الأمر بمسماه، فمن له مصلحة في القيام بذلك؟ ألمانيا، بلا ريب لا.

تركيا دولة ترتدي فيها زوجة الرئيس الملابس الإسلامية في حين تتم تعرية السجينات أمام موظفي الدولة

لأنّه لو فعلت ألمانيا ذلك، وسمّت الأمور في تركيا بمسمياتها، فإنّه سيكون من الجنون أن تعمد إلى توطين لاجئين سوريين، هربوا من الحرب، في بلد مقابل المال؛ حيث تسود الحرب أيضاً.

لقد تحلّى الصحفيون الأتراك المستقلون سياسياً بالشجاعة، وخاصّةً الكتاب الذين ساهموا بمقالاتهم ونصوصهم وتعليقاتهم في الخطاب الاجتماعي-السياسي، وبعكس ألمانيا؛ كان ذلك أمراً عادياً، لقد تكلموا حول كل الأمور، ما ظلّ ذلك ممكناً، وحتى النهاية، ومن فعل ذلك منهم، فقد فعله لأنّه يعرف أنّ الديمقراطية، في الحقيقة، ليست وضعاً، بل عملاً يتوجب القيام به.

خطاب قاصر وفكر ضيق

ومثل أي دولة سلطوية، تركيا بلد ينتج الكثير من الناس في زمن الأوتوقراطية، لا نلتقيهم في نظام ديمقراطي، جماعات ضغط تنتمي إلى حزب العدالة والتنمية، ينشطون في ألمانيا، لكن كيف كانوا يربحون قوت يومهم قبل أن يبدؤوا بالتجسس على الآخرين في الإنترنت، أو يغرقوا البرامج الحوارية بالبروبغندا؟ وإذا ما أصغى المرء إلى خطاباتهم، فإنّه يلحظ أنهم يتكلمون ويفكرون بشكل قاصر، وأن أفقهم ضيق، إنّهم أشبه بموظفي شركات التأمين، الذين تعلموا الردّ على الاعتراضات، والشكّ والنقد بالمنهجية نفسها، إذا ما قالوا (حرية)، فإنهم يعنون (المنع)، وإذا قالوا (حقوق الإنسان)، فهم يعنون أنفسهم، وفقط منذ أن فرض حزب العدالة والتنمية ديكتاتوريته، أصبحوا يمتلكون سيرة مهنية، أما نموذجهم التجاري، فيقوم على الترهيب والفساد، ونقطة اختلافهم مع الصحفيين، تكمن في أنهم يطالبون بالدفاع عن الحزب،  في حين أنّ الصحفيين والنشطاء الحقوقيين يطالبون بالدفاع عن الديمقراطية، وبالنسبة إلينا في أوروبا؛ إنّ تركيا نموذج للحزب الذي يصل عبر الديمقراطية إلى البرلمان، ليقوم بعدها بإخراس صوتها، إنّ الأمر يحدث بسرعة، فقد حقّق الرئيس ذلك في جيل واحد.

تركيا نموذج للحزب الذي يصل عبر الديمقراطية إلى البرلمان ليقوم بعدها بإخراس صوتها

إنّني لا أكتب عادة عن أناس لم أتلقَّ موافقتهم بعد، لكن منذ سجن دينيس، أكتب باستمرار عنه، فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولا الإذن بكتابة شيء، ولا يستطيع كتابة اعتراض؛ ففي الكتابة نشعر دائماً بالقلق من الذهاب بعيداً، فكيف يمكننا التذكير بإنسان وبقدره دون أن نسقط في الاختزال؟  وكيف نحول دون أن يظهر ذلك كخطاب جنائزي؟  كيف يمكننا أن نتحدث لأجله بدل الحديث نيابة عنه؟  كيف يمكن المحافظة على خصوصيته وفي الآن نفسه التعبير عن هويته؟ وأعني أنّه إنسان، ليس شيئاً، أو رمزاً، إنه يملك الحق في ممارسة حريته، والحق في معرفة القضايا المتابَع لأجلها.

إنّ سجن دينيس يشعرني بالخجل، فأنا لا أملك تفسيراً عقلانياً لما حدث، سيتحول الاستياء الأولي إلى غضب، والغضب إلى حزن، لينتهي الآن إلى خجل، فأنا يخجلني أنّه، وآخرون كثيرون غيره، سقطوا في وضعية، يشعرون فيها بأنّهم مضطرون للتعبير عن شكرهم لأولئك الذين يحملون رسائلهم إلى خارج السجن، ربما توجب عكس الآية؛ فمن يعش الحرية، يستفد من كفاح الآخرين من أجل الحرية، والذين يقدمون لأجل ذلك ثمناً غالياً، ليس هم من يتوجب عليهم التعبير عن شكرهم. أنا من يشكرهم.

ميلي كياك - كاتبة ألمانية من أصول تركية

عن صحيفة "دي تسايت" الأسبوعية الألمانية، عدد 20 ديسمبر 2017


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية