بيت غالب هلسا في مهب "خماسين" الإهمال والتقصير

الثقافة والأدب

بيت غالب هلسا في مهب "خماسين" الإهمال والتقصير


18/12/2017

مثلما يختلط الواقع بالأحلام في مؤلفاته، اختلط يوم موته بيوم ميلاده، ولأن الحياة لا تعفي من الموت، ولأن الكتابة مشروعٌ لا يكتمل أبداً، فإن ذكرى رحيله وميلاده معاً، التي تحل اليوم، تذكر بغربة كاتبٍ، ناضل في كل أرضٍ زارها، وكتب عن كل مدينة عاش فيها، رغم إن بعضها طرده. أما بيته الأول، الشاهد على بداياته، فلا يزال ملفوفاً بالإهمالِ والنسيان، حتى أضحى غريباً هو الآخر، وعاجزاً تحت وطأةِ التقصير، من الاحتفاظ بذكرى صاحبه.

يوم لا ينتهي

غالب هلسا "1932-1989"، الذي تصادف أن يلتقي يوما ميلاده ووفاته معاً "18 كانون الثاني (ديسمبر)" فبدا كأنه عاش يوماً واحداً طويلاً منذ لحظة ولادته إلى لحظة مماته، أمضاه يفكر، ويكتب، ويعمل على هدم الواقع الذي ظل بنظره ومن خلال مؤلفاته "مزيفاً"، وقابلاً كل لحظة لإعادة البناء بالأحلام، التي تتعلق في معظمها بالحرية، وتشكل إن وجدت وطناً للإنسان أينما حل، وغربة ومنفى له أينما ذهب، إذا فُقدت.

تتجه أعمال هلسا الروائية والقصصية إلى فضح الواقع من خلال تقصي الحقيقة، متجاوزاً ما هو سهل وواضح

الفتى الذي ينظر للواقع بعين ناقدة منذ طفولته، غادر بعد إنهائه دراسته الثانوية في مدرسة "المطران" بعمان، إلى بيروت، ليدرس الصحافة في الجامعة الأمريكية هناك، ولكن لم يمضِ عامٌ إلا واعتقل، وأعيد إلى الأردن حيث تم سجنه لفترة من الزمن بحكم انتمائه إلى الحزب الشيوعي، وهو ما تكرر معه بعد ذلك، من اعتقالات وترحيل، في العراق ومصر أيضاً، إلى أن تمكن من إنهاء دراسته للصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1958.

ورغم إنكار المكان للكاتب، سواء كان قرية أم مدينة، إلا إنه كان أول من بادر بترجمة "جماليات المكان" لغاستون باشلار، رغم اختلاف العديد من النقاد العرب بعد ذلك مع ما جاء في ترجمة هلسا من توظيف لمصطلح المكان، بدلاً عن "الفضاء"، إذ اعتبروا "المكان" أقل دعوةً للتأويل من الفضاء، لكن من يقرأ "الضحك" أو "الخماسين" لهلسا، فإنه يرى المكان من خلال الإنسان الذي يعبر به، أو يقيم فيه، ففي "الضحك" يكون المكان مؤثثاً بالترقب، أما في "الخماسين"، فإن الشخوص سرعان ما تتفكك، وتتغير، ولا يمكن تقصي أمكنتها بالفعل، إلا من خلال ما يعتمل في دواخلها من حنين أو يأس أو تفاؤل تشكل معاً صيغة نفسية تعبر عن المكان.

وتتجه أعمال هلسا الروائية والقصصية بصورة عامة، إلى فضح الواقع من خلال تقصي الحقيقة، متجاوزاً لما هو سهل وواضح، معبراً في أعماله التي وصلت إلى ثماني روايات، إضافةً لأعمال نقدية وقصصية أخرى عبر من خلالها عن إرادته في جعل العقل مرجعاً لتطور المجتمع، ومنتقداً بجرأةٍ التجربة الشيوعية التي انتمى إليها سياسياً.

بقيت أعمال هلسا تشي بحنينه إلى مخزن طفولته وأحلامه، إلى بيته الأول، الذي يتعرض اليوم إلى الطمس

أيضاً، عبر عن المجتمع بمختلف طبقاته، وعن واقع مدنٍ عربية مختلفة كبيروت وبغداد والقاهرة أثناء فترات الحرب والسلم، من خلال الإنسان البسيط، الذي يبحث دوماً عن شيءٍ مفقودٍ يحن إليه، سواء كان وطناً، أو حرية، أو امرأة كممها المجتمع، ومنع عنها الحب والهواء، كما منع عن الرجل أن يكتشفها من خلال الحب، وبقي يضع الفواصل بينهما، وهي ذات الفواصل التي أخرجته مع المقاتلين من بيروت بعد انتهاء اجتياح عام 1982، لتحمله الباخرة هو وأحلامه، إلى ميناء مدينة عدن.

بيت غالب هلسا لفه الإهمال والنسيان

طمس المكان يمحو ما كتبه هلسا

يوم أمس، أي قبل يومٍ على حلول ذكرى وفاته وميلاده، أعادت صور تم التقاطها لبيتِ غالب هلسا ومسقط رأسه في قرية ماعين قرب محافظة مادبا الأردنية، فتح جرح الكتابة والحياة اللذينِ عاشهما الروائي الأردني، وتنقل بهما من بلدٍ إلى أخرى، إلى أن عاد في نعشٍ إلى مسقط رأسه بعد وفاته في دمشق عام 1989، حيث إن الأردن، لم تحتفِ بطباعة أعماله الروائية قبل عام 2002، وهي سنة إعلان الأردن عاصمةً للثقافة العربية، كما إنها اليوم، تهمل بيت الكاتب، إلى الدرجة التي تحول فيها إلى "خرائب"، تشهد عليها الصور.

ورغم وجود مشروعٍ لإعادة ترميم بيت الكاتب، شرعت به رابطة الكتاب الأردنيين منذ عام 2011، وتحويله إلى متحفٍ وشاهدٍ ثقافي وتاريخي على هلسا وحياته، إلا أن هذا المشروع الذي أعلن عنه في حينه، ونشرت صحيفة "الغد" الأردنية تقريراً موسعاً حوله بتاريخ 5 تموز (يوليو) 2011، لم ير النور.

وكان هلسا، سكن أماكن عديدة منذ رحيله عن بيته في الأردن، منها السجن، أو تلك البيوت الضيقة البسيطة في مدنٍ ما كانت تتسع لأحلام يقظته التي وظف أعمقها وأكثرها اتساعاً في رواياته، كما إن أعماله بقيت تشي بحنينه إلى مخزن طفولته وأحلامه، إلى بيته الأول، الذي يتعرض اليوم إلى الطمس، دون أدنى اهتمامٍ  أن هذا الإهمال، يشير إلى قراءة رديئة وغير منصفةٍ لكل ما كتبه هلسا، حيث إنها تبدو محاولة محو أكثر منها محاولة قراءة، وإلا، فكيف يتم اليوم قتل المكان؟ الذي جاهد هلسا طوال حياته، حتى يبقيه حياً ومحاطاً بالحنين والحرية، على الورق، وفي الأرض.

التقصير وعدم الاكتراث قادا القمامة إلى البيت الذي ولد فيه واحد من أهم الروائيين الأردنيين


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية