تحرّر المرأة من عنفها

تحرّر المرأة من عنفها


11/11/2017

قد تستغرب بعض النساء المدافعات عن حقوق المرأة هذا العنوان العريض، وعلى وجه الخصوص النساء اللواتي يطالبن بالمساواة في الحقوق مع الرجال، واللواتي يعملن في حقل القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة، لكن المعايير التي فرضتها المجتمعات التقليدية على المرأة جعلتها تتماهى مع اضطهادها من قِبل الرجل وترضى بوضعها المتدني عن وضع الرجل.
لا يزال انتهاك حقوق الإنسان للمرأة أمراً مألوفاً، والفجوة الفاغرة بين إعلان القوانين وممارستها ما تزال شاسعة، وميثاق القضاء على سائر أشكال التمييز ضد المرأة أيضاً ما يزال عصيّاً على التطبيق في معظم المجتمعات المتقدمة. إذا نظرنا إلى وضع المرأة في المجتمعات التقليدية، وإلى أنماط السلوك الاجتماعية التي جعلت منها موضوعاً جنسياً بحتاً، متمركزاً حول الرجل وحول الجسد، والتي أقصتها عن ذاتها الحرة وكيانها المستقل، قد كرستها المرأة في نفسها بطريقة لا شعورية، وباتت تستخدم أمثالاً ومقولات شعبية صنعها الرجال تؤبد دونيتها وتحتم على الرجل إعلاء سلطته وهيمنته عليها، (إذا ماتت أختك ينستر عرضك، وإذا مات أخوك ينكسر ظهرك) (موت البنات من المكرمات).

على النساء نسف معايير المساواة القانونية في غير الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تكرس استضعاف المرأة

لذا تكمن حرية المرأة في تحررها من عبوديتها الذاتية أولاً، وهو الأهم، وتحرير الرجل من عبوديته لذكورته، هذا هو العنف بعينه، العنف الرمزي الذي يتحدث عنه "بيير بورديو" في كتابه (الهيمنة الذكورية)، ".. ما أسميه العنف الرمزي، هو ذلك العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي من ضحاياه أنفسهن (وأنفسهم)، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، أو أكثر تحديداً، بالجهل والاعتراف أو بالعاطفة حداً أدنى". فالنظام الاجتماعي الذكوري يريد تأكيد الهيمنة وفرضها بصورة مختلفة تتسلل إلى الأجساد وتتغلغل فيها، ومنها إلى المتخيّل الجمعي، وتجعل منها نتيجة طبيعية لحالة معينة، وأنّها تمتلك من الشرعية ما يكفي لفرض سلطة القوي وزيادة استضعاف الضعيف. فإذا أردنا ابتكار عالم متغير يعترف بالمرأة على أنها إنسان وليس الآخر المختلف، وليست الكائن الناقص، علينا نحن النساء أن ننسف معايير المساواة القانونية، في غير الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي بدورها تكرس استضعاف المرأة وتسقط عنها أنوثتها السحرية، وتجعلها امرأة مسترجلة في مجالات الحياة كافة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وننظر إلى معايير التكافؤ بين الرجل والمرأة في مجال الحياة العامة، وعلى المرأة أن تكون قادرة على صنع القرار والمشاركة فيه نداً للرجل، مع الحفاظ على أنوثتها الكاملة التي تعطيها الحق الكامل في العيش الحر والكريم، وعليها "أن تنظر بعينيها هي إلى العالم الذي يأبى أن يرى فيها غير امرأة" حسب تعبير جورج طرابيشي.
فإذا تحررت المرأة من عقدة النقص التي تواجهها تجاه نفسها أولاً، ثم تجاه الرجل ثانياً، ستنظر إلى العالم برؤية جديدة، لا تعكس أساليب الهيمنة والسيطرة عليها، إنما ستكشف النقاب عن جذور استعبادها وتعرّيها حسب تعبير "ستيورات مل"، الذي رأى  أن "نظام اللامساواة، الذي يجعل المرأة خاضعة للرجل (لم يكن) نتيجة للتفكير أو التروي أو بعد النظر، أو نتيجة لأية أفكار جماعية، عما هو صالح للمجتمع أو لخير البشرية؛ بل إنه انبثق ببساطة من واقعة أنه منذ الخيوط الأولى لفجر المجتمع البشري وكل امرأة تجد نفسها في حالة عبودية لرجل ما .

اضطهاد المرأة لا يأتي من الخارج فحسب؛ بل ينبعث من داخلها، فهي تحمل عوامل تقوقعها وانغلاقها وشعورها بالإثم منذ تفتح أنوثتها البيولوجية

وقبل ذلك بقرون، كان "ابن رشد" يعتقد أنّ المرأة والرجل يشتركان في النوع والطبع والكفاءات الذهنية والعملية وإن اختلفت عنه في بعض الخصائص والوظائف  . وقد عزا فقيه قرطبة حالة التردي التي كانت تعيشها النساء في المجتمع العربي المسلم آنذاك إلى "تصورات خاطئة موروثة من ثقافة قبلية أبوية تحرم المرأة من اكتساب الفضائل والمهارات عبر تجربتي التعلم الجاد والعمل الخلَّاق. وتغيير هذه الوضعية البائسة يقتضي تغيير وتجاوز تلك التصورات الخاطئة والمتحيزة ضد المرأة والتي لا بد أن تورث المجتمع كله الضعف المادي والمعنوي نظراً لكون النساء يشكلن أغلبية المجتمع" .
العنف المادي والمعنوي الذي كان ولا يزال يمارَس على المرأة، يهينها ويذلُّها، ويحول دون تفتح إنسانيتها واستقلال شخصيتها، استبطنته المرأة، على أنه "من طبيعة الأمور"، وراحت تمارسه هي نفسها على بناتها وأولادها، وعلى نظيراتها، على الرغم من تناقضه مع خصائص الأنوثة وحكمتها. فلا يمكن أن تتحرر المرأة من عنف الرجل قبل أن تتحرر من عنفها هي، وقبل أن تعي أنّ العنف نقيض الأنوثة في الرجل والمرأة على السواء، وكذلك كل ما ينجر عنه.
اضطهاد المرأة لا يأتي من الخارج فحسب؛ بل ينبعث من داخلها أيضاً، فهي تحمل عوامل تقوقعها وانغلاقها، وشعورها بالإثم منذ تفتح أنوثتها البيولوجية، باعتبارها شرف العائلة الممتدة، فتتنكر لأنوثتها، وهذا ما تعاني منه المراهقة في مجتمعاتنا المأزومة، ولا يعاني منه المراهق الذكر، لا ننكر أنّه مستبطن من الخارج إلى الداخل، لكن المرأة لم تعمل على إخراج ما بداخلها من إمكانيات تكافئ إمكانيات الرجل، اكتفت فقط بالصيحات النسوية وشعارات التحرر، والاسترجال للفت النظر إلى معاناتها، والاعتراف بدورها وأهليتها، لا سيما بعد أن نالت حق العمل والتعلم، ثم حق الاقتراع، وفق شروط المركزية الذكورية وقيمها. أمّنا الأنثى من كرّست فينا عبودية المرأة وذكورة الرجل.
أشكر الله أنني ولدتُ أنثى.
 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية