سواكن السودانية.. جزيرة الأساطير في قبضة "السّلطان"

سواكن السودانية.. جزيرة الأساطير في قبضة "السّلطان"


10/01/2018

على الساحل الغربي للبحر الأحمر شرقي السودان، تربض أرض مرجانية ساحرة بيضاوية الشكل تحفّها المياه على ارتفاع 66 متراً عن سطح البحر، وبمساحة عابقة بالتاريخ تبلغ 20 كيلومتراً مربعاً تفصلها عن العاصمة الخرطوم مسافة 560 كيلومتراً.. إنّها جزيرة سواكن الإستراتيجية التي غدت رمزاً لعجز الحكومة السودانية بعد أسلمتها بكل بساطة إلى تركيا نهاية العام 2017 خلال زيارة رجب طيب أردوغان الذي تعهّد بترميمها وتحويلها منطقة سياحية في صفقة غامضة لم يُعرف لها أجل.

تسمية تحفّها الأساطير

ارتبط اسم سواكن بروايات عديدة، أكثرها إثارة وانتشاراً بين السكان المحليين بصفة خاصة، أنّه مُحرّف من كلمة "سجون"؛ إذ يعتقدون أنّها كانت منفى وسجناً للإنس والجن في زمن النبي سليمان عليه السلام.

ولعلّ هذا ما جعل كثيرين يحيلون اسمها إلى الجن نفسه؛ فيعتقدون أنّه مشتق من كلمتين بالعربية السودانية الدارجة "سوّاها الجن"؛ أي أنشأها الجن، ثم لاحقاً توالت القصص والحكايات عن قطط سواكن الضخمة ذات العيون الخضر الواسعة المضيئة، التي تتحدث إلى بعضها البعض وإلى سكان المدينة بمواء فيه أنين وحنين، وتصطاد الأسماك بمخالبها الحادة وتضيء ظلمة الليل بأشعة ترسلها من عيونها المُتقدة.

تُعتبر جزيرة سواكن أقدم مدينة سودانية ويعود تاريخ تأسيسها إلى أقدم العصور قبل الميلاد

آخرون يسخرون من هذه الروايات ويعتقدون أنّ الاسم مشتق من "سكن" -بصيغة الجمع- وتعني مساكن؛ حيث كان السكان المحليون لساحل البحر الأحمر من قومية "البجا"، بدواً رُحّلاً ينصبون خيامهم أينما حلوا، ولم تكن لهم مدن أو قرى ثابتة، لذلك عندما نشأت المدينة بهذه الهيئة أطلقوا عليها اسم "سواكن".

ومنهم من ذهب إلى أنّ الاسم من أصل مصري قديم هو "شواخن" أي المحطة، وهناك من يعتقد أنّه يعود إلى أصل عربي مشتق من كلمة السوق لأهميتها التجارية.

بوابة كتشنر وجزء من بقايا السور القديم

أقدم مدينة سودانية

وتُعتبر سواكن أقدم مدينة سودانية، ويعود تاريخ تأسيسها إلى أقدم العصور قبل الميلاد، وقد حلّ بها البطالمة والرومان واليونانيون والأتراك والمصريون والحضارمة والأحباش وأهل غرب أفريقيا العابرون إلى الحج على مدى قرون طويلة، قبل أن تُحال إلى التقاعد بقرار سياسي يقضي بإنشاء ميناء جديد يبعد عنها 54 كيلومتراً، أصدره الحاكم الإنجليزي العام 1906، فكان أن تم افتتاح ميناء بورتسودان رسمياً في الأول من نيسان (أبريل) العام 1909 على يد خديوي مصر عباس حلمي الثاني؛ حيث استُقبِلَ بــ21 طلقة ونُظم بهذه المناسبة حفل رسمي على شرفِه.

كانت طريق هروب الأمراء الأمويين من بطش العباسيين ولم يمر بها أحد إلا وأراق مداده في سبيلها

مُذ ذاك، ورويداً رويداً بدأت الجزيرة المرجانية الرائعة تُهجر من قبل ساكنيها، فلا سفن ترسو ولا تجارة تروج، كل شيء رحل إلى الميناء الجديد.. لا عمل هنا ولا لقمة خبز عدا ما يجود به البحر من سمكٍ وملح.

ظلت جزيرة سواكن محط اهتمام واحتفاء المؤرخين والرحالة كابن بطوطة وصامويل بيكر وغيرهما، وتذكر المصادر التاريخية أنّها كانت طريق هروب الأمراء الأمويين من بطش العباسيين، ولم يمر بها أحد إلا وأراق مداده في سبيلها، فكتبوا عنها وعن تقلّباتها بين أيدي الملوك والحكام من كل حدب وصوب، فقد كانت مدينة للبطالمة ثم آلت للمماليك حين استولى عليها الظاهر بيبرس العام 1264، قبل أن يرحل منها إلى عيذاب ويتركها لأهلها البجا وأصهارهم الحضارمة، إلى أن جاء السلطان العثماني سليم الأول واختارها العام 1517 عاصمة لمديرية الحبشة العثمانية إلى جانب مدينتي حرقيقو ومصوع اللتين تقعان في إريتريا الحالية، ثم أُلحقت بأعمال الحجاز تحت إدارة قائمقامية جدة، حتى أصبحت تابعة لمصر العام 1865.

بيت أحد الأعيان في سواكن في الاربعينيات.

خليط سكاني عجيب

وسكان سواكن الذين يُقدَّر عددهم اليوم بما يزيد على 45 ألفاً يمثلون خليطاً عجيباً، فإلى جانب أهلها الأصليين (البجا) وأصهارهم الحضارمة، هناك الأحباش والحجازيون والمصريون والهنود والأفغان والأتراك والشوام واليونانيون والكريتيون والصقليون والتكارنة وقوميات أخرى يتعذر حصره. كل هذا الطيف البديع انصهر في بعضه عجيناً وهجيناً في بلدٍ تمثل القبيلة فيه مرجعاً مهماً لإثبات الهوية، فكان أن أُطلق على سكانها اسم السواكنيين أو السواكنية؛ فقد أذابت الهوية المدينية الواسعة كل الهويات القبلية الصغيرة فيها، وظلّ (السواكنية) يمثلون صفوة المتعلمين والتجار والأعيان في السودان منذ القدم وحتى الآن.

سكان سواكن الذين يُقدَّر عددهم اليوم بما يزيد على 45 ألفاً يمثلون خليطاً عجيباً من الأعراق والقوميات

تتألف سواكن من ثلاثة أقسام، يقع أولها على اليابسة ويعرف بــ"القيف"، فيما يشغل الثاني جزيرة سواكن الكبرى ومحيطها نحو 2500 متر، أما القسم الثالث فهي جزيرة الكنداسة التي تعتمد في اقتصادها على استخراج الملح، ومعظم مباني الجزيرة القديمة تقوم على طابقين أو ثلاثة، وتتخذ طرازاً معمارياً هجيناً بين التركي والحجازي والمملوكي تماماً كما الحال في مدينة جدة السعودية القديمة؛ إذ تتميز المنازل بالمشربيات والرواشين المصنوعة من خشب التِك، بجانب المساجد القديمة التي بنيت نهاية القرن التاسع عشر كالمجيدي والحنفي والشافعي.

ويظل قصر الشناوي بيه الذي بُنى في العام 1879 على النمط المصري، أشهر مباني مدينة سواكن، ويتألف من ثلاثة طوابق و365 غرفة بعدد أيام السنة الميلادية وغرفة ضيوف للرجال و"حرملك" للنساء.

مئذنة مسجد الشافعي

إهمال لا نظير له

تعرضت جزيرة سواكن بعد الاستقلال إلى إهمال لا نظير له من قبل الحكومات السودانية المتعاقبة على السلطة؛ فتهدّمت مبانيها وهجرها سكانها، حتى صار كل هذا التاريخ العظيم محض أكوام حجارة ملقاة على ساحل البحر تتلاطمها الأمواج، وكان بالإمكان ترميمها واعادة بنائها وجذب السياح إليها خاصة وأنها جزيرة الشعب المرجانية والشاطئ النظيف بامتياز.

غياب الإرادة السياسية وضعف خيال السياسيين السودانيين جعلهم لا يلتفتون إلى تراثهم العظيم، إلى أن زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذو التوجه العثماني الجديد السودان خلال الشهر المنصرم، فوجدها سانحة وضعها الزمن السياسي السوداني البائس بين يديه لقمة سائغة، فتلقفها بسهولة ويسر، فيما الكل غير مصدق أن تُهدى جزيرة تاريخية عريقة ذات موقع إستراتيجي لا مثيل له إلى دولة أخرى بدون مقابل وبدون أجل زمني مُسمى! وهذا ما صرح به الرئيس التركي حين قال: "طلبنا تخصيص جزيرة سواكن لنعيد إنشاءها وإعادتها إلى أصلها القديم وإدارتها.. والرئيس البشير قال نعم"، مضيفاً أن "هناك ملحقاً لن أتحدث عنه الآن"!

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية